سألتني بعض صديقاتي من القارئات: لماذا تُرجعين كثير من ظواهر انتقاص حقوق المرأة والتحرش بها وتعرضها للعنف والإساءة إلى الإطار الشكلي للمرأة وطبيعة زيها سواء كان النقاب أو الحجاب؟ ويتعجبن قائلات: إنهما في الأصل “النقاب والحجاب” موضوعان لحماية المرأة وصونها لا الحض من شأنها أو انتقاصها، وهما أيضا لمنع تعرضها للتحرش؟

ويزدن بأن الزي إطار شكلي، أي أنه مجرد مظهر، لا علاقة له بعقل المرأة وشخصها، وأيضا فعل إبداعها ومدى تحررها العقلي.

في هذا المقال سأحاول أن أجيب عن هذه الأسئلة وفق ما أرى، هذا بعد إضافة مجموعة من الأسئلة التفكيكية والتأسيسية الأخرى من قبيل: ماذا يعني ذلك الشكل (الحجب الكامل “النقاب” أو الجزئي “الحجاب” للمرأة ذاتها؟ أي كيف تنظر هي لذاتها وفق هذا الشكل، وكيف تتلقى شخصها في إطاره، وهل للشكل تأثير على الجوهر؟

 سؤال آخر مهم، هل يؤثر شكل المرأة المحجبة على توجيه بوصلة رؤية الأشخاص لها؟ هل النقاب أو الحجاب يحدد كيف يراها الآخرون، فيحصرونها في كونها أنثى وليس إنسانا متسع الطاقات والقدرات، كامل الحقوق والواجبات؟ وهل يمنع النقاب والحجاب الرجال من التحرش بالنساء؟

 ألا يؤثر أيضا هذا الشكل الذي يفرض حجبا على توجه وطريقة تلقي المجتمع للنساء، سواء على المستوى النفسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي في الحياة العامة؟ ولو كان هناك تأثير بالفعل فكيف يؤثر؟ وإلى أي مدى علينا أن نهتم بهذا التأثير؟

وفي تحديدنا لتلك المحاور الثلاثة لموضوع النقاش، ليتنا نؤسس منذ البداية لبعض القيم والأدوات المهمة لطرح القضية، ألا يمكن أن نتفق أن هناك طريقة موضوعية نناقش بها قضايانا بالمنطق والعقل، مستندين على العلوم الإنسانية والطبيعية التي تطورت، دون أن تكون مرجعتينا الوحيدة تأويل البشر للنصوص المقدسة، ثم تقديس هذا التأويل البشري وعده بمثابة التنزيل. أو النصوص المقدسة ذاتها حال التعامل معها حرفيا بدون النظر لمقتضيات تاريخية الظواهر وفعل التطور؟ فأوضاع المرأة في اللحظة الحاضرة تستوجب إعادة النقاش حول الكثير من المسائل المتعلقة بها.

 وأن تكون أرضية حواراتنا أن هناك فرقا بين المعاني العقائدية، والمعاني التي فرضها السياق التاريخي ويمكن تطويرها بما يتلاءم مع تصحيح أوضاع جائرة، في نقاشات متحضرة ومستندة إلى حقائق، وليس إلى ادعاء تعمد مخالفة النصوص، والتكفير، والتراشق بالاتهامات.

كما أؤكد منذ البداية على أن النقاب والحجاب ليسا مقابلهما التعري أو الابتذال، فالأمر والقضية أبعد من هذا التسطيح أو التطرف في الحجب أو التعري، القضية في اختيار ما يتسق مع المرأة ومع اقتناعاتها، يظل المهم أن تكوني أنتِ، وأن يعبر مظهرك عن شخصيتك دون أن يُفرض عليك زيك ومظهرك. فحريتك في ملابسك وشكلك لا تنفصل عن حريتك في الحركة والدراسة والعمل واختيار شريك الحياة، حريتك في القول وممارسة الحياة العامة، فالترفع والحرية والأخلاق تكوين داخلي، عقلي ونفسي لا ينفصل عن الزي أو الشكل، الزي أو الشكل هو استكمال لما يستقر بداخلنا من قيم وتقدير للجمال والرقي أو عدمه، لا ما يفرض علينا أو نتصور أنه الضمان لأماننا.

 (1)

في علم النفس هناك ما يسمى بــ “تأثير التهيئة” adapting ، وهو آلية بسيطة تعمل بفاعلية عميقة في النسق الثقافي الواعي، وغير الواعي لدى الإنسان والمجتمع، أي على مستوى العقل الفردي والجمعي أيضا، فتحت تأثير تكرار النظر إلى صورة أو مشهد وتغليبه على نطاق الرؤية واسعة الامتدادات، ثم اتساع مداه الشكلي بتحققه في أعداد كبيرة تصبح هذه الصورة نموذجا يؤسس ليس لشكل المرأة ووجوب ثباته وتنميطه فقط بل لأوضاعها بصفة عامة، فالشكل أول ما يعزز الإدراكات الوجدانية للشعور، فصورة المرأة المنقبة، أو المحجبة، يوحي بأنه ينبغي أن تكون المرأة هكذا، أن تكون مغطاة، وأن أي شكل آخر لها يَعد خروج عن الأصل. كما يوحي أيضا بأنها فضلا عنها كونها امرأة محملة بتاريخ من التمييز ضدها، مجرد أنثى وموضع فتنة، وهو ما يدعو الآخرين لحصرها في هذا النطاق المغلق، ومن ثم محاولة الاستحواذ عليها واستخدامها للتمتع بها، هذا الموقع الذي يحصرونها فيه يصبح هو واقعها الطبيعي الشائع الذي يمتد تأثيره على المعاملات معها، وتحديد حقوقها وواجباتها.

ويتجسد الخطر الأكبر في حرص الجميع طيلة الوقت على إخفاء هذا الجسد، وكأنه ليس ملكا لها، وخاص بها، وهي من تحدد طريقة ظهوره وفق رؤيتها لذاتها، فالرجال هم من يحددون لها ماذا تفعل أو يسمح لها بكشفه أو إخفائه، حيث يصورونه بتضمنه لألغام تُوقع بالرجال، ولذا يجب التعامل معه بمحاذير محددة.

 فعلى مستوى رؤية المرأة لذاتها أولا، يحجّم ويقلص النقاب والحجاب تعبيرك عن خلقتك وشخصيتك وذاتك، يضعونك في “مساحة التهيئة” التي أول أبوابها ومداخلها الشكل والزي، يدفعونك تحت دعاوى الحفاظ عليك ــ وهم في الحقيقة يحافظون على ملكياتهم الخاصة التي حصلوا عليها منذ القديم ــ لأن تدخلي هذه الخيمة المظلمة التي ستنعكس عليك وعلى رؤيتك لذاتك، ورؤية الآخرين لكِ، ربما تجدر الملاحظة هنا إلى أن الحجاب لم يسن في الإسلام إلا بعد محنة حديث الإفك الخاص بالسيدة: “عائشة” و”صفوان بن المعطل”، في السنة السادسة من الهجرة، في نهاية غزوة بني المصطلق، وضَرب الحجاب يُعد تقليد جديد لم يكن موجود من قبل. “سيرة ابن هشام”

 فمن خلال الشكل والزي يسربون لك تحجيم نفسك وقيدها، والانتقاص من حرياتك وحقوقك وطموحاتك، ومن ثم تحديد مساحة وجودك ذاته، فجسدك عورة، وصوتك عورة، ووجهك أيضا عند بعض السلفيين عورة. ما حدث في الواقع بين التيارات الإسلامية أن هناك مزادا مقام دائما لإخفاء أكبر عدد من أجزاء المرأة وحسبانه عورة، ولمّ لا، فلو الأمر بيدهم، ولو أنهم لا يحتاجون المرأة كانوا على الأرجح قد خططوا لتصفيتها من الحياة!؟ فلقد تم التوافق فيما بين الرجال على الاستئثار بالحياة العامة والملكيات، وصمتت النساء أو أُخرسن تحت تهديدات كثيرة ليس هذا محلها.

علينا أن نشير إلى أن بيان الخلقة الطبيعية، ووضوحها، وحرية تنفسها للحياة، وخاصة الوجه والرأس واليدين هي الأصل الطبيعي الذي خُلقنا عليه، خلقتنا التي تميز امرأة عن أخرى، مثلنا مثل الرجال، مثل الإنسان بصفة عامة. أي أن من حق المرأة ــ فردا إنسانيا ــ أن يكون هناك ما يميزها، وأن يظهر هذا التمييز للآخرين، حيث أنه يحقق فردانيتها التي هي حقها، وأن القيد أو التغطية ليسا من الطبيعة ولا الخلقة التي عليها أن تكون واضحة.

في الفلسفة الحديثة تحت مسمى “الذهن المتجسد” يطرح (جورج لايكوف ومارك جونسون) فكرة أن العقل ليس متحررا من الجسد كما اعتقد التقليد الفلسفي الغربي بشكل واسع.

فالعقل ينشأ من طبيعة أدمغتنا وأجسادنا، ومن تجربتنا الجسدية. وهذا لا يعبر عن الفكرة البديهية التي تقول إن العقل لابد له من جسد، بل عن الفكرة المناقضة التي تقول إن بنية العقل نفسها تنشأ من تفاصيل تجسدنا. فالآليات العصبية والمعرفية التي تتيح لنا أن ندرك وأن نتحرك، هي نفسها التي تخلق أنسقتنا التصورية، وتخلق صيغ تفكيرنا. وعليه، فلكي نفهم العقل، علينا أن نفهم تفاصيل نسقنا البصري، ونسقنا الحركي، والآليات العامة للترابطات العصبية. وبإيجاز، فالعقل ليس ــ بأي حال من الأحوال ــ سمة متعالية عن الكون أو الذهن المتحرر من الجسد بل أنه يتشكل بصورة حاسمة بخصوصيات أجسادنا البشرية، وبالتفاصيل الاستثنائية للبنية العصبية لأذهاننا، وبمميزات اشتغالنا اليومي في العالم.

لقد أوردت هذا المقتطف من موقع “آفاق فلسفية” لأدلل على أن هذا التعتيم الذي يمارس على جسد المرأة بقوة الآخرين ويجعلها ترى ذاتها وتستشعرها وكأن بها ما يستحق أن يحجب عدا الطبيعي ضرر يطال كينونتها، وطبيعة تفكيرها في نفسها وفي العالم من حولها، ضرر يجعلها غير متحققة بانطلاق يوازي قدراتها البشرية.  

فرض الحجاب على المرأة هو التهيئة النفسية الأولى التي يبدأ من خلالها يتقلص كيانها، ومع الوقت تصبح مجرد أداة لإسعاد الرجل وخدمته، فتصدق هذه الدعاوى، وتعُدها دورها الأهم بالحياة، تظن نفسها وسيلة للإنجاب لبقاء ذكرى الرجل وامتداده في الزمان عن طريق حمل أولاده لاسمه، فتحت مقولة هذه سنن الحياة، تصبح المرأة معطي عام للرجل والأسرة دون أي مكتسب لها، أو تحقيق لذاتها الإنسانية الخاصة بها كفرد.

فقبل أن تكوني أنتِ باختيارك وحرياتك بأي شكل من الأشكال وتخوضين غمار الحياة يفقدونك مقومات تفردك وعلاماتك المميزة كإنسان، وهو ما ينعكس على شخصك فتضيع رغباتك الخاصة، وقدراتك الأخرى؛ لتدورين في فلك الآخرين عداكِ، فتصبحين تابعا للزوج الذي يضعونه في مقام بعد الله مباشرة رغم أنه بشر، الطبيعي في الكائن الإنساني أنه يملك نفسه وجسده، ما ليس طبيعيا أن يحدد الرجل للمرأة أحوال حياتها وكأنه هو من يملكها، مع ملاحظة أن المجتمع يربيها وهي لا تملك، دون أن يشعرها أنها لا تملك.

للشكل تأثير مذهل في الحفاظ على ثبات الأشياء واتخاذ طابعها الذي يتعارف عليه الناس، حيث يمكن للإنسان أن يتحايل على المضمون والجوهر ويظل كامنا في سريرته، لكنه إن تجرأ على الشكل نال من سخط الآخرين مالا يستطيع تحمله، فبإمكان الإنسان أن يصلي ويعبد الله أو لا يعبده، لكن لو فكر أن يأتي على بيت عبادة ليهدمه هنا يهب الجميع ويدافعون عن العلامة، عن الشكل، لأن الشكل في الواقع يحمل مدلولاته الواسعة التي هي المضمون والجوهر.

ونستكمل في المقال القادم.