أدرك جمال عبد الناصر وتنظيم الضباط الأحرار إن نجاح ثورة 23 يوليو وعزل الملك يتطلب تكوين ظهير شعبي للثورة يضم كافة الأطياف المختلفة في المجتمع المصري، فعمل على التقارب مع كافة القوى السياسية الفاعلة في المجتمع في ذلك الوقت.

قبل ثورة 23 يوليو، كانت الساحة السياسية في مصر تضم ثلاثة قوى فاعلة، الإخوان والوفد والشيوعيين، لذا لم يكن غريبًا أن نجد “عبد الناصر” وتنظيم الضباط الأحرار يعملان على التقارب مع هذه القوى، بل وضم العديد من أفرادها إلى التنظيم، انتظارًا لساعة الصفر وقيام الثورة.

النجاح في جمع مختلف أطياف الشارع المصري لم يكن من خلال وجود ممثليه فقط داخل مجلس قيادة الثورة، أو التنظيم الوليد الذي تشكل، بل أيضًا في تثبيت دعائم ذلك مجتمعيًا، فلم تكن حركة الضباط لتنجح إلا بالدعم الشعبي، وهو ما مكن هذه الحركة من أن تأخذ الطابع والشكل الثوري في لحظة انطلاقتها الأولى، نظرًا لما استطاعت جمعه من تأييد جماهيري واسع لها بالتشابك السياسي مع التنظيمات المتجذرة في الشارع المصري خارج الجيش وداخله، ولم يكن هذا الأمر وليد الصدفة، فقد خطط “عبد الناصر” ورفاقه الأوائل بعناية لهذا التنظيم والتشكيل المتمرد على الوضع، وأرسوا دعائم التشابك مع الحركات السياسية بالخارج، سواء الإخوان أو الشيوعيين أو حتى الوفد والقصر أحيانًا، لخلق ظهير مجتمعي لهذا التحرك، يحول دون إجهاضه مبكرًا.

ونجحت “ثورة يوليو” في الحصول على تأييد فريد من كل التيارات السياسية الفاعلة في الواقع المصري، فأيدها من جهة اليمين “الإخوان المسلمين” واعتقدوا بقوة تأثيرهم عليها عبر أعضاء “التنظيم السري” المتغلغل داخل تشكيلات “الضباط الأحرار”، كما أيدتها من جهة اليسار أقوى التنظيمات الشيوعية وقتها “حركة حدتو”، والتي كانت الوحيدة التي أُبلغت بموعد التحرك قبل حدوثه بـ 24 ساعة، وكان بيان تأييدها مطبوعًا وجاهزًا للتوزيع بمجرد تحرك التشكيلات العسكرية، ولكن كيف نجح الضباط الأحرار في جمع ألوان الطيف السياسي خلف حركتهم قبل 23 يوليو 1952؟.

الإخوان المسلمين”

تشكلت الخلية الأولى للإخوان المسلمين في الجيش من سبعة أفراد، بينهم ثلاثة أصبحوا في مجلس قيادة الثورة، وهم جمال عبد الناصر وكمال الدين حسين وخالد محيي الدين، وتحت قيادة النقيب عبد المنعم عبد الرؤوف قائد السرب بسلاح الطيران استمرت اجتماعات الخلية أسبوعيًا في الفترة من 1944 وحتى أوقفتها حرب فلسطين عام 1948.

حسين حمودة أحد أعضاء الإخوان في تنظيم “الضباط الأحرار”، يكشف في كتابه “أسرار حركة الضباط الأحرار والإخوان المسلمون”، أن الأعضاء السبعة أقسموا يمين الولاء للجماعة أمام “عبد الرحمن السندي” رئيس التنظيم السري الخاص، وكان القسم على المصحف والمسدس، وبعدها كلف أعضاء الخلية بتدريب شباب الإخوان على السلاح.

أصدر “النقراشي” رئيس وزراء مصر قرارًا بحل جماعة الإخوان عام 1948 أثناء حرب فلسطين، لكن جمال عبد الناصر استخدم قوائم عضوية الإخوان في تأسيس “الضباط الأحرار بعد العودة من فلسطين وكان قد حصل عليها وفق حسين حمودة في كتابه الذي أكد خلاله أنه: “في عام 1949 قبل وفاة محمود لبيب وكان قد دهمه المرض، زرته وأنا في إجازة ميدان، فوجدت عنده جمال عبد الناصر ببيته بحي الضاهر، وكانت حالة محمود لبيب الصحية متأخرة، وقال محمود لبيب إني سأموت ولن أعيش طويلًا وسأكتب الآن مذكرة بأسماء الضباط الذين يشملهم التنظيم السري والمبالغ المتبقية لدي من الاشتراكات وسأسلمها لجمال عبد الناصر”، وغادر عبد الناصر ومعه قوائم التنظيم وقائمة الاشتراكات.

وحسب شهادة اللواء جمال حماد والملقب بـ “مؤرخ الثورة” “ثبت بما لا يقبل الشك أنه لم يكن لدى أحد من الأحزاب السياسية أو التنظيمات الوطنية علم مسبق بموعد حركة الجيش المنتظرة سوى قيادة جماعة الإخوان المسلمين، فلقد حرص جمال عبد الناصر على إجراء عدة اتصالات مع بعض قادة الجماعة، وأنبأهم بموعد الحركة، وطلب منهم مؤازرة الجماعة ومساعدتهم”.

أيد “الإخوان” الثورة في بيان للمرشد العام “حسن الهضيبي” نشرته مجلة البيان في 29 يوليو 1952 جاء فيه “في الوقت الذي تستقبل البلاد فيه مرحلة حاسمة من تاريخها بفضل هذه الحركة المباركة التي قام بها جيش مصر العظيم، أهيب بالإخوان المسلمين في أنحاء الوادي أن يستشعروا ما يُلقي عليهم الوطن من تبعات في إقرار الأمن، وإشاعة الطمأنينة، وأخذ السبيل على الناكثين ودعاة الفتنة، ووقاية هذه النهضة الصادقة من أن تمس روعتها وجلالها بأقل أذى أو تشويه، وذلك بأن يستهدفوا على الدوام مثلهم العليا، وأن يكونوا على تمام الأهبة لمواجهة كل احتمال”.

رشح “الإخوان” علي ماهر لرئاسة أول حكومة تشكلها الثورة، وهو ما لقي تأييد جمال عبد الناصر وأغلب أعضاء مجلس قيادة الثورة، وبعد إقالته في أواخر 52 حاول “عبد الناصر” إشراكهم في تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة اللواء محمد نجيب، لكن مكتب الإرشاد رفض ذلك حسب ما ورد في كتاب “كنت رئيسا لمصر” للواء محمد نجيب.

رفض الإخوان للمشاركة في الحكومة كان أول صدام بينهم وبين الثورة، حيث اعتبر مكتب الإرشاد أن الاشتراك في الحكومة “يُضعف الإخوان ويقوي الثورة، لأنه يعطيها لونًا إسلاميًا يبرز مكانتها وسط الجماهير المصرية المسلمة، ويمنحها ولاء الإخوان في كل مكان”.

ووضعت محاولة اغتيال عبد الناصر في المنشية عام 1954 نهاية دموية للعلاقة بين الثورة والإخوان، بعد أن أطلق محمود عبد اللطيف عضو الجهاز السري للإخوان النار على رئيس الوزراء وقتها جمال عبد الناصر أثناء إلقائه خطابًا جماهيريًا في المنشية، لتبدأ بعدها حركة تنكيل واسعة بهم، بعد تجديد قرار حل الجماعة باعتبارها غير شرعية.

حدتو”.. التأييد المطلق للتنكيل

ضم مجلس قيادة الثورة عضوين هما يوسف صديق وخالد محيي الدين “الذي ترك تنظيم الإخوان بعد حرب فلسطين” كانا ما يزالا فاعلين داخل أقوى تنظيم شيوعي في ذلك الوقت، الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني “حدتو” والتي نشأت من توحيد المنظمات الشيوعية في حركة موحدة تحت قيادتها عام 1951، وكانت مطبعة الحركة السرية تستخدم في طباعة منشورات “الضباط الأحرار” وتتولى شبكة توزيع “حدتو” نشرها بين الشعب المصري، وهي المطبعة التي تم مهاجمتها والحكم على الشاب الأرميني بها، والذي كان يتسلم منشورات الضباط الأحرار من جمال عبد الناصر، بالسجن 8 سنوات، ووضعت ماكينة الطباعة في متحف الثورة على أنها مطبعة “الضباط الأحرار”.

أيدت “حدتو” ثورة يوليو من اليوم الأول، وكانت قيادة الحركة قد أُبلغت بموعد التحرك قبل 24 ساعة، وأعدت بالفعل منشور التأييد الذي وُزع صباح يوم 23 يوليو، وترأس يوسف صديق “مجلة التحرير” لسان حال مجلس قيادة الثورة في إصدارها الأول، قبل أن يقيله جمال عبد الناصر الذي قال “إن المجلة شيوعية ويجب إقالة رئيس تحريرها”.

الصدام الأول بين الحركة والثورة كان بسبب إضراب عمال كفر الدوار، والذي كان أول احتجاج جماهيري بعد الثورة، حيث قررت المحكمة العسكرية إعدام عاملين هما خميس والبقري، والذي أثار الرأي العام العالمي من كل الاتجاهات، حيث هاجمت الأحزاب الشيوعية الحكم، واعتبرته كاشفًا عن عداء حركة يوليو للعمال، بينما هاجمته الدول الغربية باعتباره كاشفًا عن “فاشية” الثورة.

توترت العلاقة بين “حدتو” ومجلس قيادة الثورة بسبب الحكم، لكن ظلت الحركة تؤيد الثورة وتعتبرها حركة وطنية معادية للاستعمار والإمبريالية الغربية، ورغم بعض البيانات المناهضة لبعض قرارات مجلس قيادة الثورة مثل إلغاء الدستور وحظر الأحزاب، ظل التيار الرئيسي في اليسار مؤيدًا بتحفظ لحركة يوليو حتى صدور قرار تأميم القناة والعدوان الثلاثي على مصر في 1956، حيث تحول اليسار بشكل جارف في اتجاه التأييد المطلق واعتبار الثورة “معادية للإمبريالية” خاصة بعد الاقتراب من الاتحاد السوفيتي ومشروع بناء السد العالي.

ورغم التأييد الواسع للثورة في أوساط اليسار، لم يتوقف اعتقال الشيوعيين منذ اللحظة الأولى للثورة، بل وتحول الاعتقال من أفراد محدودة إلى تدمير للمنظمات الشيوعية والقبض على كل عناصرها، مع تعرضهم للتعذيب الوحشي في السجن بداية من عام 1959 والتي استمرت خمس سنوات، ولم يتم الإفراج عنهم إلا بعد حل المنظمات الشيوعية وقبول الكثير منهم الانضمام للاتحاد الاشتراكي كأفراد وليس منظمات.

الوفد

الرئيس المصري السابق “أنور السادات”، والذي يكشف في كتاب “أسرار الثورة المصرية”  أن كل القوى السياسية قد ادعت دورها الفاعل والحاسم في نجاح الثورة، ولم يقتصر الأمر على الشيوعيين والإخوان المسلمين فقط، بل وصل الأمر إلى الوفد الذي أشاع حسب “السادات” “قصصًا كثيرة وروايات محبوكة عن قيام الثورة بالاتفاق مع الوفد وعن مستقبل الثورة الموضوع بين أيدي رجال الوفد”.

القصر

يكشف “السادات” كيف استخدم الضباط الأحرار كل وسيلة وكل صلة لهم بالتيارات السياسية الأخرى، بل وحتى القصر لمصلحتهم، ويدلل بواقعة القبض على الضابط حسن علام أثناء طباعته منشورًا ضد الأوضاع التي تمر بها مصر في ذلك الوقت، واتهامه بالانتماء إلى الضباط الأحرار ولم يكن منهم، يقول السادات “وكانت فرصة لنا.. فأنا أذكر أننا لم ندع أي وسيلة في تلك الأيام إلا استعنا بها لإثبات هذه التهمة عليه.. وقد ثبت فعلًا واتجهت أنظار القصر والقيادة وجهة أخرى تمامًا في كل أبحاثهم الخاصة بالكشف عن حقيقة الضباط الأحرار”.