يستعد “إسلام أحمد” للخروج من منزله للذهاب إلى مدرسته، وسط تهكمات من الأهل والأصدقاء والجيران “رايح على فين كدة؟ قال يعني هيبقى دكتور”.. كلمات لطالما ترددت على مسامع الفتى صاحب الـ17 عامًا، كانت تتسبب في إحباطه حينًا، وأحيانًا أخرى يعتبرها حافزًا له.

تستهين الغالبية من المجتمع بالتعليم الفني، معتبرين كل المنضمين له من مستوى تعليمي أدنى، وذلك بسبب تأخرهم الدراسي خلال المرحلة الإعدادية، لتفتك بهم الألسنة، وتقود بعضهم إلى الاستسلام، بينما يخوض البعض الآخر معركة إثبات الذات.

على الرغم من اعتماد أصدقاء “إسلام” على “الغش”، إلا أن حلمه كان أكبر من الحصول على شهادة “دبلوم” ليعمل في أي وظيفة، ويكمل مسيرته كما خطط له من حوله.

منذ أن عانى في الإعدادية من صعوبة المناهج، وتنمر المحيطين به، وهو عازم على تغيير مستقبله، حيث استثمر كل فرصة اعترضته لتطوير نفسه وأدواته، فبعد أن أجبر على “الدبلوم الفني”، قرر أن يضرب بتوقعات كل من حوله عرض الحائط.

“إسلام أحمد” شاب من أحد أحياء محافظة الجيزة، كانت لحظة ظهور نتائج “الدبلومات” الفنية لحظة فارقة في حياته، حيث حصد المركز الأول على الجمهورية في الثانوية الفنية للشعبة الزراعية، واستطاع أن يغير مسار مستقبله الذي رسُم له من قبل.

تمكن “إسلام” من اجتياز مواد المعادلة التي وضُعت له، وحصل على مجموع ليلتحق بكلية الزراعة بجامعة عين شمس، وينتقل للسنة الدراسية الثانية، وكان الأعلى بين الطلبة من حيث التقديرات في الفصل الدراسي الأول.

“فاشل المنطقة”

لم يكن إسلام أحمد وحده الذي يعاني من هذه النظرة، هناك آخرون عانوا من وصمهم بالفشل، لمجرد عدم تفوقهم في المدرسة خلال الإعدادية، أو عدم قدرتهم على استكمال تعليمهم في الثانوية العامة.

عانى الحسن الطارق من اتهامه بالجنون، لتحويله من الثانوية العامة للدبلوم الفني، وإطلاق أحكام مبكرة على مستقبله الذي يتميز بسواده القاتم في أعين كل من يعرفه، لكنه لم يهتم لكل ذلك.

انتقل من الثانوية العامة للثانوية الفنية، ودخل قسم السياحة والفنادق، وتفوق على كل أقرانه، ليفاجئ أهله بتصدره قائمة الأوائل كل عام، وتفوقه العملي في المطاعم التي كان يرسل لها.

استطاع أن يلتحق بأكاديمية ليدرس فيها تخصصه، وتمكن من العمل في الكثير من المنشآت، نجح في جني الكثير من الأموال في وقت قصير.

10 % من طلاب الجامعات

ووفقًا لما أعلنه المجلس الأعلى للجامعات، فإن نسبة قبول الطلاب من حملة الشهادات الفنية بكليات الجامعات للعام الجامعي 2019 -2020، قد بلغت 10% من إجمالي الأعداد المقرر قبولها بهذه الكليات من حملة الثانوية العامة.

وكانت اللجنة العليا للتنسيق، قد كشفت عدد الطلاب المرشحين للالتحاق بالكليات من المدارس الفنية لعام 2019، حيث بلغ العدد 191159 طالب وطالبة، وذلك طبقًا لترتيب رغباتهم ومجموع درجاتهم، وفي حدود الأعداد المقررة لكل شهادة، وفي ضوء قرارات المجلس الأعلى للجامعات الصادرة في هذا الشأن.

محامية ورسامة

كذلك عانت رنا سمك من الألقاب التي تطلق عليها بوضعها في دائرة الفشل.

لكنها لم تستلم لليأس الذي لطالما انتابها بسبب ما يقال عنها، وأكملت بعد إنهاء الدبلوم الصناعي لتلتحق بكلية الحقوق، ولم تكتف بذلك، بل درست التصوير، والرسم أيضًا بمركز الفنون والإبداع لذوي الاحتياجات الخاصة.

وأصبحت تزاول مهنة المحاماة بالإضافة إلى التصوير كهواية، كما أطلقت مبادرات عدة لإعداد طفل سوي، لخدمة أطفال الشوارع وذوي الاحتياجات الخاصة والمنتمين للأسر محدودة الدخل، كما أنها تعتبر ملهمة لكل الفتيات الموجودات حولها.

مهندس بـ”دبلوم صنايع”

أما محمد محمود، صاحب الـ30 عامًا، من محافظة القاهرة، التحق بـ”دبلوم الصنايع” بسبب مجموعه في الصف الثالث الإعدادي، لكنه اجتهد خلال سنوات دراسته الخمسة في الدبلوم، واستطاع أن يتميز عن كل من يدرسون معه.

بعدها التحق بكلية الهندسة جامعة القاهرة، وحصد تقديرات أهلته للتخصص في الهندسة البترولية، التي تعتبر من ضمن الأصعب بين التخصصات، ليعمل في شركة بترول ويتزوج من صيدلانية، وتتغير حياته عما كان يعتقد الناس.

كذلك فتحي محمد فتحي الشاب القاهري، فعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت له لالتحاقه بـ”دبلوم الصنايع”، إلا أنه تفوق، وأصبح الأفضل في مدرسته، حتى إن كل المعلمين يتوقعون له مستقبلًا باهرًا.

كليات الزراعة

يرتاد أغلب خريجي الدبلومات الفنية كليات الزراعة والتجارة والسياحة والفنادق، لكن الأكثر يلتحقون بالزراعة، نظرًا لكثرة الملتحقين بالفنية الزراعية، لأسباب عدة.

تقول آية أحمد، من محافظة الجيزة، إنها كانت تتعرض لحالة اكتئاب عقب انتهاء الصف الثالث الإعدادي، بسبب مجموعها، وعدم تمكنها من ارتياد الثانوية العامة مع أصدقائها، لذا لجأت للتعليم الفني.

بعد أول أسبوعين في الدراسة أحبت ما تدرسه، وتفوقت فيه، وكانت الأولى على الدبلومات الفنية على مستوى الجمهورية، في عام 2012، وبعدها أجرت معادلة واجتازتها بامتياز لترفع مجموعها الكلي بما يؤهلها لدخول كلية الزراعة بجامعة القاهرة.

كانت “آية” من أوائل الطلبة في الدراسة، وعملت بمؤهلها في أماكن عدة، وأصبحت مصدر فخر لأهلها، حتى أنها شجعت شقيقها الأصغر على دخول التعليم الفني بدلًا من الثانوية العامة.

من القاع للقمة

صدام عيد محمد، أحد أبناء قرية برنشت التابعة لمركز العياط بمحافظة الجيزة، عندما علم برسوبه في الصف الثالث الإعدادي، قرر إعادة العام مرة أخرى، إلا أنه نجح بمجموع قليل ما تسبب له في أزمة نفسية، حتى إنه طلب من والده العمل معه في الزراعة.

رفض والده أن يرضخ لطلبه، وطالبه بدخول الدبلوم الفني، ليتفوق في تعليمه، ويحطم كل القيود التي كبلته وتسببت في وصفه بالفشل، وبالفعل قدم ملفه وبدأ في الانتظام في الدراسة.

ظل طوال سنوات الدراسة الثلاث في الدبلوم يحاول الاجتهاد، حتى يحقق حلمه الذي اعتقد البعض أنه انتهى بنتيجة الإعدادية، التحق بكلية الزراعة بجامعة عين شمس في عام 2013، وتخرج منها بتقدير امتياز.

يعمل “صدام” الآن في بلده، مهندسًا زراعيًا، ويحترمه كل من حوله لعلمه ومكانته وسطهم، وتمرده على الأحكام المسبقة التي أطلقها عليه الناس، محاولين وضعه في خانة اليأس.

مصورة صحفية

كان حلم “بوسي أبو النور” الالتحاق بكلية الإعلام، لتعمل صحفية، لكنها حققت مجموعًا لم يسمح لها بالالتحاق بالثانوية العامة، ودخلت الدبلوم الفني، ثم التحقت بكلية التجارة.

تخرجت من الكلية، وبدأت تطوير مهاراتها في الكتابة والتصوير، لتلتحق بإحدى الصحف وتصل لدرجة رئيسة قسم التصوير بها، وتحقق حلمها الذي لطالما روادها.

المجتهد صنيعة نفسه

وتعليقًا على سبب الصورة السلبية المعروفة عن طلبة الدبلومات الفنية، يقول الخبير التربوي، الدكتور محمد عبد العزيز، إن المجتهدين صنيعة أنفسهم، مضيفًا أن النظام التعليمي في “الدبلومات الفنية” يتسبب في تأكيد الصورة الذهنية السيئة عن التعليم الفني.

وأكد الخبير التربوي، أن المناهج لا تضيف جديدًا للطالب، وفي أغلب المدارس لا يوجد تدريب عملي لهم، ولا يتفوق فيه إلا من يبحث عنه في الشركات والمصانع بالخارج، كما أن المعلمين يستهينون بالطلبة ما يسبب حالة من اليأس عندهم، وفق قوله.