لا تزال ثورة 23 يوليو بقيادة تنظيم الضباط الأحرار، والتي قامت بالسيطرة على البلاد وعزل الملك فاروق، وممارسات مجلس قيادتها في السنوات التالية عليها، تخضع للمحاكمات التاريخية، حيث تواجه “سلطة يوليو” اتهامات بالديكتاتورية، والقضاء على الديمقراطية، والحياة النيابية والحزبية في مصر.

وتتمتع مذكرات الضباط الأحرار بأهمية كبيرة في رسم صورة واقعية عما حدث، كونهم كانوا جزءًا من صناعة الأحداث في السنوات الأولى للسلطة.

يوسف صديق والليلة الموعودة

بينما كان البكباشي يوسف صديق، يتعرض لنزيف حاد في رئته اليسرى، مساء يوم 20 يوليو عام 1952، كان جمال عبد الناصر، وعبد الحكيم عامر، يزورانه في منزله بحلمية الزيتون، لإبلاغه بتقديم موعد التحرك لاحتلال قيادة الجيش لـ ليلة 23 بدلًا من 26 يوليو.

فكر “عبد الناصر”، و”عامر”، بعد رؤيتهما حالة “صديق”، بإلغاء مهمته المتمثلة في التوجه بقوة صغيرة، لمقر القيادة العامة للجيش بكوبري القبة عقب احتلالها، وخاصة أن مهمته  كانت لا تنطوي على أهمية كبيرة لأنه لم يكن تحت يديه غير قوة صغيرة مكونة من 60 جنديًا من كتيبة “مدافع الماكينة” التي كانت لم تصل بعد من العريش، والتي يشغل منصب قائدها الثاني، لكن “صديق” أصر على المهمة مناشدًا رفيقيه  بعدم حرمانه من حلم عمره، كما ورد في مذكراته “أوراق يوسف صديق” والتي حررها الدكتور عبد العظيم رمضان.

وفي ليلة 23 يوليو، جمع “صديق” القوة المكونة من 60 جنديًا و12 ضابطًا، وأخبرهم في خطاب حماسي قصير أنهم متوجهون لعملٍ وطني كبير سيفخرون به طيلة حياتهم، لكن مندوب الضباط الأحرار أخبره خطئًا، أن ساعة الصفر الثانية عشر منتصف الليل، بدلًا من الواحدة صباحًا ما أدى لتحركه مبكرًا.

الاستيلاء على مقر القيادة

تحرك “صديق” إلى مبنى القيادة يتقدم قواته، ولاحظ عدم وجود حواجز للضباط الأحرار كما كان متفقًا عليه، ومع كل الأسئلة التي أثيرت في رأسه عن تأخر زملائه في القيام بمهامهم، واصل السير نحو قيادة الجيش، وفي طريقه شاهد سيارة بداخلها اللواء عبد الرحمن مكي، قائد الفرقة الثانية مشاة، الموالي للملك، فأمر باعتقاله، ثم لحق به نائبه العميد عبد الرؤوف عابدين، فاعتقله أيضًا واصطحبهما معه أسيرين.

ثم توقف جنوده وقبضوا على شخصين بزي مدني اتضح أنهما “عبد الناصر” و”عامر”، ليخبراه بأن الملك علم بتحركهم وأن قادة الجيش مجتمعون الآن، فاقترح عليهم توجهه لاحتلال مقر القيادة والقبض على القادة المجتمعين، ورغم ضعف القوة التي كانت معه، وضعف تسليحها، نجح يوسف صديق في احتلال مقر القيادة والقبض على قيادات الجيش المجتمعين وعلى رأسهم الفريق حسين فريد قائد الجيش.

الصدام مع مجلس الثورة

تقديرًا لدور “صديق” الكبير في نجاح خطة الضباط الأحرار في الاستيلاء على قيادة الجيش، ضمه الضباط الأحرار إلى مجلس قيادة الثورة، ولكن مع أولى إجراءات المجلس نشأ صدام قوي بين “صديق” والمجلس، حيث رفض  قانون تنظيم الأحزاب الذي رآه يقضي على الحياة الحزبية، ورفض اعتقال السياسيين، والرقابة على الصحف، ووقف إلى جانبه خالد محيي الدين، واعترض على إعدام العاملين “خميس والبقري”، لكن الواقعة التي دفعته للاستقالة من “مجلس قيادة الثورة” عام 1953، كانت اعتقال عدد من ضباط المدفعية بعد اجتماع مع المجلس طالبوا فيه بأن يكون تمثيل الضباط في مجلس قيادة الثورة بالانتخاب، وهو ما كان “صديق” يؤيده.

إبعاد

تم إبعاده عقب الاستقالة إلى أسوان، ثم إلى سويسرا بحجة العلاج، ثم إلى لبنان، ورفض المجلس عودته لمصر، فعاد سرًا إلى بلدته “المصلوب” ببني سويف، وأرسل برقية للرئيس محمد نجيب يخبره بعودته، ويجدد استقالته من المجلس والجيش، فتم تحديد إقامته في بلدته، ثم انتقل إلى منزله في حلمية الزيتون ووضع أيضًا تحت الإقامة الجبرية.

وشارك في أحداث مارس 1954، وأرسل خطابًا لنجيب مطالبًا بالديمقراطية التي قتلها ضباط يوليو، ومحددًا سبل حل الأزمة، بدعوة البرلمان المنحل لتولي مهامه التشريعية، وتشكيل وزارة تضم الوفد والإخوان والاشتراكيين والشيوعيين، تشرف على الانتخابات البرلمانية حتى يختار الشعب حكامه ويعود الجيش لثكناته، ليتم القبض عليه حتى عام 1955 ويخرج محددة إقامته في منزله لسنوات طويلة، قبل وفاته في مارس من عام 1975.

تقسيم المناصب

يذكر المؤرخ أحمد حمروش، عضو الضباط الأحرار، في كتابه “قصة ثورة 23 يوليو” أنه بعد إعلان الجمهورية يوم 18 يونيو عام 1953 برئاسة محمد نجيب مع احتفاظه برئاسة الوزراء، عُين “عبد الناصر” نائبًا لرئيس الوزراء ووزيرًا للداخلية، وصلاح سالم وزيرًا للإرشاد، وعبد اللطيف البغدادي وزيرًا للحربية، وعامر قائدًا للقوات المسلحة بعد ترقيته لرتبة لواء، وهي الخطوة الأهم، حيث كانت بداية قطع الاتصال بين أعضاء المجلس والجيش، والذي سيطر عليه” عامر”، بينما سيطر “عبد الناصر” على مجلس قيادة الثورة.

صراع “نجيب” مع مجلس الثورة

نشب صدام بين مجلس قيادة الثورة ومحمد نجيب، والذي رفض القبض على النحاس باشا، واعترض على إعدام إبراهيم عبد الهادي، وإعدام البكباشي حسني الدمنهوري، ووصل الصدام وتبادل الاتهامات للحد الذي اقترح أحد الأعضاء اغتيال “نجيب”، ما عارضه بشدة عبد اللطيف البغدادي قائلًا: “إن الثورة ستضيع لو نُفذ هذا الأمر”، وهو ما يذكره “حمروش” أيضًا في كتابه.

ويقول “نجيب” في مذكراته “كنت رئيسًا لمصر”: “بعد إعفاء رشاد مهنا من الوصاية على العرش، عُين في منصب مدني كبير لإرضائه، وبعدها عُين 18 من كبار الضباط في مناصب مدنية ودبلوماسية، ما فتح الباب لتعيين الضباط في مناصب مدنية ذات نفوذ قوي ودخل كبير، وحاولت إغلاق هذا الباب وعودة الضباط للثكنات وترك البلد للسياسيين، لكن العسكريين كانوا قد اخترقوا كل المجالات وصبغوا الحياة المدنية باللون الكاكي”.

استقالة ثم عودة

معركة طويلة خاضها “نجيب” والذي كان يقف وحده ضد أعضاء مجلس قيادة الثورة، بدعم وحيد من خالد محي الدين، معركة انتصر “نجيب” في أولها بعدما قدم استقالته وأجبرت المظاهرات “مجلس قيادة الثورة” على إعادته لمنصبه، فيما عرف بقرارات 5 مارس، وتضمنت: “حل مجلس قيادة الثورة، وعودة نجيب رئيسًا لجمهورية برلمانية، وتشكيل خالد محي الدين حكومة انتقالية، وإجراء انتخابات لجمعية تأسيسية تضع دستورًا دائمًا، وعودة أعضاء مجلس الثورة لوحداتهم”.

ويؤكد “حمروش” أن القرارات اتخذت للتهدئة، تحت ضغط الجماهير، وبعض أسلحة الجيش، مثل سلاح الفرسان، وهو السلاح التي كانت الأفكار الديمقراطية تجد فيه مجالا خصبًا للنمو، إضافة لما لقيه “عبد الناصر” من هجوم عند حضوره اجتماعًا بثكنات السواري، اعتراضًا على إبعاد “نجيب”، حيث قال “عبد الناصر” بعدها لأعضاء مجلس الثورة، إنه أثناء اجتماعه في ثكنات السواري، شعر والدبابات تتحرك أنها على وشك القيام بانقلاب عسكري، فخرج المجلس مرغمًا بالقرارات الخمس.

بعدها انفجرت أربعة قنابل في أماكن متفرقة من القاهرة، لمح “نجيب” إلى مسؤولية بعض أعضاء المجلس عن التفجيرات، قائلًا: “إنه لا يوجد صاحب مصلحة سوى هؤلاء الذين يريدون تعطيل مسار الشعب نحو الديمقراطية”.

عادت موازين القوى بفعل عدة تناقضات لصالح مجلس قيادة الثورة، واندلعت المظاهرات المدبرة كما وصفها “نجيب”، وقال خالد محي الدين عندما سمع عنها “عساهم ألا يكونوا قد هتفوا بسقوط الحرية والبرلمان والحياة النيابية”، لكنهم كما قال “حمروش” هتفوا فعلًا بسقوط الديمقراطية والحرية يوم 28 مارس 1954.

أخبر قائد الحرس الخاص، “نجيب”، ليلة 27 مارس، بالمظاهرات المدبرة، بمشاركة الحرس الوطني ومديرية التحرير وعمال النقل، ونصحه بعض الضباط بتشكيل وزارة مدنية برئاسة وحيد رأفت، واتخاذ إجراءات ضد أعضاء المجلس، لكن خالد محي الدين أقنعه بعدم فعل ذلك.

في اليوم التالي زار “نجيب” الإسكندرية بصحبة الملك سعود، فاعترضته مظاهرات هتفت “لا أحزاب ولا برلمان”، فعقد اجتماعًا مع “عبد الناصر” و”عامر” وعدد من أعضاء المجلس وقدم استقالته ولكن “عبد الناصر” لم يرد قبولها قبل تصفيته جماهيريًا، يقول “نجيب” عن هذا اليوم: “انتهيت أنا والديمقراطية في يوم واحد”.

وتتابعت قرارات مجلس قيادة الثورة، فحل مجلس نقابة الصحفيين، وقَبِلَ “عبد الناصر” استقالة خالد محي الدين من المجلس، ورفض بقائه في مصر، فسافر لسويسرا، وتوسعت الاعتقالات والمحاكمات، وسجن العديد من الضباط المعارضين، والصحفيين، والشيوعيين، والإخوان، وقيادات “حدتو”.

عزل “نجيب”

في 14 نوفمبر 1954 توجه “نجيب” لمكتبه بالقصر الجمهوري، فجاء “عبد الحكيم عامر” و”حسن إبراهيم”، وقالا له إن مجلس قيادة الثورة أعفاه من منصبه كرئيس للجمهورية، ويقول في مذكراته: “خرجت معهما وركبت مع حسن إبراهيم لمنزل بالمرج، ووضعت تحت الحراسة، وقال لي عامر إن إقامتي بالمرج لن تستمر إلا بضعة أيام لكني مكثت في المرج من نوفمبر 1954 إلى أكتوبر 1984.