حالة من الاضطراب في النوم ترادوها مشاعر غريبة تطرأ على قلبها ولا تعلم أسبابها، وكيف تتخلص منها، تظل لأيام تبحث عن الأسباب فلا تجد الإجابة المناسبة، حتى ينصحها أحد الأصدقاء بضرورة التوجه إلى طبيب نفسي، يساعدها على تفسير حالتها، وإيجاد حل لها.

تلجأ علا شهبة إلى تأمينها الصحي الذي يوفر لها طبيبًا نفسيًا، فقد كانت تقيم حينها في المملكة المتحدة، التي توفر لها تأمينًا صحيًا يشمل الطب النفسي، وبالفعل لجأت إلى الطبيبة النفسية التي بدورها سألتها عما مرت به من أزمات خلال الفترة الماضية.

بدأت “علا” في إخبار الطبيبة بالنكبات النفسية التي تعرضت لها بسبب وفاة أحد الأقارب بمرض السرطان، لكن الطبيبة لم تبدأ فورًا بالعلاج النفسي، فقد فضلت أن تقوم بإجراء فحوصات عامة في البداية، حتى تطمئن أن صحتها على ما يرام، ولم تتعرض لأي مشاكل عضوية.

عادت السيدة الأربعينية إلى مصر قبل ثورة يناير، وبدأت رحلة البحث عن طبيب نفسي من جديد، لكن الأمر لم يكن بالسهولة التي كانت تتخيلها، فقد بدأت تبحث عن نفس صفات الطبيبة الإنجليزية في مصر حتى وقع الاختيار على طبيب رأت أنه مناسبًا.

سنوات من المتابعة مع الأطباء النفسيين مرت بها تلك السيدة، ولم تستقر على طبيب واحد بسبب ظروف متنوعة، منها المادية وبعد المكان، كلها عوامل كانت تحكم أمر الاستمرار في العلاج، لكن أكثر الأمور تعقيدًا هو الأمر المادي، فكانت دائمًا ما تحسب التكلفة المادية حتى لا تضطر إلى الانسحاب وإيقاف الجلسات قبل إتمام رحلة العلاج.

تقول “شهبة”:” تختلف أسعار الكشف والجلسات بين أطباء الطب النفسي”، لكنها تتذكر جيدًا أن آخر جلسة حضرتها مع طبيب نفسي كان سعرها 450 جنيهًا من أعوام قليلة سابقة، في الوقت الذي يخبرها أصدقاؤها بأن سعر الجلسة حاليًا 800 جنيه.

ترى “علا” أن للطب النفسي أهميته المماثلة لكل أقسام الطب، وأن المرض النفسي لا يقل خطورة عن الأمراض العضوية، لذلك تتمنى أن يكون هناك تأمين صحي يشمل هذا وذاك، حتى يتمكن الجميع من العلاج النفسي دون حرج أو تفكير في تكاليف العلاج.

لم تختلف رحلة “شهبة” مع الطب النفسي في مصر كثيرًا عما عانت منه “تهاني لاشين” التي لازالت تلجأ لأصدقائها حتى تستكمل رحلة علاجها، رغم أن هذا الأمر مخالف تمامًا لقواعد مهنة الطب النفسي.

تقول “تهاني”: “أعاني من مشاكل نفسية منذ سنوات، لكن بسبب أسعار الكشف والجلسات التي تصل لمئات الجنيهات أتراجع كثيرًا عن اللجوء إلى الطبيب، حتى عرضت عليّ بعض الصديقات التي كانت تعمل طبيبة نفسية المساعدة”.

وتضيف: “أعلم أنه غير صحيح اللجوء لأصدقاء للمساعدة النفسية، لكن لم يكن أمامي سوى هذا الحل، خاصة أنني عاطلة عن العمل، وبدأت أفكار الانتحار تطاردني”.

تعرف “تهاني” جيدًا أنه ليس من الأفضل التوجه إلى طبيب نفسي تعرفه، سواء قريب أو صديق، لكنها تذهب مضطرة حينما يضيق بها الحال، وترى أن حالتها بدأت في التدهور، ولا تملك حق العلاج الباهظ والمكلف جدًا والذي غالبًا لا تستطيع تحمله.

في المقابل لا تعلم “تهاني” عن الخدمات الصحية النفسية التي تقدمها وزارة الصحة شيئًا، كما أنها تتخوف عادة من خطة الوزارة العلاجية، فهي تملك خلفية سيئة عن المستشفيات الحكومية ولا تعرف إن كانت توفر هذا النوع من العلاج في الأساس أم لا”.

بحسب المركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية، ارتفعت نسبة المرضى النفسيين في مصر حتى وصلت إلى 14% بين البالغين، لتصل أعدادهم إلى أكثر من 8 ملايين شخص يعانون من اضطرابات نفسية.

فيما أشار المركز، إلى أن 60% من المصابين بالأمراض النفسية يفكرون في الانتحار، بالإضافة إلى أن 18% ينفذون جرائم، ما يدق ناقوس الخطر حول هذا النوع من الجرائم.

يُذكر أن الأمانة العامة للصحة النفسية وعلاج الإدمان، وهي الجهة المسؤولة عن 18 مستشفى حكومي متخصص في الدعم النفسي في مصر، قد أعلنت عن خدمة الدعم النفسي عبر نفس الرقم من قبل مرضى الاكتئاب في صفحتها على “فيس بوك”، حيث درّبت 150 أخصائيًا نفسيًا على تقديم الدعم النفسي للمواطنين عن بعد، بحسب بيان سابق للأمانة.

ورغم ذلك المجهود، لم يستفد من تلك الخدمة المجانية سوى 830 مواطنًا فقط، طوال عام 2018، أي بمعدل نحو مكالمتين يوميًا، بحسب بيان رئيسة الأمانة العامة للصحة النفسية وعلاج الإدمان.

يُظهر آخر مسح لوحدة الأبحاث بالأمانة العامة للصحة النفسية، والذي اعتمد على مقابلات مع 22 ألف أسرة من جميع محافظات مصر، أن واحدًا من بين كل أربعة مواطنين في مصر معرض للإصابة باضطراب نفسي.

الاكتئاب كان أكثر الاضطرابات انتشارًا في المسح، وأوصت نتائج المسح الصادر في عام 2017 بتكراره مرة أخرى للحصول على نتائج أدق والتوصل إلى أسباب تلك النتائج.

ترى نهى النجار، الأخصائية النفسية، أن مظلة العلاج النفسي في مصر واسعة جدًا وتتدرج أسعارها حسب القدرة المادية لكل مواطن، ووفقا للمنطقة السكنية الموجودة بها عيادة الطبيب، فالأحياء المعروف عنها غلاء أسعار إيجارها، من الطبيعي أن يكون سعر الفحص مرتفعًا نظرًا للإيجارات، وبالمثل في عيادات المناطق السكنية منخفضة الأسعار، تكون تذكرة الطبيب بسعر أقل.

وتضيف: “أنه بالرغم من أن الوعي لدى المواطنين ارتفع فيما يخص الإقبال عن العلاج النفسي، إلا أن الكثيرين حتى الآن لا يبدأون في العلاج بسبب الشائع عن ارتفاع التكلفة المادية للعلاج النفسي، لكن أرى أن المرض النفسي لا يقل أهمية عن العضوي ويجب الاهتمام به لأن عواقبه وخيمة جدًا”.

وتشير الأخصائية النفسية، إلى الخدمة الصحية التي تقدمها وزارة الصحية في مجال العلاج النفسي، وتؤكد “أن أسعارها منخفضة جدًا، حيث سعر الكشف بجنيهات قليلة وفي متناول الجميع، وبالتالي من لا يستطيع المتابعة مع الأطباء في عياداتهم، فعليه التوجه إلى المستشفيات التي خصصتها وزارة الصحة”، مؤكدة على أن تلك المستشفيات تقدم خدمة علاجية متقدمة للمرضى.

من جانبه يرى هاشم بحري، أستاذ الطب النفسي في جامعة الأزهر، أن التوعية لازالت غائبة عن مجتمعنا فيما يخص العلاج النفسي، ولازالت الوصمة المجتمعية تلاحقه، الأمر الذي يجعل المريض يضع أمامه مبررات عدة حتى لا يبدأ في خطوات العلاج.

وأكد أن المستشفيات الجامعية وغيرها من التي تتبع وزارة الصحة تقدم خدمة صحية نفسية هائلة، لكن المواطنين يخشون الوصم في حالة التوجه لها، مضيفًا أن تلك المستشفيات بها كوادر طبيبة ممتازة متعاونة من أجل شفا المرضى.

وينهي أستاذ الطب النفسي حديثه، متمنيا بأن يغير الفن والإعلام أسلوب تناولهم للمريض النفسي في الأعمال الدرامية، التي تسخر من المرض والمرضى مما يساهم في نشر الوصم المجتمعي والخوف من خطوة العلاج، مضيفًا: “يجب أن يكون هناك إعلام يتحدث عن أهمية الطب النفسي والخدمات التي تقدمها وزارة الصحة في هذا الشأن لدفع المواطنين للإقدام عليه”.