سعى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر منذ سنوات حكمه الأولى إلى نشر أفكاره على نطاق واسع وغرس مبادئ ثورة 23 يوليو في قلب وعقل كل مصري، بل وعربي أيضا، بطرق مباشرة وأحيانا غير مباشرة، باستخدامه جميع وسائل المتاحة في زمنه كالصحافة والإذاعة والسينما والغناء، شكلوا جميعا قوة ناعمة لمصر في حقبتي الخمسينيات والستينيات.

ربما عرفت مصر مفهوم القوة الناعمة المقصود بها إحداث التأثير والصدى بعيدا عن كل ما هو عسكري أو عنيف في أوقات سابقة خلال العهد الملكي، لكنها شهدت تدشين بدايتها الحقيقية برعاية عبدالناصر، لذا لا يزال المصطلح مرتبطا بملامح هذا العصر الثري بالمواهب والكوادر، فمجرد ذكره يقفز إلى ذهنك مؤسسه الأكبر وأثره في شحن معنويات المصريين خلال مرحلة مهمة من عمر الوطن. وفي تقريرنا نستعرض كيف تشكلت هذه القوة وماذا تبقى منها في 2020.

الإذاعة.. سلاح الثورة

عرف الضباط الأحرار الطريق مبكرا باستخدام الإذاعة في أيام الثورة الأولى في تعبئة الرأي العام من خلال البرامج الخاصة والمسلسلات الوطنية والقصائد الشعرية المؤيدة للثورة، فلمعت في أذهان قادة الثورة إنشاء إذاعات جديدة بأهداف مختلفة، منها إذاعة صوت العرب عام ١٩٥٣ التي كانت صوتا للنظام وداعمة للنضال العربي ضد الاستعمار، وحاضنة لحركات التحرر العربية، ثم توالى إنشاء الإذاعات ومنها “إذاعة الإسكندرية” المحلية، و”إذاعة البرنامج الثاني، و”إذاعة الشعب”، و”إذاعة فلسطين” عام ١٩٦٠، وجرى إنشاء كل من إذاعتي القرآن الكريم والشرق الأوسط  في عام ١٩٦٤، وإذاعة البرنامج الموسيقى عام ١٩٦٨، وكلها إذاعات توعوية وتثقيفية للجماهير شكلت جسرا بين مصر والعالم العربي.

وتخلل فترة توهج الإذاعات المصرية إنشاء التلفزيون المصري لأول مرة في العام 1960 الذي بث في افتتاحيته احتفالات الذكرى الثامنة لثورة يوليو، في الوقت الذي أنشئ صحف ومجلات جديدة تتحدث باسم الثورة منه الجمهورية والمساء وحواء قبل تأميم جميع الصحف وتحويل ملكيتها إلى الاتحاد الاشتراكي.

فنانو 23 يوليو

أدرك عبد الناصر مبكرا قيمة الفنانين والمثقفين في تشكيل ملامح دولته الجديدة التي واجهت صعوبات جمة في التخلص من الاستعمار البريطاني، انطلاقا منه إلى قضايا الاستقلال والتحرر الوطني، وقضايا التنمية والبناء الداخلي، فبرز ما يعرف بالأغنية الوطنية بحضور أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب ومحمد فوزي.

وارتبط الثنائي الأول تحديدا بعبد الناصر وحظيا منه بتقدير عال، فلم يتركا مناسبة وطنية كبيرة دون الإطلالة بأغنية جديدة تمجد الثورة وإنجازاته الاجتماعية وتمجد ناصر شخصيا في الأغاني التي حملت اسمه مثل: “حبيب الملايين” “يا جمال يا مثال الوطنية” “ناصر كلنا بنحبك”.

ترصد دراسة “قوة مصر الناعمة.. البدايات والمكونات” للكاتب محمود دوير، كيف ساهمت القوة الناعمة في صياغة عقل ووجدان العالم العربي، بل امتد التأثير إلى أبعد من ذلك جغرافيًا لتعبُر الثقافة المصرية إلى أحراش أفريقيا وأطراف آسيا.

يقول “دوير ” إن فترة الخمسينيات شهدت أهم فترات تجلي القوة الناعمة في مصر، رغم بدايتها مع ثورة 1919 على يد مطرب الشعب سيد درويش، مرجعا ذلك إلى وجود علاقة طردية بين المشروعات الوطنية والقضايا القومية الكبيرة وازدهار القوة الناعمة. وأوضح أن ناصر استطاع أن يستفيد ويطوع القوى الناعمة حينذاك في خدمة القضايا الكبرى كغناء حليم عن السد العالي وتجييش مشاعر المصريين وراء حلم السد في ظل التحديات التي واجهها في تمويله وبنائه.

ميلاد وزارة الثقافة

تجلى اهتمام ناصر بالثقافة والفنون في إنشاء وزارة تعنى بشؤون الثقافة، عام 1958 وكان على رأسها الراحل ثروت عكاشة أول وزير للثقافة والإرشاد القومي، ومنها خرجت جميع الهيئات الفاعلة في هذا الِشأن مثل المجلس الأعلى للثقافة، والهيئة العامة للكتاب، ودار الكتب والوثائق القومية، التي كانت تحوي في ذاك الوقت نحو نصف مليون مجلد من الكتب والمخطوطات القيمة، للمحافظة على التراث المصري بداخله.

كما شهدت تأسيس فرق دار الأوبرا المختلفة مثل أوركسترا القاهرة السيمفوني، وفرق الموسيقى العربية، والسيرك القومي ومسرح العرائس، والاهتمام بدور النشر، فضلا عن إنشاء أكاديمية الفنون، عام 1969، التي تعد أول جامعة لتعليم الفنون ذات طبيعة منفردة في الوطن العربي، حيث تضم المعاهد العليا للمسرح والسينما والنقد والباليه والموسيقى والفنون الشعبية.

وخلال هذه الفترة أيضا فررت الدولة تأميم فرقة رضا للفنون الشعبية لتصبح تابعة لوزارة الثقافة، مما ساعد في زيادة عازفيها وراقصها إلى أكثر من 80 راقصا و100 عازف كورال، ودعمتها الدولة لنشر الرقص الشعبي في مسارح العالم، إذ أعجب ناصر بالرقصات الفلكلورية وتوجهات محمود رضا الرائدة في هذا الفن.

سينما بطعم الثورة

 لعبت السينما دورا كبيرا في تشكيل الصورة الذهنية لثورة يوليو، فلم يحظ حدث سياسي آخر في تاريخ هذا البلاد بشعبية الأفلام التي أنتجتها الدولة عن الثورة وفساد الملكية، لذا صدر قرار عام١٩٥٧بإنشاءمؤسسة دعم السينما لتقديم الدعم للإنتاج السينمائي، كما تم إنشاء معهد السينما» عام ١٩٥٩، وفى الستينيات تم تأميم صناعة السينما وإنشاء المؤسسة المصرية العامة للسينما عام ١٩٦٢ وتم إنتاج مئات الأفلام، منها “رد قلبي” ويسقط الاستعمار” والمماليك” وشروق وغروب”. وبرز خلال هذه الفترة أيضا سلسلة أفلام الفنان الكوميدي إسماعيل ياسين في الجيش المصري، وكان لها تأثير كبير في تلك الفترة، لتعظيم دور الجيش في حياة المصريين.

يوضح “دوير” أن معهد السينما صنع حالة جيدة وقدم نقلة مهمة في تاريخ السينما من حيث نوعية الأفلام الأكثر جودة، ومنها بالطبع الأفلام التي تدعم الثورة وتتصدى للاستعمار مثل فيلم بورسعيد عن صمود مدينة بورسعيد في العدوان الثلاثي للفنان فريد شوقي، وإنتاج فيلم جميلة بوحريد لدعم الثورة الجزائرية في تحررها من الاستعمار الفرنسي.

 “عبد الناصر رئيس ذواق وصاحب مشروع قوي أجبر الجميع على الالتفاف حوله ورأينا مشروع ثقافي وطني لأول مرة في تاريخ مصر والثقافة الجماهيرية ونعيش في فضلها حتى الآن” يقول دوير.

مرحلة استثنائية

وبرأي الناقد الفني خالد محمود، فإن مرحلة يوليو كانت استثنائية في تاريخ مصر على مستوى السينما، فقدمت أفلام تمهد للثورة مثل “الله معنا” وأفلام أخرى تبرر اندلاع الثورة وحركة الضباط الأحرار، وأفلام اضطرت فيها الرقابة حذف مشاهد لمحمد نجيب خلال فترة رئاسة مجلس قيادة الثورة، وأخرى مجدت للحدث وتأثيره اجتماعيا.

يرجع حالة التوهج والثراء الفني في سينما الستينيات إلى كثرة المواهب والمبدعين في تلك الفترة عن غيرها، فمصر كانت محظوظة برموز الأدب والفن والثقافة، كما أن الدولة كانت تتبنى مشروعا وتفرض أعمالا بالأمر والتوجهات على الفنانين خلال فترة التأميم ما أجبر جميع الفنانين على الانحياز للقومية العربية والمبادئ الاشتراكية التي تبناها ناصر، أما الآن فالدولة لا تدعم السينما بالشكل المطلوب.

يشير “محمود” إلى أن الصورة تغيرت بعد وفاة عبد الناصر ولاحظنا أفلام مثل: الكرنك تسليط الضوء على تعذيب السجون في عهد صلاح نصر ومخابرات عبد الناصر، امتدت إلى أهل القمة وانتقاد عصر الانفتاح في عهد السادات وغيرها من الأفلام مثل: كتيبة الإعدام والغول وزمن حاتم زهران وسواق الأتوبيس خلال فترة الثمانينات التي انتقدت التطبيع والانفتاح والخلل الذي أحدثه بالمجتمع.

مستقبل قوتنا الناعمة

يعدد محمود دوير في دراسته” قوة مصر الناعمة” أسباب تراجعها في غياب الإرادة السياسية في استخدام وسائل عبدالناصر وتعرض البلاد إلى انتكاسات على المستوى الثقافي خلال فترة الانفتاح الاقتصادي في عهد الرئيس الراحل أنور السادات واللا مشروع في عهد مبارك فغاب المشروع الوطني.

ويلفت إلى أن الدولة تخلت تماما عن دورها الفكري والثقافي منذ منتصف السبعينات فلم تهتم بالريادة على مستوى الإعلام والتلفزيون والإنتاج الدرامي، فضلا عن أن المؤسسة الثقافية الحالية ليست بنفس القوة على غرار وزارة الإرشاد القومي فيحكمها موظفون أكثر من المبدعين.

ويرى “دوير” أن مصر كانت مهيأة لاستعادة قوتها الناعمة بعد 30 يونيو لأننا نمتلك مشروعا تقدميا في مواجهة الإخوان، خصوصا أن هذه الفترة أفرزت أصواتا تنويرية تتصدى للإسلاميين، لكنه لا يعرف سببا حقيقيا لهذا التراجع في الوقت الحالي، مرجحا أن تكون الدولة متوجسة من فئة المثقفين المحسوبين على ثورة 25 يناير، حيث يتعامل بعضهم معها كأنها خصمهم.

التراجع طال أيضا الأغنية الوطنية التي كانت سمة دولة يوليو، فمن يتصدر المشهد الآن هم نجوم المهرجانات الشعبية فيما يعاني الجيدون أصحاب الرصيد من البطالة منذ زمن طويل في وقت تلجأ الدولة إلى مطرب إماراتي لإحياء حفلاتها الوطنية في غياب واضح للأغنية الوطنية، وفقا لـ “دوير”.

 إلا أن الناقد الفني خالد محمود يرى أن لكل زمنه أولاده وإسهاماته المختلفة، فالدور القومي وإن خفت قليلا لكنه ظهر خلال ثورتي 25 يناير و30 يونيو من قبل المثقفين والفنانين، كما أن الدولة عادت تشرف على بعض الأفلام القومية والعسكرية مثل الممر والاختيار.

بالنسبة لمحمود، فالأزمة تكمن في المتغيرات، فدور القوة الناعمة الحالية أصعب في جمع الناس حول وسائل مختلفة وسريعة في ظل حياتنا الحالية بعكس الزمن القديم كان الجميع يلتف حول إذاعة واحدة للاستماع إلى أم كلثوم”.