قد يحكم الملك المملكة، لكنها الملكة من تحرك اللوحةمثل إنجليزي يوضح أهمية المرأة وحقيقة دورها الذي يتوارى خلف الضعف أحيانًا والهدوء أحيانًا أخرى، هذه الحقيقة التي أدركتها الحركات الدينية المتطرفة وعملت على استغلالها، ولكن مع ترويض المرأة حتى لا تخرج عن الحدود المرسومة لها.

ولأن المرأة هي حصان الشطرنجلدى تلك الحركات المتشددة، فهي القادرة على تنفيذ أي أمر وتجاوز أي عائق والعودة لموقعها عند الحاجة.

داخل أحد المساجد الكبرى، وفى زاوية صغيرة منه، أخذت تلملم أوراقها المتناثرة وتجمع كتبها الصغيرة، وتودع مقعدها الذي صاحبها طوال رحلتها الدعوية، بعدما انتهت مهمتها التي وكلت بها سنوات عدة، بصدور الأوامر بوقف عمل الداعيات السلفيات إلا عدد قليل منهنمن تقديم الدروس الدينية.

وبينما كانت تتحسس حقيبتها المحملة بعشرات الكتب، قالت هبة المحمدى اسم حركىإحدى الداعيات السلفيات، أنها لن تمارس دورها الدعوى مرة أخرى، بعدما عاد المسجد الكبير في منطقة سيدي بشر بالإسكندرية لحصر الدروس الدينية على الشيوخ فقط، ووقف عمل الداعيات حتى إشعار أخر، الأمر الذي جاء عقب قرار غلق مراكز إعداد الداعيات التي كانت قد انشأتها الحركة السلفية بالإسكندرية بصورة غير رسميةلإعداد المرأة لأن تكون داعية.

أغلقت هبةالغرفة الصغيرة التي كانت تقدم بها دروسها الدينية داخل المسجد، وفتحت بابًا للتساؤل حول مصير تجربة الداعياتولماذا حُكم عليها بالفشل، وهل ستعود للظهور من جديد أم أنها انتهت للأبد.

بداية رحلة الداعيات السلفيات

بدأت رحلة الداعيات السلفيات أواخر التسعينيات من القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة، بعد أن طفت العديد من النماذج النسائية على الساحة الدعوية وحققن نجاحًا كبيرًا، وجذبن مئات النساء إلى عالم الدين، بل وهددن عرش الرجال في قيادة الدور الدعوى، واعتلين منابر الوعظ وحظين بالتفاف كبير حولهن، وباتت الشاشات ووسائل الإعلام تتسابق للفوز بظهور تلك الشخصيات، ومن أبرزهم الدكتورة عبلة الكحلاوي، والدكتورة آمنة نصير، والدكتورة سعاد صالح، والدكتورة نادية عمارة، هذا بخلاف الشخصيات الشهيرة مثل الحاجة ياسمين الخيام.

زاد من قوة الظهور النسائي في عالم الدعاة، انضمام العديد من الشخصيات الشهيرة إلى هوجة الحجاب، الأمر الذي جعل فكرة الداعيات رائجة داخل الحركات المتشددة، خاصة السلفية، التي كانت تبحث عن فرصة للظهور بجانب تنظيم الإخوان، لتجد ضالتها عند الورقة الرابحة دائما نساء الحركةليبدأن دورًا جديدًا ومحطة جديدة من محطات استغلالهن لتحقيق غايات أبعد ما يكون عن خدمة الدين.

لم يكن التيار السلفي من التيارات التي تمنح المرأة أدوارًا ذات قيمة، بسبب نظرة الانتقاص من القدر التي طالما يرونها بها، لذلك لم يكن السماح لهن بالدخول في عالم الدعوة سهلًا، خاصة مع وجود حالة تخوف من انتفاضة نسائية داخل التيار السلفي تهدد شرعهم المبني على الحط من قيمتها.

ولأنهن حديثي العهد في مشاركة المرأة بصورة مباشرة في عمل دعوى، قررت الحركة السلفية عمل دورات تثقيف للنساء قبل إلحاقهن بالعمل الدعوى، تمهيدًا للزج بهن أعلى المنابر الدعوية، هذا التثقيف القاصر على دور المرأة في بيتها، وفقه المرأة، وشرح بعض الأحاديث، ومبادئ السمع والطاعة والولاء والبراء، دون التطرق للقضايا الخلافية مثل المشاركة السياسية أو حقوق المرأة.

وكان يتم عمل دورات الثقيف تحت إشراف أحد الشيوخ السلفيين، ومن ثم تقوم الكوادر النسائية التي تم إعدادهن بتقديم دروس في المساجد السلفية للنساء، والرد على استفساراتهن.

ومع انتشار الفكرة، بدأ إعداد مراكز دعوية لزيادة عدد الداعيات وتوسيع دائرة العمل الدعوى الخاص بهن، وكانت تدار في إطار لجنة الأخواتوكانت من أشهر المشرفات عليها حنان علام، والتي شغلت منصبًا سياسيًا بحزب النور السلفي فيما بعد، كما تم إلحاق عددًا منهن في معاهد إعداد الدعاة التابعة لإشراف وزارة الأوقاف، للقيام بمهام عملهم بالمساجد التابعة للدولة وبصورة رسمية.

أسباب ظهور الداعيات

لم يكن العمل الدعوى هدفًا في حد ذاته من ظهور الداعيات السلفيات، ولكنها كانت مجموعة من الأهداف الأخرى التي فرضتها ظروف المرحلة التي شهدت صعودًا للتيارات المتشددة ومشاركتها في الحياة السياسية.

وكان أولى مهام الداعيات السلفيات، نشر المنهج السلفي بين النساء، خاصة أنه كان حديث العهد في الظهور مقارنة بالفكر الإخواني الذي كان أكثر انتشارًا، وكان نشر المنهج السلفي تمهيدًا لظهور هذا التيار على الساحة بعدما ظل عقودًا أسير للعمل السري.

كذلك استقطاب قواعد من النساء كان من أبرز أدوار الداعيات السلفيات، وكان أحد مؤشرات نجاح التيار السلفي في التغلغل داخل المجتمع، بخلاف التقرب أكثر من المجتمع ومعرفة تفاصيله للتمكن من اختراقه بناء عن التقارير التي تقدمها الداعيات من خلال المشكلات التي ترويها النساء، وكيف يتم النظر للتيارات الدينية وأيهما أكثر تأثيرًا، ثم تطور دور الداعيات ليصل إلى اختيار الشخصيات التي يمكن قيادتها للاستفادة منها في الجانب السياسي للتيار السلفي، والذي تمثل في حزب النور بالإسكندرية، كما كان التشكيك في الخطاب الديني الرسمي، من أهم أدوار الداعيات السلفيات، خاصة المنضمات للمساجد الرسمية.

تقسيم الداعيات

تم تقسيم الداعيات السلفيات إلى قسمين، الأول خاص بداعيات الصف الأول، وكان دورهن جذب نساء الطبقة الأولى للانضمام للتيار السلفي، ونشر ثقافة النقاب بين طبقة الأثرياء، وداخل مساجدهم، وهو ما كان يعد مهمة شاقة كانت تتم تحت إشراف الشيوخ الكبار للتيار السلفي مثل أبي اسحاق الحويني وياسر برهامي.

أما الصف الثاني، فهم داعيات القواعد الشعبيةوكانوا ينتشرون بالمساجد السلفية والزوايا الصغيرة بالمناطق الشعبية، حيث كان دورهن الرئيسي إعداد ظهير شعبي للتيار السلفي، وقد استطعن تحقيق نجاحًا كبيرًا، حيث انتشر النقاب بصورة كبيرة في المناطق الشعبية، وترددت أفكار التيار السلفي بالشريحة المتوسطة، وانتشرت كتب شيوخ السلفية أمثال محمد حسان ومحمد حسين يعقوب ومصطفى العدوى ومحمود المصري، بخلاف قطبي التيار السلفي ياسر برهامي والحويني، وذلك بين أوساط البسطاء.

وعن تأثير الأخوات في عملية جذب النساء، قالت آية نور الدين «اسم مستعار» والتي انضمت للعمل التنظيمي للدعوة السلفية حتى 2015، أن التأثير كان قوىا، فكانت اللقاءات الدينية التي تديرها الأخوات تزيد عدد المشاركات فيها يوما بعد يوم، وكان يتم تكليفنا بعمل تقارير عن أداء كل مسجد، وعدد النساء «المواظبات» على حضور الدروس الدينية، والفتيات من سن إلى 20 عام، وكان يتم تصعيد الداعيات المميزات في هذا الشأن وفقا للتقارير الصادرة عنهم، وعن عدد المنضمات الجدد. 

فشل التجربة

لم تكن تجربة الداعيات السلفية، كنظيرتها في تنظيم الإخوان، حيث حققت الأخيرة نجاحًا كبيرًا ساعد التنظيم في تكوين ظهير نسائي كبير، أما السلفيات فكان الأمر مختلف، حيث كانت الأفكار السلفية المتشددة، سببًا في العزوف عن التيار وتكوين القواعد الشعبية ولكن بصورة بطيئة، هذا بخلاف عدم الإعداد الجيد للداعيات السلفيات، خاصة في قضايا حقوق المرأة والمشاركة السياسية.

ما جعل الحركة السلفية تصدر تعليماتها بوقف عمل مراكز إعداد الداعيات السلفيات، والاكتفاء بالداعيات المتواجدات حاليا، وهو القرار الذي صدر نتيجة للعديد من الأسباب، في مقدمتها خفض التمويل الخليجي، خاصة القادم من السعودية للتيار السلفي في مصر، والذي وصل لأدنى مستوياته بعدما تعرض التيار السلفي للانقسام عقب ثورة 30 يونيو.

200 مليون جنيه

كانت لجنة تقصى الحقائق التي شكلتها حكومة عصام شرف، حول التمويلات الخارجية، كشفت حصول الدعوة على 200 مليون جنيه تمويلا عن طريق مؤسسة الشيخ عيد بن آل تان، بخلاف تمويلات أخرى ذكرها التقرير، بجانب ما اثير من المنشقين عن الدعوة من تبرع أمير كويتي بثلث ثروته للتيار السلفي في مصر تسعينيات القرن الماضي، وهو ما كشفته الجهات الأمنية ومنعته، وما أكده ثروت الخرباوى، المنشق عن جماعة الإخوان، من حصول العديد من شيوخ التيار السلفي في مصر وعلى رأسهم الشيح أبى إسحاق الحوينى ومحمد حسين يعقوب ومحمد حسان على ملايين الجنيهات دعما لهم من منظمات سلفية سعودية، ما يشير لحجم التمويلات غير الرسمية التي كان يحصل عليها هذا التيار، والتي كان يخصص جزء منها للأخوات

الباحث في شئون الجماعات الإسلامية ياسر فراويلة، أكد أن التمويلات انخفضت بصورة كبيرة بالتزامن مع الثورة، وتوقفت الجهات المانحة في الإمارات والكويت من دعم التيار السلفي، والذي كان يتنافى مع خطط الخليج في إعلاء دور المرأة وتبني ثقافة جديدة تقوم على التنوير والانفتاح، خاصة في المملكة السعودية.

وقال “فراويلة” أن العديد من المنظمات والهيئات الخليجية كانت تمنح التيار السلفي تمويلًا سنويًا لتنفيذ أجندة نشر الفكر السلفي المنتشر في الخليج داخل مصر، وإفريقيا، وهذا عبر قادته مثل محمد حسان والدعوة السلفية بالإسكندرية وحازمون، وكانت تخصص لعدة أهداف منها بناء المساجد السلفية ونشر المنهج السلفي والانفاق على الدور الدعوى والتعليم وتقديم المساعدات للفقراء، ومؤخرًا كان دور النساء الدعوى، وعندما انخفض التمويل أثر على كافة جهات الإنفاق خاصة المتعلق بالمرأة.

لكن “آية”  قالت إن الإنفاق في الدعوة السلفية على الأخوات لم يكن كبيرًا، حيث تختلف السلفية عن غيرها من التيارات الأخرى من ناحية الإنفاق المالي، لذا كانت لجان الأخوات أقل بند في ميزانية الدعوة، وكانت تقتصر على الأنشطة واللقاءات التي تجمع الاخوات والمساعدات الانسانية التي تقدم عبر الأخوات للنساء المحتاجات،  حيث كانوا يمثلن أكثر الفئات المستهدفة من الدعوة، فيما كانت قيادات الدعوة وحدها تحدد الميزانية وتطلع عليها، وبحلول 2014، بدأت المخصصات للجان الأخوات تهبط لأقل مستوى لها، وحتى المساعدات التي تقدم للمحتاجات انخفضت كثيرا، الأمر الذى أدى لانسحاب العديد من الاخوات والاكتفاء بالانتماء المنهجي دون العمل التنظيمي. 

انشقاق الداعيات

من الأسباب أيضًا لوقف نشاط الداعيات، تراجع عدد النساء المنضمات للتيار السلفي، والذي فسره فراويلةبأنه نتيجة للأحداث السياسية التي كشفت نوايا التيارات السياسية في الوصول للسلطة عبر عباءة الدين، وأيضًا وقوع حالات انشقاق بين صفوف النساء بالتيار السلفي للمرة الأولى في تاريخ السلفية، الأمر الذى أحدث هزة كبيرة داخل أروقة التيار السلفي بالإسكندرية،  ومن أبرز المنشقات آيات حجاجوالتي كانت تنشط في الإسكندرية، وأكدت أنها ابتعدت نتيجة لمحاولات جعلها تحت تأثير شيوخ التيار، وهو ما رفضته، ورغم تمسكها بكونها سلفية المنهج، إلا أنها تعارض النظرة الدونية التي يحاول شيوخ السلفية فرضها حول المرأة، كما أنها تعمل على تقديم دروس دينية عبر تطبيق واتساب لبعض السيدات لشرح حقيقة المرأة في الإسلام، والفرق بين السلفية الصحيحة والسلفية المتشددة .

فيما روت سناء أحمد كيف تحولت من داعية لمئات النساء وفى أكثر من مسجد، إلى مجرد مشرفة على تحفيظ القران وإعطاء بعض الدروس الدينية للبراعمالأطفال من 5 إلى 15 سنة، فيما توقفت الدروس النسائية تماما ولم يعد مسموحًا بها، خاصًا لغير المتخرجات من معاهد إعداد الدعاة التابع للدولة 

وقالت سناء في تجربتها، إنها كانت تعمل داعية وتقدم فتاوى للنساء حول أبرز الأمور الفقهية والجدلية، ولكن مؤخرًا صدرت قرارات من المشرفين علينا بوقف النشاط، والاكتفاء بالدروس البسيطة للأطفال، وقد انسحب عدد كبير من الداعيات خاصة مع ضعف المقابل المادي، والذي بات قاصرًا على المقابل الذي يمنحه المسجد وفقًا لعدد الأطفال المشاركين في الدروس الدينية، وهو مقابل ضعيف جدا، فيما توقف النشاط الدعوى النسائي، لحين إشعار أخر كما تم تبليغنا    

الأزهر وأساليب التحايل السلفية 

التيار السلفي أعلن استياؤه من قرار منع شيوخه وغير الأزهريين من اعتلاء المنابر، واشتراط وجود تصريح خطابة مع من يقومون بالدور الدعوى بالمساجد، للسيطرة على الخطاب الديني، ومنع أصحاب الفكر المتطرف من اعتلاء المنابر، الأمر الذي قيد عمل الدعاة السلفيين وبالتبعية أثر على الأخوات.  

تقول «آية» أن القرار أثر على  الأخوات بشكل كبير، ولكن كان يتم التعامل معه بطريقتين، الأولى قصر عمل الداعيات على مساجد التيار السلفي، التي لا تخضع لإشراف وزارة الأوقاف، كما كان يتم تأجير الزوايا بمعنى أن يتم إعطاء الدروس الدينية بمقابل مادي، حيث المسجد يحصل على جزء من المقابل الذي يؤخذ نظير تحفيظ القرآن وكان مقابل ضعيف، وكان يتم عمل الداعيات تحت إدارة مشرفة أزهرية تكون حاصلة على تصريح رسمي، وفى حال حدوث مشكلات للأخوات الصغيرات كانت هي المسئولة عن حلها وكانت تقدم تصريحها باعتبارها من يقدم الدرس، كما كان يتم عقد اللقاءات الدينية في منازل الأخوات ممن تسمح ظروفهم بذلك.