خلال العقود الثلاثة الماضية، حلت زراعات جديدة، مكان أخرى اعتمدت عليها الأراضي المصرية لمئات السنيين، من بينها زراعات استراتيجية، كالقمح والقطن وقصب السكر، ما أثر على قدرة مصر على إنتاج غذائها، وهو ما يتجسد في نقص إنتاج محصول القمح بشكل مطرد خلال السنوات الماضية، محملًا البلاد عبء نقدي كبير لاستيراد نحو 60% من احتياجات مصر من القمح، كما تأثرت زراعة القطن في علاقة تبادلية مع صناعة النسيج، بغلق وتصفية العشرات من المصانع.

القمح

 لعقود أو لنقل لقرون طويلة لم تتغير ثقافة الغذاء في مصر، فلدى المصريين أي شيء “في رغيف” هو طعام كافٍ لسد جوع أبنائهم. اعتمدت صناعة الخبز المنزلي في الريف المصري حتى خمسينيات القرن الماضي على الذرة الصفراء أو الذرة الشامية “رغيف البتاو” ولم يوجد رغيف الخبز القمحي إلا على موائد الأعيان، ونادرًا ما كانت تخلط الذرة بقليل من القمح لإعطاء الخبز بعض اللدونة.

مع اهتمام الدولة الناصرية بالتنمية الزراعية وتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، حل رغيف الخبز المصنوع من القمح شيئًا فشيء محل “البتاو” وبات الأخير من النادر وجوده.

وحتى منتصف تسعينيات القرن الماضي اعتمد سكان الريف على أنفسهم ذاتيًا في توفير القمح من أراضيهم وكذلك في صناعة رغيف الخبز منزليًا، وكان شراء الخبز المدعوم من المخابز حتى وقت قريب أمر معيب لأن معناه أنهم ما عادوا يملكون غلالٍ لـ “ستر” منازلهم، لكن تلك الثقافة تغيرت تمامًا خلال الثلاثة عقود وبات غالبية الريف يعتمد بشكل أساسي على شراء الخبز المدعوم حكوميًا، ولم يبقى إلا نسبة ربما تبلغ ربع سكان الريف هم من يزالون ينتجون خبزهم بأيديهم.

وتراجعت نسبة إنتاج مصر من القمح قياسًا بالاستهلاك، حيث بلغ استهلاك مصر من القمح 22 مليون طن خلال 2019، أنتجت الأراضي المصرية ما يقرب من 9 ملايين طن وتم استيراد ما يزيد عن 13 مليون طن من عدة دول في مقدمتها روسيا.

القطن

ارتبط الفلاح المصري منذ القرن الثامن عشر بزراعة القطن، في علاقة مصيرية حددت لعقود طويلة مستوى معيشته ومنبع سعادته أو شقائه، وارتبطت مواسم الزواج في الريف بمواسم جني وبيع الذهب الأبيض.

نافس القطن المصري مزارع القطن في أمريكا والهند، وتفوقت مصر في فترات كثيرة على الولايات المتحدة في إنتاجه، وراحت مصر تطور من قدرتها على إنتاج القطن وزيادة محصولها فأسست الجمعية الزراعية نهاية القرن التاسع عشر، وأنشأت قسم النباتات بوزارة الزراعة في بداية القرن العشرين 1913، وتراجعت زراعة القطن في مصر متأثرة بالأزمة الاقتصادية العالمية عام 1929.

وخلال فترة الأربعينيات من القرن العشرين، احتل القطن المكانة الأولى في الإنتاج الزراعي، وانتشرت مصانع الغزل والنسيج، والمحالج، ومع حلول الفترة الناصرية حرصت مصر على الحفاظ على أهمية القطن كزراعة استراتيجية، وسلعة تصديرية مهمة، إضافة لكونه مرتكز غاية الأهمية للصناعة المصرية في مجال النسيج، فتوسع عبد الناصر في مصانع الغزل، وحرص على زيادة إنتاجية القطن من خلال سياسة الدورة الزراعية.

ومع سياسات الخصخصة وبيع القطاع العام، وتصفية العديد من الشركات ومن بينها مصانع الغزل والنسيج، تدهورت زراعة القطن، إلى إن وصل الفلاحين لعزوف شبه كامل عن زراعته، بسبب انخفاض أسعاره وزيادة تكلفة الزراعة.

الزراعات البديلة

في الوقت التي تحتاج فيه مصر لمزيد من إنتاج المحاصيل الاستراتيجية، وخاصة القمح لسد الفجوة الاستهلاكية، شهدت السنوات الماضية عزوف الفلاحين أصحاب المساحات الصغيرة والمتوسطة عن زراعة القمح متوجهين إلى زراعات جديدة ذات عائد ربحي أكبر مثل النباتات الطبية والعطرية، والسمسم، أما بالنسبة للمستثمرين الزراعيين وأصحاب المزارع الكبيرة فإن التوجه ناحية زراعة الحاصلات التصديرية من الفاكهة، والخضروات والعائلة الصليبية، واضحًا منذ البداية.

يقول المهندس الزراعي، علاء أبو جليل، “لا يمكن تحديد حجم التراجع فكل عام هناك تغير في مساحة الأراضي المزروعة وأنواع الزراعات، إلى أن المنحنى يميل للانخفاض”، مضيفًا: “الأسباب تنحصر في عائد المحاصيل، هناك محاصيل عائدها أكبر من الزراعات التي تعتبر محاصيل استراتيجية، كانوا في الماضي يضربون مثال شهير “نزرع فراولة ولا قمح؟”، الآن ليست الفراولة وحدها، تعددت المحاصيل البديلة لزراعة القمح والقطن والذرة، وتكون الإجابة بالطبع ودائمًا لصالح الزراعات البديلة والتي تحقق عائد أكبر للفلاح“.

ويستكمل “أبو جليل”: “عشرات الزراعات أضيفت إلى خريطة الزراعة في مصر في العقود الأخيرة، مثل النباتات العطرية والطبية، ومحاصيل العائلة الصليبية: كـ”الكابوتشا والبروكلي، والقرنبيط” سواء للتصدير أو للسوق المحلي، إضافة للتوسع في زراعة البطيخ “الكوتش” والذي يستخرج منه أنواع من لب التسالي“.

غياب الدعم

وعن أثر غياب دعم الفلاح ودور الجمعيات الزراعية في عزوف الفلاحين عن زراعة المحاصيل الاستراتيجية، يرى “أبو جليل”، أن هناك دعم صوري للفلاح، فالجمعيات الزراعية بها أقسام للميكنة والإرشاد ولكنها لا تعمل، المنظومة كلها اختلفت، أضف إلى ذلك ارتفاع أسعار التقاوي واقتراب أسعار السماد المدعوم إلى الأسعار الحرة، ما يزيد من تكلفة الزراعة ويقلص من هامش ربح الفلاح في ظل تدني الأسعار المحددة من قبل الدولة سواء للقمح أو القطن.

توجه المستثمرين

ويروي “أبو جليل” واقعة حدثت أمامه لأحد أصحاب المزارع، عندما تخلف عن تصدير طلبية من “الكابوتشا” ورجعت الشركة عليه بالشرط الجزائي، ورفضت أن يرسلها بعد الموعد المحدد، فأمر عمال المزرعة بدفنها، ورفض رأي مشرفي المزرعة بتوزيعها في السوق المحلي خوفًا من “ضرب السعر”، وتساءل “أبو جليل”، هل مثل هذا المستثمر سيهتم بالمحاصيل الاستراتيجية أو احتياجات مصر منها؟

فساد

يضيف “بالنسبة للقمح فوزارة الزراعة تقول إنها تتجه لزراعات ذات ربحية أكبر وتدر عوائد نقد أجنبي، يمكنها من تعويض النقص في محصول القمح وشرائه، وأنه ليس هناك أزمة، هذا كلام على الورق يبدوا صحيحًا، ولكن ما يتم عكس ذلك فندخل في سلسلة من عمليات فساد في الاستيراد وإجراءات الموانئ والشون والتخزين، وساحات المحاكم مليئة بقضايا فساد تخص مراحل استيراد القمح.

انخفاض كارثي

وكشف تقرير للجنة تنظيم تجارة القطن بالداخل، التابعة لوزارة التجارة والصناعة، صدر في مايو الماضي، عن انخفاض المساحات المنزرعة بالقطن في مصر بنسبة 57% حيث بلغت 102 ألف فدان خلال العام الحالي 2020، فيما بلغت في العام الماضي 2019 نحو 237 ألف فدان، مرجعة سبب هذا الانخفاض الكارثي إلى عدم وضوح السياسات السعرية وانخفاض سعر شرائها من الفلاحين، مطالبة بتحديد سعر عادل يحقق للفلاح هامش ربح، حتى لا يستمر في عزوفه عن الزراعة.

وتوقع تقرير صادر عن وزارة الزراعة الأمريكية في شهر أبريل الماضي، تراجع إنتاج مصر من القطن خلال الموسم الحالي 2020، إلى 936.2 ألف قنطار، بانخفاض نسبته 30% عن العام الماضي 2019، وأرجع التقرير انخفاض الإنتاج نتيجة وجود مخزون من المواسم السابقة ما أدى لانخفاض الأسعار عام 2019 لنحو 2100 جنيه للقنطار، ما ثبط الفلاحين عن الزراعة في العام الجاري.

تغيير التركيب المحصولي

‏‪ وأكدت دراسة أصدرها المركز المصري للدراسات الاقتصادية، ضرورة إعادة النظر في التركيب المحصولي للدورة الزراعية للعام المقبل 2021، بحيث يتم تأمين أكبر كم ممكن من احتياجات مصر من المحاصيل الاستراتيجية محليًا تحسبًا لأي ارتفاعات مستقبلية في الأسعار أو أي قيود تصديرية يفرضها منتجو المحاصيل الاستراتيجية وأهمها القمح، ولكي يتم ذلك بشكل يحقق الكفاءة الاقتصادية المطلوبة.

اقترحت الدراسة تطبيق ما تم من بحوث سابقة لزراعة القمح في المناطق الساحلية بحيث يمكن زيادة الرقعة الزراعية من القمح دون أن يكون ذلك على حساب زراعات أخرى تتمتع مصر في إنتاجها بميزة نسبية عالية، إضافة لتطبيق نظام التعاقدات المسبقة للمحاصيل الهامة والاستراتيجية، بأسعار عالية تحقق هامش ربح معقول للفلاح وتجعله يقبل على زراعتها، ومتابعة عمليات الزراعة لضمان زراعة المساحات اللازمة لإنتاج كميات كافية تساهم في الاقتراب من الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الاستراتيجية.