لم يكن قبول عدد من الأحزاب التي تصف نفسها بـ”المعارضة”، المشاركة في قائمة انتخابية واحدة مع حزب “مستقبل وطن” الذراع البرلماني للسلطة، سوى نوع من أنواع الاستسلام والإذعان، في معركة سياسية تحتاج إلى قادة يعرفون ما هو الإطار المرجعي في مفاوضات استمرت أكثر من 6 أشهر، وانتهت بقبولهم الفتات وتذيل قوائم حزب السلطة في انتخابات مجلس الشيوخ.

خلال جلسات ما يسمى “الحوار الوطني” التي أجريت نهاية 2019 وبداية 2020، رهنت أحزاب “المصري الديمقراطي الاجتماعي، والعدل، والإصلاح والتنمية، والمحافظين”، مشاركتها في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة على مجموعة من الشروط التي اعتبرتها إطارا مرجعيًا لاستكمال المناقشات التي دعا إليها حزب “مستقبل وطن”.

الإفراج عن كوادر أحزاب المعارضة الذين تم حبسهم قبل عام إثر محاولاتهم تأسيس تحالف انتخابي يشاركون به في انتخابات البرلمان المقبلة أطلقوا عليه “تحالف الأمل”، كان أول شروط أحزاب المعارضة التي شاركت في جلسات حوار “مستقبل وطن”، أما الشرط الثاني فكان الاتفاق على نظام انتخابي عادل يسمح بتمثيل كافة أطياف المجتمع ويتسق مع مبدأ التعددية والتنوع، وتمسكت أحزاب المعارضة برفض نظام “القائمة المطلقة المغلقة” التي تهدر نحو نصف أصوات الناخبين وتجعل البرلمان بغرفتيه منبرا للصوت الواحد والرأي الواحد.

مَثل هذان الشرطان الإطار المرجعي في مفاوضات “المعارضة” مع حزب “مستقبل وطن” الذي وعد بالبحث والدراسة وعرض الأمر على أصحاب الأمر، لكنه وبعد طول انتظار فاجأ الجميع بتقديم مشروع لتعديل قوانين الانتخاب يضرب فكرة التمثيل العادل في مقتل، وبالفعل مررت الأغلبية البرلمانية التعديلات المقدمة التي تم تفصيلها ليستمر البرلمان بغرفتيه ذراعا للسلطة التنفيذية وصوتا لها يمرر لها ما تريد ويغض الطرف عن تجاوزاتها.

أما الشرط الثاني فحدث ولا حرج، لاتزال كوادر أحزاب المعارضة وغيرهم المئات من أصحاب الرأي في السجون، رغم مرور شهور على وعود إطلاق سراحهم، ورغم المرونة التي أبداها قادة المعارضة في العديد من القضايا السياسية.

شروط أحزاب المعارضة للمشاركة في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، تم طيها ورفعها على الرفوف كما رفُعت من قبل كل وعود الإصلاح وفك الحصار عن الحريات السياسية والإعلامية، وإنهاء حالة الاحتكار والهيمنة والإقصاء والانفراد التي تتبعها السلطة منذ سنوات، ومع ذلك لم تقبل بعض أحزاب المعارضة بالمشاركة في العملية الانتخابية وحسب، بل قبلت تذيل قوائم خصمها الذي حنث بوعوده وعمل على إقصائها مستخدمًا في ذلك كل الموبقات السياسية.

ما يحدث ذكرني بأزمة سياسية جرت وقائعها في مصر في عشرينيات القرن الماضي، عندما حاول الملك فؤاد تعطيل الحياة النيابية وإلغاء دستور 1923 الذي قيد صلاحياته وجعل الأمة مصدرًا لكل السلطات وصان الحريات العامة وأرسى مبدأ الفصل بين السلطات.

تبدأ وقائع القصة عندما حاول الملك استغلال الأزمة التي أعقبت اغتيال السير لي ستاك سيردار الجيش المصري، وقبل استقالة سعد باشا زغلول رئيس الحكومة، وكلف زيور باشا بتشكيل حكومة جديدة، وكان أول قرار لوزارة زيور باشا هو تأجيل انعقاد البرلمان ثم إصدار مرسوم بحله.

وقبل أن يدعو زيور باشا إلى الانتخابات الجديدة، ألغى قانون الانتخاب على درجة واحدة، وأقر قانونًا جديدًا يعيد الانتخابات على درجتين، وتلاعب في قانون الدوائر حتى يحاصر مرشحي حزب “الوفد”، في الانتخابات التي أجريت في 12 مارس عام 1925.

ورغم ما مارسه إسماعيل صدقي باشا وزير الداخلية حينها من عمليات تزوير ضد مرشحي “الوفد”، إلا أن الأخير تمكن من حصد أغلبية مريحة وهو ما أحرج رئيس الحكومة أمام ولي نعمته، وقبل أن ينتهي البرلمان من انتخاباته الداخلية، وبعد نحو 9 ساعات من انعقاده، صدر مرسوم ملكي بحله متضمنًا الدعوة إلى انتخابات جديدة، الأمر الذي دفع البلاد إلى أزمة عاصفة، فعمت المظاهرات الشوارع وأعلنت معظم فئات الشعب التمرد على محاولات وأد التجربة النيابية الوليدة.

واجهت الحكومة غضب الشارع بقمع غير مسبوق، وأمعنت في اضطهاد المعارضين، ومنعت الاجتماعات العامة، وأغلقت وعطلت العديد من الصحف، وحاصرت منزل سعد زغلول الذي صار قبلة لكل فئات الأمة.

تحدى نواب البرلمان قرر الحل، وتحايلوا على قرار إغلاق مقر المجلس، بالاجتماع في فندق الكونتيننتال، وأعلنوا رفضهم لكل الإجراءات التي اتخذتها الحكومة، ودعوا إلى مقاطعة العملية الانتخابية التي ستجرى وفقا للقانون الذي أقرته الحكومة.

لم تلتفت حكومة زيور باشا لاجتماع النواب ولا للقرارات التي صدرت عنه، ولا للغضب المتصاعد في الشارع، “مركز الوزارة ثابت ولن نرد على قرارات الأحزاب لأنها لا وجود لها من الواجهة البرلمانية”، هكذا صرح زيور باشا عندما سألته الصحافة عن اجتماع الأحزاب.

زاد من سخط الشعب على الحكومة توقيعها اتفاقية في 6 ديسمبر سنة 1925 مع إيطاليا التي كانت تحتل ليبيا في ذلك الوقت، تنازلت بمقتضاها عن واحة جغبوب بإيعاز من الحكومة البريطانية التي أرادت أن تجامل إيطاليا على حساب مصر.

حاصرت الضغوط الوزارة والسراي، وصارت الدعوة إلى عودة الحياة النيابية مطلبًا عامًا التف حوله النواب والأحزاب والطلبة والعمال وعدد من أمراء الأسرة الحاكمة، وتحت هذا الحصار اضطرت الحكومة إلى استصدار مرسوم بتعديل قانون الانتخاب في 8 ديسمبر، ضيقت فيه حق الانتخاب ووضعت فيه شروطًا مالية على المندوبين الذين لهم حق الانتخاب.

ويقول المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في الجزء الأول من كتابه “في أعقاب الثورة المصرية”: جاء صدور هذا القانون بعد تسليم واحة جغبوب ثاني جريمتين ارتكبتهما الوزارة قبل سقوطها، فاحتجت الأحزاب ورفضت الاتفاقية والقانون الذي اعتبرته مشوهًا ومحاولة للالتفاف على إرادة الشعب”.

وفيما شرعت وزارة الداخلية بعد صدور قانون الانتخاب في إرسال الدفاتر والأوراق الخاصة بتنفيذه إلى المديريات والمحافظات لتحرير جداول الانتخابات الجديدة، سرت في الأمة فكرة مقاطعة العملية الانتخابية التي تصر الحكومة على إجرائها، تأييدًا لقرار أحزاب “الوفد” و”الوطني” و”الأحرار الدستوريين”، وبالفعل امتنع عدد كبير من العمد عن تجهيز مقار الانتخاب وتحرير الكشوف الانتخابية وفقا للقانون الذي فرضته الحكومة.

كانت البداية في مركز تلا بالمنوفية، حيث أعلن عمد المركز عدم تنفيذ الأوامر التي خاطبتهم بها وزارة الداخلية، وأرسلوا بذلك برقية إلى الوزارة التي أوفدت مندوبا إلى مديرية المنوفية ليخير موقعي البرقية بين العدول عن الإضراب أو العزل من العمدية، فأصر 10 منهم على الإضراب، فصدر قرار الوزارة بعزلهم من مناصبهم، فاشتعل الموقف وأعلن بقية عمد المركز تضامنهم مع زملائهم وأعلنوا استقالاتهم من العمدية، وسرى الخبر في باقي مديريات مصر وأعلن المئات من عمد القرى تأييدهم لمقاطعة الانتخابات.

استشعرت حكومة زيور أن حالة التمرد والعصيان ستتمدد إن لم تتدخل سريعا، فقررت إحالة العمد الممتنعين عن تنفيذ القانون إلى محاكم الجنح لعقابهم بموجب المادة 108 مكرر من قانون العقوبات والتي تقضي بمعاقبة الموظفين أو المستخدمين إذا اتفق ثلاثة منهم على ترك العمل بدون مسوغ شرعي.

انتصر القضاء لموقف العمد المشرف، وأصدر حكمه بالبراءة، ما شجع باقي العمد على إعلان العصيان، فأحيلوا إلى النيابة العامة التي أحالتهم إلى المحاكم فحكم القضاء ببراءتهم أيضًا.

تعددت مظاهر الاحتجاج في مدن وقرى مصر، وشجع موقف الأمراء والأحزاب والعمد، الشعب على التحرك ضد تعطيل السراي للحياة النيابية، وفي محاولة لتهدئة الشارع تدخل اللورد لويد المندوب السامي البريطاني الجديد، وأشار على الملك فؤاد بإقالة حسن نشأت باشا رئيس الديوان الملكي وصاحب اليد الطولى على الوزارة، والأداة التي كان فؤاد يتدخل من خلالها في شئون الحكم، فيقيل وزراء ويعين غيرهم، ويصدر مراسيم ويفرض إجراءات، فحول الحكومة إلى خيال مآته ترى وترقب ولا تتحرك.

أدت الأحداث إلى تقارب بين أحزاب “الوفد” و”الأحرار الدستوريين” و”الوطني”، وسعى سعد باشا زغلول إلى دعم تلك الروح واستغلالها في الخروج بمواقف موحدة، فدعا أعضاء ونواب الأحزاب الثلاثة إلى اجتماع في النادي السعدي مساء 11 ديسمبر من عام 1925، وانتهى الاجتماع بتأسيس لجنة تنفيذية تضم قادة الأحزاب لتنظيم جهودها المشتركة.

صدر أول بيان عن تلك اللجنة بعد أيام تدعو فيه إلى مقاطعة الانتخابات التي قررت الحكومة إجراءها على أساس قانون الانتخاب الجديد، ودعت إلى عقد مؤتمر وطني عام لبحث أدوات مواجهة “عبث يد الاستبداد بالدستور والتلاعب بالتشريعات”.

وفي عصر الجمعة 19 فبراير من عام 1926 عُقد المؤتمر الوطني بحديقة منزل محمد محمود باشا، وشارك فيه أعضاء مجلس النواب الأخير ومجلس الشيوخ وأعضاء مجالس إدارات الأحزاب المؤتلفة وأعضاء مجالس المديريات ووزراء سابقون، وبلغ عدد الحضور 1097 من السياسيين والحزبيين والمهتمين بالشأن العام.

ترأس سعد باشا المؤتمر وتصدر المنصة الرئيسية وجلس إلى جانبه عدلي باشا يكن، وعبد الخالق ثروت باشا، وألقى رئيس المؤتمر كلمة ذكر فيها الحضور باعتداء زيور باشا وحكومته على الدستور والحياة النيابية، وشدد على ضرورة توحيد صفوف الأحزاب، وعرض مقترح إجراء الانتخابات الجديدة على أساس قانون 1924.

انتهى المؤتمر بإصدار مجموعة من القرارات على رأسها رفض التصرفات التي أقدمت عليها الحكومة بالمخالفة للدستور، ودعوة الأمة إلى التعجيل بالانتخابات البرلمانية على أساس القانون القديم، وضرورة تأليف وزارة جديدة موثوق بها بعد انعقاد البرلمان الجديد، على أن يتم توقيف النظر في الميزانية وعدم صرف أي اعتماد لا يكون واردًا في ميزانية الدولة، حتى تتألف الحكومة الجديدة وينعقد البرلمان الجديد.

وأمام تمسك الأحزاب بمواقفها، ودعم معظم فئات الشعب لها، أذعنت الحكومة لقرارات المؤتمر الوطني، وصدر يوم 22 فبراير مرسومًا جديدًا بإجراء الانتخابات طبقًا لأحكام قانون الانتخاب المباشر، على أن تتم العملية الانتخابية في 22 مايو سنة 1926.

أجمعت الأحزاب المؤتلفة على ألا تتنافس في تلك الانتخابات حفاظًا على وحدة الصفوف، ومنعًا للفرقة والانقسام، واتفقت على توزيع الدوائر فيما بينها على أن يتعهد كل حزب بألا يترشح أحد من أعضائه في الدوائر التي خصصت لغيره، ووقع على الاتفاق سعد زغلول عن “الوفد” ومحمد محمود عن “الأحرار الدستوريين” ومحمد حافظ رمضان عن “الوطني”.

حصل “الوفد” في تلك الانتخابات على 165 مقعدًا، وحصل “الأحرار الدستوريين” على 29، وخمسة للحزب الوطني، فيما حصد المستقلون 10 مقاعد، وتمكن مرشحو حزب الاتحاد الموالي للسرايا من حصد 5 مقاعد.

إثر تلك النتيجة تقدمت حكومة زيور باشا باستقالتها، وبدأت مفاوضات تأليف الحكومة الجديدة، وأبدى سعد باشا زعيم الأغلبية رغبته في التنازل عن رئاسة الوزارة رغم حصوله على أغلبية مريحة، واتفق مع عدلي يكن وعبد الخالق ثروت على تأليف وزارة ائتلافية بين الوفديين والدستوريين يرأسها عدلي باشا، فيما امتنع الحزب الوطني من المشاركة لـ “مخالفة الوضع الوزاري لمبادئه المعروفة مع قيام الاحتلال” وفقا لما أورده الرافعي في كتابه.

وفي 7 يونيو من ذات العام صدر المرسوم الملكي بتأليف الحكومة الجديدة برئاسة عدلي باشا يكن النائب المستقل الذي اختاره زعيم الأغلبية، وشارك فيها وزراء عن حزبي “الوفد” و”الأحرار الدستوريين”.

كُلل نضال الأمة باجتماع البرلمان في 10 يونيو من عام 1926 برئاسة حسين باشا رشدي رئيس مجلس الشيوخ وحضر الملك فؤاد جلسة الافتتاح، وتلا عدلي باشا خطابا نوه فيه إلى ضرورة تثبيت الحياة الدستورية، “اعتزمت حكومتي أن تجعل الروح الدستورية قاعدة الحكم وأساس الحريات العامة، كما اعتزمت تقوية نظام الحكم الدستوري وتثبيت أصوله وتوطيد تقاليده”.

واجتمع مجلس النواب وانتخب سعد باشا رئيسًا، وعقب انتخابه ألقى كلمة أشار فيها إلى وجوب وضع حد للاعتداء على الدستور، “أدعوكم إلى التفكير في وضع تدابير تشريعية لوقاية هذه الحياة الدستورية من التعطيل مرة أخرى، فحياة الأمم تحت حكومة مطلقة ليست حياة مطلقًا، وإنما الحياة هي التي يشعر فيها كل فرد من الأمة أنه ليس خاضعًا إلا لأمر واحد هو الدستور والقانون”.

هكذا خاضت الأحزاب معاركها، قاومت وتصدت وتمكنت من جمع فئات الشعب حولها وأرغمت الملك وحكومته على الإذعان لمطالبها المشروعة، وكان ذلك دليلًا قويًا على تمسك المصريين في هذا التاريخ المبكر بتأسيس الدولة الحديثة القائمة على الدستور والقانون والحرية.