“لا تَسبوا أصحاب المعاصي ولا تحتقروهم فإنما نحيا بستر الله ولو كشف الله عنا ستره لفضحنا”، هكذا ظل الإمام أبو حنيفة، يعلم تلاميذه أن الجنة ليست بيد أحد من البشر وأن التآلي على الله سوء أدب مع الخالق عز وجل.

احتكار الجنة، وتعنيف مرتكبي الذنوب، تلك القضية التي أثارت جدلًا واسعًا خلال الأيام الماضية، حيث انتشرت فتاوى المتشددين في تحريم وتحليل ما يتماشى مع أهوائهم، فتارة يُكفرون أهل الكتاب من المسيحيين وغيرهم، وتارة يطردون غير المسلمين من الجنة، حتى أنهم يطردون بعض المسلمين منها إذا ارتكبوا ذنبًا، وكأن مفاتيح الجنة بأيديهم، أو أن خالقها وكلهم بذلك، فنسوا أن الله غفور رحيم، وأخذوا يلهثون خلف إثارة الجدل لكسب رضاء المجتمع والتماشي مع الثقافة الشعبية، مُبتعدين كُل البعد عن أصل الدين وهي الرحمة والعفو. 

مفهوم الثقافة الشعبية

يعُرف الدكتور حسن إبراهيم عبد العال، الثقافة الشعبة أو الجماهيرية، في كتابه “التربية وصناعة الإبداع”، بأنها تلك الثقافة التي نتجت عنها الثقافة الاستهلاكية، والتي فتت القيم الأصيلة السائدة في المجتمعات، في الوقت الذي تكرس فيه منظومة جديدة في المعايير ترفع من القيم النفعية والفردية والأنانية والمنازع المادي للغرائز المجردة من أي محتوى إنساني، وتمكنت هذه الثقافة الاستهلاكية من الوصول إلى قطاعات واسعة من الأفراد والشعوب وهي توجه بشكل خاص للشباب.

مفهوم الدعوة الإسلامية

عرفها الدكتور محمد الوكيل صاحب كتاب “أسس الدعوة وآداب الدعاء”، بأنها الدعوة إلى الله، ودعوة الناس إلى الخير والرشد، وأمرهم بالمعروف والنهي عن المنكر.

تأثير الثقافة الشعبية على رجال الدين

ترى الدكتورة آمنة نصير، أستاذ العقيدة والفلسفة الإسلامية بجامعة الأزهر، أن الثقافة الشعبية تؤثر بشكل كبير في عقول هؤلاء الدُعاة الذين اتخذوا من ثقافة “ستات البيوت”، أو ثقافة الشارع منهجًا لهم في إطلاق الفتاوى الشاذة.

وأضافت نصير، أن أغلب الشباب الذين سطع نجمهم مؤخرًا عبر شاشات التليفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي، ليسوا مؤهلين حتى للدعوة فكيف لهم أن يتصدروا المشهد ويطلقون الفتاوى، معقبة: “لا يفهمون الشرع ولا النص القرآني“.

وتابعت أستاذ العقيدة والفلسفة الإسلامية بجامعة الأزهر: “نحتاج إلى عقول مستنيرة تمتلك ثقافة موسوعية وعلمية، لمواجهة الفكر المتطرف،”، منوهة إلى أن: “ما صلح من 1400 عام لا يصلح الآن، والفتاوى التي صدرت من ألف عام لا تتناسب مع زمننا“.

ولفتت نصير، إلى أن الداعية الإسلامي يجب أن يكون متقنًا للعلوم الدينية وفقيهًا، وليس مجرد خريج من الأزهر الشريف، فمن يحاول إرضاء المجتمع أو اتباع أهوائه النفسية ويترك المفاهيم الصحيحة للشرع ليس بداعية ولا يصلح للحديث عن الدين مطلقًا.

وأشارت نُصير، إلى أن الداعية يجب أن يكون ذا شخصية حيادية وقوية، يدعوا إلى التسامح ونشر المحبة في المجتمع.

الجنة ليست بيد البشر

روي، أنه كان لأبي حنيفة جار سكير نصحه حتى تعب من كثرة نصحه، وعندما لم يستجب الرجل، تركه الإمام، وذات يوم طرقت زوجته على باب أبو حنيفة، تدعوه للصلاة على زوجها فرفض، وفي منامه جاءه السكير وهو يتمشى في بساتين الجنة ويقول قولوا لأبو حنيفة “الحمد لله لم تجعل الجنة بيده”، ولما أفاق سأل زوجته عن حاله فقالت هو كما تعرف عنه غير أنه كان في كل يوم جمعة يطعم أيتام الحي ويمسح على رؤوسهم ويبكي ويقول ادعوا لعمكم فلعلها كانت دعوة أحدهم.

وعن رحمة الله تعالى، جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: “بينما بغي من بغايا بني إسرائيل تمشي، فمرت على بئر ماء فشربت، وبينما هي كذلك مر بها كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فعادت إلى بئر الماء؛ فملأت خُفها ماءً، فسقت الكلب فغفر الله لها”، فرغم كونها زانية وارتكبت كبيرة نهى الله عنه إلا أن رحمته وسعت كل شيء فغفرلها.

إبعاد الشباب عن الدين الوسطي

يقول الحبيب على الجفري، رئيس مؤسسة طابة للأبحاث والاستشارات، إن الشباب لا يجدون ما يتعطشون إليه في الاستماع إلى ما يمس القضايا والمسائل التي تشغل بالهم؛ عند الكثير من المؤهلين من الناحية الشرعية، فيجتذبهم شذاذ الآفاق من أنصاف المُثقفين ومن يستغلون مشكلات الشباب ليعطنوهم أجوبة تناقض مقاصد الشريعة وصحيح الدين.

“القطع بأن شخصًا بعينه لا يرحمه الله في الآخرة، أو لن يدخل الجنة أبدًا، والحلف بذلك؛ هو من التألي على الله وإساءة الأدب مع من رحمته وسعت الدنيا والآخرة سبحانه وتعالى”.. “دار الإفتاء المصرية”

أخلاقيات الداعية

من جانبه يوضح الدكتور أحمد كريمة، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر الشريف، أن الشخص الذي يمارس الدعوة يجب أن يحصل على تصريح الخطابة من وزارة الأوقاف، حيث يخضع لاختبار جاد في هذا المقرر التعليمي.

وعن أخلاقيات الداعية، يشير أستاذ الشريعة الإسلامية، إلى أن الداعية إلى الله يجب أن يكون على خُلق حسن وأن يكون خريج الأزهر الشريف، وحسن السير والسلوك، ويملك صفات حسنة لممارسة الدعاة، اتقاءً لإحداث فتن مجتمعية، لأن البعض يقبعون بفتنة المال لإحداث بلبلة في المجتمع، كتكفير أهل الكتاب، وهي جريمة منكرة لا يقرها عقل أو منطق.

وطالب كريمة، بمنع غير الأزهرين من ممارسة المهام الدعوية، لافتًا إلى أنه غير مقبول وجود فكر للخوارج والسلفية ليوازي الأزهر الشريف، لخطورة مبادئه، فيجب أن يحجب السلفيون ومن على شكليتهم من جماعة الإخوان وكل جماعات وفرق العنف الذي يسيرون لانتهاك الأعراض وسيل الدماء.

أسباب ظهور الفتاوى الشاذة

وحذر الجفري، من 5 أسباب تساعد في ظهور الفتاوى الشاذة والضالة، منها تصدر غير المؤهلين لتقديم الفتوى للناس في أمور حياتهم المتعلقة بالجانب الديني، والجماعات الإسلامية المسيسة، وضيق أفق بعض المشتغلين بالفقه الشرعي.

كما اعتبر الجفري، ضعف معرفة العلماء بالواقع الذين ينزلون الحكم الشرعي عليه وبالتالي يكون على غير وجهة، لافتًا إلى أن آخر الأسباب هو ميل النفوس إلى الهوى، وعدم تأسيس الشباب على أساس متين لفهم الدين.

“العمل الدنيوي ما دام ليس صادرًا عن الإيمان بالله ورسوله فقيمته دنيوية بحتة، تستحق الشكر والثناء والتبجيل منا نحن البشر في الدنيا فقط، لكنه لا وزن له يوم القيامة، ‏ومن السفاهة أن تطلب شهادة بقبول عملك في الآخرة من دين لا تؤمن به أصلاً في الدنيا”..

إمام وخطيب سابق بالأوقاف عبدالله رشدي

وأكد الدكتور شوقي علام مفتي الجمهورية، في كتابه “الفتوى والإفتاء.. البناء والمنهجية”،  أن الأسباب التي أدت إلى فوضى الإفتاء الفضائي تعود إلى عدة عوامل هي: “الجهل وعدم دراسة الأحكام الشرعية دراسة منهجية مؤصلة، وضعف الوازع الديني حيث يكون السائق لمن يطلق الفتاوى الباطلة إرضاء الواقع الذى يعيش فيه، وظن البعض أن التساهل في الفتوى سيؤدى إلى إظهاره  بمظهر الشيخ الوسطى غير المتشدد مما يؤدى إلى تسويقه في الفضائيات، وبريق الشهرة واتباع الهوى، وعدم استشعار مسئولية الفتوى وما يترتب عليها، والعجلة وعدم التأني والنظر والتأمل، وعدم وجود قانون ينظم الفتوى، والإعلام الذي يخرج الفتاوى دون عرضها على جهة مختصة بالإفتاء“.

“المسيحيين كفار ولكن هم أخوتنا في الوطن، والله هو من سيحاسب العباد، ونحن أيضًا بالنسبة لهم كذلك”..

وكيل وزارة الأوقاف السابق الشيخ سالم عبدالجليل

تكفير المسلمين وعدم تبليغ الدعوة

وكان فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، قد أكد أن هناك تقصيرًا من علماء الإسلام في تبليغ رسالة الدين السمح إلى غير المؤمنين به أو الوثنيين، وهو ما يؤكد انسياق الدعاة أو المُنتسبين لها وراء أهوائهم الذاتية، حيث كسب الشهرة أو الأموال.

وأضاف الطيب: “من يقومون بالدعوة الإسلامية في إفريقيا لا يذهبون بها للوثنيين ولكن للمسلمين ليقولوا أنتم أشاعرة كفار أو صوفية كفار وعليكم أن تدخلوا في الإسلام من جديد، وهو جهد وأموال مهدرة لأن المنطلق فاسد إسلاميا، وكثير كان يري أن محاربة الصوفية مثلا لها الأولوية على تعريف الوثنيين بالإسلام، فماذا يُنتظر من دين علماؤه يكفر بعضهم بعضًا وكل منهم يقاتل الآخر؟“.

الله غفور رحيم

جاء في الحديث الصحيح، عن سعيد بن الخدري، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “كان في بني إسرائيل رجل قتل 99 إنسانًا، ثم خرج يسأل، فأتى راهبًا فقال له: هل من توبة؟ قال: لا، فقتله، فجعل يسأل، فقال له رجل ائت في قرية كذا وكذا، فأدركه الموت فناء بصدره نحوه، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي، وأوحى إلى هذه أن تباعدي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجد إلى هذه أقرب بشبر، فغفر له”.

الدُعاة وتجارة الدين

يقول المفكر الكبير عبد الرحمن بدوي: “لقد قرأت تاريخ الشرق والغرب فتأكدت لي هذه الحقيقة: عندما تتحول الدعوة للدين إلى مهنة مدفوعة الأجر فاعلم أن صاحبها دجال.

وقال ابن القيم، في كتابه “الفوائد”: ” كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها، فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه في خبره، وإلزامه، لأن أحكام الرب سبحانه كثيرا ما تأتي على خلاف أغراض الناس، ولا سيما أهل الرياسة، والذين يتبعون الشبهات، فإنه لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق، ودفعه كثيرا فإذا كان العالم والحاكم محبين للرياسة متبعين للشهوات، لم يتم لما ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق، ولا سيما إذا قامت له شبهة، فتتفق الشبهة والشهوة، ويثور الهوى، فيخفى الصواب، وينطمس وجه الحق، وإن كان الحق ظاهرًا لا خفاء به.

لذا فإن ما نراه الآن من الدعاة المتشددين من فتاوى شاذة وأحكام متطرفة ليس من الدين في شيء فالله تعالى وصف نفسه بالغفور الرحيم.

 

من يملك الجنة؟