“قُم للنقاب وفه التبجيلا .. أمسى النقاب على العفاف دليلا .. عين السفور ترى النقاب قبيحا .. وعين العفاف ترى النقاب جميلا”..
ما سبق كان جزءً بسيطًا من مقطوعات ينشدها أباطرة التيارات المتطرفة، للترويج لثقافة النقاب، خاصة بين الشابات، بعد أن جعلوه رمزًا لأفكارهم ودليلًا على انتشارهم .
يعتقد كثيرون، أن النقاب مُجرد حرية شخصية لا يحمل أي معانٍ أخرى، وأنه ضحية لحملة انتقادات تستهدف الدين في المقام الأول، فيما يرون المنتقبة فتاة تقضي حياتها مابين المساجد والدروس الدينية، وأنها تنضم لمجموعات دعوية تستهدف خدمة الدين.
وقد تكون تلك النظرة صحيحة في بعض الحالات، ولكن يوجد عالم أخر يضم غالبية المُنتقبات، وهو عالم موازي يعيشون فيه حياة مختلفة عن تلك المرسومة عنهم ، فخلف الستار الأسود للمنتقبات الذى يحمل علامات الزهد في الحياة الدنيا، واختيار الأخرة سبيلًا، يوجد العديد من التفاصيل التي ترتبط بهم في عالمهم المُغلق، نروي بعض منها في سطورنا القادمة.
أصل النقاب
قبل أن نبدأ في سرد تفاصيل عالم المنتقبات، لابد أن نُشير أولًا، إلى أن أصل النقاب وارتباطه بالدين، دائمًا ما كان مثار جدل وخلافات، فالبعض يُرجع النقاب إلى ما قبل العصر الجاهلي “وهو الاحتمال الأكبر”، مستشهدًا بأشعار العرب خلال تلك الفترة والتي ذكرت المرأة التي تتستر خلف النقاب في مواقف متعددة، فمثلًا عنتر ابن شداد، قال: “إن تغدفي دوني القناع فإنني طب بأخذ الفارس المستلئم”، والقناع هنا هو نقاب الوجه، أما توبة بن حمير فقال في حب ليلى الأخيلية: “وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت.. فقد رابني منها الغداة سفورها”، التبرقع هنا ارتداء البرقع أو النقاب، كما دارت الأقاويل حول أنه عادة بدوية، ولاتزال المجتمعات البدوية حريصة عليه حتى الآن.
ثم ارتبط اسم النقاب بكونه عادة يهودية، كما قالت الدكتورة آمنة نصير، أستاذة العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، مؤكدة أنه لا علاقة له بالدين الإسلامي وأنه عادة يهودية، ثم ارتبط بالمسيحية، وذكر المؤرخ ابن جُبير في وصفه لنساء إحدى القرى بجزيرة صقلية: “وزى النصرانيات في هذه المدينة، زي نساء المسلمين، فصيحات الألسن، ملتحفات منتقبات”، فيما ارتبط بالإسلام باعتباره اقتداءً بزوجات النبي محمد والصحابة.
وحتى هذه اللحظة يظل النقاب الذي ارتبط بالنساء في عصور مختلفة ومجتمعات وثقافات متعددة، غير معروف تحديدًا إلى أي عصر أو أي عرق ينتمي.
أنواع المنتقبات
لابد أن نعرف الفارق بين ثلاث أنواع من المنتقبات، أولهم منتقبة التدين، وهي التي اختارت ارتداء النقاب كرمز للالتزام الديني المُشدد، غير منتمية لأث تيار تنظيمي، وهؤلاء يمثلون النسبة الأقل بين المنتقبات.
والفئة الثانية، فهى منتقبة “العادة”، ويكون ارتداء النقاب لديها عادة لا أكثر مرتبطة بالبيئة أو النشأة، ولا علاقة لها بأي ارتباط ديني أو شعائر مُقدسة من بعيد أو قريب، وتلك الفئة تمثل أعلى بعض الشيئ من فئة التدين.
وأما الفئة الثالثة، تلك التي تُمثل الغالبية العظمى من المنتقبات، وهم المنتميات لتيارات تنظيمية، مثل الإخوان أو السلفيين، ويعملن في إطار الإيمان بأفكار تلك التنظيمات ونشرها، والترويج لثقافة النقاب، كونها تمثل رمزًا لتلك التنظيمات، وينتشرون في معظم المؤسسات مثل الجامعات والمساجد والمراكز الدينية، بخلاف مشاركتهم في الأحزاب السياسية التابعة لتلك التنظيمات.
بعيدًا عن الانتماءات التي تمثلها الفئات الثلاث، إلا أنها تجتمع في أمر واحد، وهو اعتبار النقاب زيًا ذو دلالة دينية، يمثل الاقتراب منه اقترابًا من الدين بصورة مباشرة.
جلسات السهرة في مجتمع المُنقبات
استطاعت المُنتقبات، خلق مجتمع خاص بهن، يحمل أسرارًا وحكايات، من شأنها أن تمحي الصورة التقليدية عن أصحاب هذا الرداء الفضفاض، وتجعل لهم نصيب من حياة الترف التي يرى كثيرون أنها بعيدة كل البعد عنهن، ورغم أن هذا المجتمع يضم فئات المنتقبات الثلاثة، إلا أن تفاصيله دائمًا ما يحددها الفئة الثالثة من المنتمين للتيارات التنظيمية.
ولنبدأ في توضيح أمرًا قد يصدم البعض وهو جلسات السهرة، التي تُنظمها المنتقبات، وهي عبارة عن جلسات تجمع مجموعة يتم اختيارهن وفقًا للمعرفة الشخصية، والتي تكون عبر المساجد أو الجامعات أو الكيان التنظيمي التابعين له، وتكون عبارة عن لقاءات ترتدي فيها المُنتقبات “زى سهرة” لبسها العادي والنقاب، ويتم الاجتماع في أحد المنازل التابعة لإحداهن، وفي حالة السهرة التابعة لكيان تنظيمي، تكون اللقاءات في بيت إحدى القيادات النسائية بالتنظيم، دون وجود رجال، ويتم خلع النقاب والجلوس برداء السهرة، ويُسمح بوضع المكياج في تلك اللقاءات، ويتم فيها الاحتفال إما بأعياد ميلاد “الأخوات” أو بضم عضوة جديدة حيث يتم الاحتفال بارتدائها النقاب من خلال تقديم نقاب هدية لها، على أن تقوم الداعية للسهرة بإلباسها إياه وسط تهليل الأخوات، وأيضًا الاحتفال بحفظ القرأن، وتقديم الهدايا للحافظات الجدد، ويتم جمع ثمنها من الأخوات جميعًا كلًا حسب مقدرته، وتكون مصحف أو سبحة قيمة أو نقاب وهكذا.
وتتباحث “الأخوات”، في الأمر الدعوى، ويتبادلون الأحاديث حول القضايا النسائية المختلفة، التي تركز على دورها المرسوم من قبل الكيانات المتشددة.
وإذا كانت السهرة بعيدًا عن الشكل التنظيمي، تتم في منزل إحدى الأخوات، ويتم فيها توزيع الحلوى، وترديد الأناشيد الدينية، وتبادل النقاشات حول الدين، وهي التي تقوم بها الفئة الأولى والثانية من المنتقبات.
وكشف الباحث إسلام المهدي المنشق عن الجماعة السلفية، أن تلك السهرات كانت تتم في منازل “الشيخات” وهم زوجات الشيوخ، وكان يتم فيها استقبال وبحث شكاوى العضوات وبحث أوضاعهن الاجتماعية باستفاضة، والإعلان عن عدد المنتقبات الجُدد، والاحتفال بارتدائهن للنقاب، أو حدوث مناسبات مثل زواج إحداهن أو خطبتها، أو إنجابها، فكل مناسبة كانت تنتهي بسهرة ولكن دون أي مشاركة ذكورية، حتى وإن كان شيخ أو قيادي.
المعسكرات ورحلات الترفيه
تُعتبر المعسكرات، من أساسيات مجتمع المنتقبات، ومن اللقاءات التي تُعقد مرتين على الأقل في السنة، ويجيمع خلالها مجموعة المنتقبات بنفس طريقة لقاءات السهرة، بخلاف المُنتقبات في مكان سكني واحد، ويتم عمل المعسكر الذي يضم السيدات والأطفال، ويكون تحت إشراف رجل واحد، في حال المعسكر التنظيمي، حيث يقوم بتأجير مكان إقامة المُعسكر، والإشراف على الفقرات، والتي تكون عبارة عن لقاءات ثقافية لمناقشة قضايا النساء واهتماماتهم ورفع الوعي عن العديد من القضايا، كذلك ممارسة بعض الألعاب التي ترتبط بطبيعة المنتقبات مثل المسابقات الرياضية ومسابقات الطبخ والندوات والإلقاء، كما يتم عمل فرق تمثيلية لإلقاء الضوء على شخصية هامة
بخلاف تخصيص وقت للأطفال للعب واللهو ما يربطهم بعالم التدين والالتزام، وعمل مسابقات بينهم، وتجهيز مسابقات ركوب خيل، وإلقاء أناشيد دينية وحماسية، وعمل فرق تمثيلية أيضًا، تحكي قصة نموذج ديني أو تاريخي، ويكون المعسكر ليوم واحد بالنسبة للنساء، أما معسكرات الأطفال فقد تمتد عدة أيام، وأحيانًا يتم اختيار إحدى الفلل المتطرفة لإقامة المعسكر ويتم تأجيرها ليوم واحد، ويتم فيها السماح بنزول السيدات “البسين” مرتدين المايوه الشرعي “البوركيني” بجانب التسابق واللعب والتنزه والتقاط الصور بحدائق الفلل.
لا يتوقف الأمر عند حد إقامة المعسكرات، ولكن أيضًا يتم تنظيم رحلات ترفيهية تضم منتقبات فقط، ويتم فيها اختيار مكان معين مثل الرحلات النيلية، وفيها يتم تأجير المركب يوم بأكمله، مع منع الفقرات الغنائية واستبدالها بفقرات دينية، كذلك الأمر بالنسبة لرحلات زيارة السيرك، ويتم فيها إلغاء الفقرات التي تشهد ارتداء ملابس غير ملائمة للفكر المتشدد، وتكون ايضًا قاصرة على المنتقبات.
لقاءات “لم الشمل”
للزواج شروط خاصة داخل التيارات المتشددة، فلا يتم اختيار الزوجة بصورة عشوائية، وإنما لابد أن تخضع لشروط محددة، وهو الأمر الذي توفره لقاءات لم الشمل لدى المنتقبات، والتي يتم فيها عقد لقاءات تجمع السيدات والفتيات المُقبلات على الزواج، وتكون قريبة من لقاءات “السهرة” ولكن تلك تقتصر على تحديد الفتيات التي تصلح للزواج وترشيحها “للإخوة” من الطالبين للزواج.
تقتصر لقاءات “لم الشمل” على الكيانات التنظيمية، خاصة التيار السلفي، حيث يتم تحديد عدد “الإخوة” الراغبين في الزواج، ممن يحتاجون إلى مساعدة التيار في تجهيز بيت الزوجية، ويتم تحديد الشروط من حيث السن والمستوى الاجتماعي والمستوى العلمي، وعلى أساسها يتم اختيار المُرشحة للزواج، ويتم تعريف الأسرتين ببعضهما، ثم تبدأ مراحل التجهيز حال تم الموافقة من الطرفين.
تكون الفتيات، بكامل زينتهن خلف النقاب، ويتم عمل جلسات تعارف بين الفتيات الغير متزوجات والأسر التي لديها شباب مُقبل على الزواج، وفي حال الميسورين ماديًا، يتم إنهاء اللقاءات والاتفاقات التي تلي الموافقة الأولية، بعيدًا عن التنظيم التابعين له وتُعقد لقاءات لم الشمل بصورة منتظمة، حيث لجأت لها الحركة السلفية بالإسكندرية لضمان ولاء جميع المنتمين لها، وتكوينهم جبهة تضمهم هم فقط، وفقًا لما أكده الباحث إسلام المهدي.
الأمر الذي يثير الانتباه، هو أن أعمار المشاركات في تلك اللقاءات، تبدأ من 15 عامًا، وقد تكون أقل من ذلك، حال كانت الهيئة الجسمانية تسمح لذلك، كما أن الزواج ليس شرطًا أن يتم لشخص غير متزوج، بل يمكن اختيار زوجة بهدف التعدد، فنادرًا ما يكون الشاب متزوجًا من واحدة فقط، كما يتم خلالها ترشيح فتيات لقادة وشيوخ تلك التيارات للاختيار فيما بينهن.
وفى جماعة الاخوان، كانت تنتشر زيجات بهذا النمط، مع اختلاف التطبيق، وذلك لتكوين ترابط “أسري” بين الأعضاء، يضمن عدم خروجهم عن إطار الجماعة، لذلك غالبية أعضاء الإخوان في حالة “نسب” بسبب الزواج بتلك الطريقة.