“يا ولاد يا ولاد.. تعالوا معانا”، من منا لا يعرف هذا الشطر من أغنية التتر للبرنامج الإذاعي الشهير “غنوة وحدوته”، الذي قدمته الإذاعية الشهيرة فضيلة توفيق المُلقبة بـ”أبلة فضيلة”، والذي استعرضت من خلاله قصة قصيرة تحتوي على قيمة أو هدف تزرعه في الأطفال بشكل غير مباشر، وكان يليه أغنية تخدم نفس فكرة الحلقة.

وتنوعت الأهداف ما بين قيم الصدق والحب والأمانة وغيرها، تربى على هذا البرنامج أجيال هم الآن في طور الأجداد فقد بدأ عرضه في عام 1959، واستحوذ على نسب عالية من المتابعة على مدى سنوات كثيرة.

ليس برنامج أبلة فضيلة فحسب، الذي ارتبطت به أجيال عديدة، بل هناك برامج كثيرة أخرى، فعلى الرغم من أن هناك أكثر من 800 محطة إذاعية في البلدان النامية وفقاً للتقرير الصادر عن منظمة اليونسكو أواخر عام 2016، وبالرغم من الشعبية الكبيرة التي حققتها البرامج التي يتم عرضها إلا أن ثمة فجوة حالية حدثت بين الأطفال والإذاعة بكل ما تُقدمه، فنادراً ما يعرف الأطفال البرامج التي تُعرض في الإذاعة، أو جدول مواعيدها، أو أشهر المذيعين، فلم يعد هناك التفاف للأطفال حول الراديو كما عهدت الأسر المصرية قديماً، يرجع الأمر لأسباب بعضها يتعلق بالأسرة وابتعاد الآباء والأمهات عن الراديو بسبب الوسائل الإعلامية الأخرى، وأسباب أخرى تتعلق بالمجتمع ككل، وهو ما يؤثر سلباً على الأطفال خلال مراحل حياتهم .

أطفال لا تسمع

كغيرها من الأمور التي نمى تطورها كثيراً وفاق المعقول فظهرت بوادر مشكلاته، كان للتكنولوجية وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة تأثيراتها السلبية على مستقبل الراديو، وهو ما قاله محمود البديني أستاذ علم نفس الطفولة.

ويوضح البديني، أن الطفل في مراحل محددة من تربيته يحتاج إلى تعلم الاستماع للطرف الآخر، وآداب الإنصات الجيد، بشكل علمي وهو ما يساعد فيه الراديو كثيرًا، ووظيفته الرئيسية كانت تنمية تلك المهارة، وهو ما يفقده الأطفال غير المنتمين لعالم الراديو.

ويُضيف البديني، أن الكثير من الآباء والأمهات يتسببون في حدوث العديد من المشاكل لدى أبنائهم، حيث يلاحظ الأطفا الآباء، وهم جالسون طوال اليوم أمام شاشات الهواتف الذكية الصغيرة أو أجهزة الحاسوب، وبالتالي وفقًا لنظريات التعلم لدى الأطفال هم يتعلمون بالملاحظة والتقليد، فيشب الأطفال كآبائهم، محبين للعالم الرقمي فيبدأ الأطفال من عمر 5 أو 6 سنوات يطلبون عمل صفحات خاصة بهم، على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، وتبدأ حالة من الإنفصال الجزئي عن الأسرة.

ويتابع أستاذ علم نفس الطفولة، الطفل له هاتفه وعليه البرامج التي يتعامل معها يشاهد من خلالها برامج وأغاني أطفال مختلفة، كلها قائمة على الرسوم المتحركة، وجميع البرامج المعتمدة على الاستماع فقط لا تجذب الكثير من عقل الأطفال نظرًا لأن العين أكثر قدرة على لفت الانتباه من الأذن خاصة لدى الأطفال، موضحًا أن دور الآباء والأمهات يبدأ من مراحل مبكرة ليزرعوا في الأطفال حبهم للراديو كوسيلة في توصيل المعلومة والترفيه في آن واحد.

ثورة الإنترنت

إيرينا بوكوفا المديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للثقافة والتربية والعلوم بمنظمة اليونيسكو، قالت في حديثها عن الإذاعة: ” إنه في الأوقات العصيبة والأحوال العسيرة، يُعد الراديو هو المحفل الدائم القادر على الجمع بين مختلف الأفراد والجماعات وتظل الإذاعة في جميع الأحوال والأوقات، سواء أكنّا في طريقنا إلى العمل أم في مكاتبنا أو منازلنا أو حقولنا، وسواء أكنّا في زمن السلم أم الحرب أم في حالات الطوارئ، مصدرًا مهمًا للغاية للمعلومات والمعارف عابرًا مختلف الأجيال والثقافات”.

هل من الممكن أن نقيس مقولة إيرينا، على الوضع الراهن وسط كل ما تشهده الدول والمجتمعات من تطور تكنولوجي على مدار الساعة؟ سؤال يعد محيرًا للغاية، فبالرغم مما يتميز به الراديو من سرعة في نقل الحدث المباشر، بأقل الإمكانيات، وهو ما يجعله في صراع دائم لجذب الجمهور مع ثورة الإنترنت الكبيرة، الجملة الأولى التي قالتها مها بهنسي مذيعة الراديو الشهيرة، موضحة أن إشارات الراديو لا يوجد أمامها حدود، تستطيع أن تعبر البحار والجبال من دولة لدولة تنقل الثقافات بدون حواجز فيمكن سماعه ومتابعته في أي وقت وأي وضع كان عليه الإنسان خلال السير أو العمل او قيادة السيارة أو خلال الطبخ.

وتتابع مها بهنسي: “لا يتعارض سماع الراديو مع أي نشاط يقوم به الفرد، وهو ما يميزه عن غيره من وسائل الإعلام والإعلان، على نقيض التليفزيون والصحف، ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى التي تقتضي من الفرد أن يتفرغ لها ليتفاعل معها او يتابعها بتركيز”.

وتقول منال صلاح أستاذ علم النفس الاجتماعي، إن هناك ميزة أخرى للراديو وهي أنه يعتمد على الصوت البشري فقط كآداة للتواصل مع الجمهور، يتجنب بذلك مقدمي البرامج جميع المشكلات التي ربما يقع فيها مقدمو برامج التلفاز وهي ضرورة وجود القبول على الشاشة، وتوظيف حركات الجسد واللغة التعبيرية للوجه، مما يجعل اهتمامهم بتوظيف الصوت لخدمة توصيل المعلومة او الهدف من كل برنامج فحسب.

هنا القاهرة

لا يمكن لأحد أن ينسى صوت المذيع أحمد سالم، أول مذيع بالراديو المصري، والذي نطق جملته الشهيرة “هنا القاهرة”، كجملة افتتاحية في يوم البث الأول للإذاعة المصرية عام 1934، ثم تم اعتمادها لتكون العبارة الرسمية لبدء إرسال جميع الإذاعات.

من وقتها شكلت البرامج الإذاعية وعي ووجدان المواطنين، وكانت مصدرًا للتثقيف والترفيه في آن واحد، ومن أهم تلك البرامج “كلمتين وبس” للفنان القدير فؤاد المهندس، وبرنامج “على الناصية” للإذاعية آمال فهمى، وبرنامج “طريق السلامة” للراحلة آيات الحمصاني، وبرنامج “إلى ربات البيوت” وكانت تقدمه الإعلامية صفية المهندس، بخلاف برنامج “ساعة لقلبك” الذى كان يقدمه أمين الهنيدي، وعبد المنعم مدبولي، وفؤاد المهندس، ومحمد عوض، وخيرية أحمد، وغيرهم من نجوم الكوميديا المشهورين في هذا التوقيت، وإلى الأن يتم عرض بعض من تلك البرامج إلا أن طبيعة المستمعين هي التي اختلفت، فقديما كانت جميع فئات الشعب تسمع بداية من الأطفال وحتى الأجداد ، أما الآن فالأجداد وقليلاً من الآباء هم المستمعون ونادراً ما يقترب الأطفال من الراديو فلم يعد أداة جذابة بالنسبة لهم، مقارنة بالتلفاز والإنترنت ومواقع السوشيال ميديا المختلفة.