“إننا نعيش الآن لحظة مجيدة في تاريخ وطننا … نقف على عتبة مرحلة حاسمة من مراحل كفاح شعبنا … لقد وضع الهدف الأكبر من أهداف الثورة منذ هذه اللحظة موضع التنفيذ الفعلي … فقد وقعنا الآن بالأحرف الأولى اتفاقاً ينهى الاحتلال … وينظم عملية جلاء القوات البريطانية عن أرض مصر الخالدة … وبذلك تخلص أرض الوطن لأبنائه شريفة … عزيزة… منيعة، بعد أن قاست اثنين وسبعين عاماً مريرة حزينة” هكذا خطب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في الإذاعة المصرية أثناء توقيعه على اتفاقية الجلاء في 27 يوليو 1952.

رسم “ناصر” خلال الخطبة ملامح العلاقة بينه وبين الشعب، ورغم عدم انتشار التلفاز في مصر في هذا الوقت والاعتماد الكلي كان على الراديو والصحف، إلا أن “ناصر” كانت له الكاريزما الخاصة في تكوين علاقة ودودة مع الشعب، ووظف في ذلك نبرات صوته، ووقفاته ولزماته، حتى صوت ضحكته، كان له دلالاته دائماً، إلى أن انتشرت أجهزة التلفاز في أنحاء المحروسة، وبدأ معها عهد جديد من حالة الود بين “ناصر” وشعبه، كان البطل فيها الوئام غير المبرر أو المفهوم بين الطرفين.

 لغة جسد

منذ ما يقرب من ربع قرن تقريبًا، بدأ علم لغة الجسد في الظهور والانتشار، والذي ساعد كثيرًا في اكتمال صورة الأفراد عن بعضهم البعض، وكذلك ساعد في فهم طبيعة شخصية الرؤساء والمشاهير، حتى أن هناك بعض الأبحاث العلمية تتناول تفسير وتحليل لغة الجسد كعلم يُستدل منه على طبيعة الأفراد وانفعالاتهم ومميزاتهم وسماتهم.

أكثر من 1000 خطبة هي إجمالي عدد الخطب التي ألقاها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر منذ عام 1952 وإلى عام 1970، منها المسموع ومنها المرئي، بعضها رسمي مكتوب، وبعضها ارتجالي تتخلله روح الفكاهة والسؤال والجواب بينه وبين المواطن، اختلفت المواقف التي ألقى فيها “ناصر” خطاباته، لكنها شكلت مكونًا معرفيًا ثابتًا حول شخصية الزعيم.

هيبة وقيادة رغم الحزن

دائماً ما تعطي حركات اليد دلالة أسرع بالنسبة للعين، جملة شهيرة يرددها علماء النفس، تعبيراً عن ضرورة توظيف الإشارات التي يصدرها الجسد في تفسير سمات شخصية أصحابها.

تقول منى إبراهيم، أخصائية لغة الجسد، هناك حركات لازمت الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ساعدت كثيراً في توصيف شخصيته، منها مثلاً حركته الشهيرة بلمس وضبط جاكت بدلته، بشكل ملفت طوال الجلسات الرسمية وخلال خطاباته، موضحة أن انشغال الشخص بمظهره الخارجي أثناء حديثه يدل على محاولاته للظهور بمظهر قوي داخلياً وخارجياً، من أجل وصول إلى أقصى درجات الوفاق بين المتلقين للحديث، حتى في أصعب الخطابات وأقساها على الشعب المصري.

باحتدام شديد، وصوت ثابت متزن رغم الحزن الطاغي عليه يقول “ناصر” في واحد من أكثر الخطابات قسوة بالنسبة له وهو خطاب التنحي الذي ألقاه تحديدًا في 9 يونيو 1967، حيث قال: ” نصل الآن إلى نقطة مهمة في هذه المكاشفة بسؤال أنفسنا: هل معنى ذلك أننا لا نتحمل مسؤولية في تبعات هذه النكسة؟ وأقول لكم بصدق – وبرغم أية عوامل قد أكون بنيت عليها موقفي في الأزمة، فإنني على استعداد لتحمل المسؤولية كلها، ولقد اتخذت قراراً أريدكم جميعاً أن تساعدوني عليه: لقد قررت أن أتنحى تماماً ونهائياً عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدي واجبى معها كأي مواطن آخر”.

وقع الخطاب على الشعب المصري كالصاعقة لكنه كان له مفعول السحر، فرغم مرارة الخطاب إلا أنه ألهب قلوب المصريين الذين خرجوا إلى الشوارع للهتاف باسمه ومطالبته بالعدول عن قراره وبالفعل تراجع “ناصر” عن قرار التنحي.

نبرة صوت “ناصر” كان لها مفعول السحر، فاتسم صوته وقتها بعمق شديد، نطقه للحروف كان ثابتًا، نبرة صوته متفاوتة بين الارتفاع والانخفاض، لكنها ثابتة من حيث نوع النغمة نفسها وهي حزينة.

 تواضع وتقارب اجتماعي

أيضاً من أكثر الأمور الملاحظة في حركات جسد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر هي الأوضاع التي كان يتخذها، خاصة وقت الجلوس على الأرض للصلاة، فظهرت صور كثيرة للزعيم وهو يجلس على الأرض ويتكئ بيديه على ركبتيه ناظراً للأرض أو يضع رأسه باتجاه الأرض بين قدميه أثناء الجلوس.

تقول أخصائية لغة الجسد إن الأوضاع التي اختارها “ناصر” للجلوس بين الصلاة والخطبة في المساجد كانت شديدة الذكاء، فهو اختار الوضعية الأكثر تشابهًا مع وضعية جلوس المصريين بشكل عام، فبالتمعن والنظر نجد أن وضعية جلوسه اختارها من قلب الشعب، وهو ما يجعل أي فرد داخل المسجد يرى “ناصر” على أنه مواطن عادي، تعمد الابتعاد عن الحرس الخاص، وجميع المظاهر التي تفصله عن الشعب والقرب منه.

ظهر هذا أيضاُ في أكثر من مشهد جمعه بالحشود، لازمه خلالها أمران، الضحكة الواضحة ورفع يديه اليمنى أو اليدين معاً لتحية الحشود، وهو ما يشير لتواضع كبير وعلاقة ودودة تصل لوجدان الجمهور.

اللغة العامية والارتجال

أيضاً استخدام “ناصر” اللغة العامية والارتجال في بعض الخطابات، ودمجها في اللغة الرسمية، الأمر الذي ساعد كثيراً في دعم سمة التواضع والقرب من الجمهور، ظهر ذلك جلياً في خطاباته.

في 26 يوليو من عام 1956 في خطبة تخطت مدتها ساعتين قال فيها : “شركة قنال السويس – اللى قاعدة في باريس – شركة مغتصبة، اغتصبت امتيازاتنا” وبعد شرح وجهة نظره في الأمر، قال بحسم : “لهذا قد وقعت اليوم، ووافقت الحكومة على القانون الآتي: قرار من رئيس الجمهورية بتأميم الشركة العالمية لقنال السويس البحرية”، وكان القرار الأقوى في الحياة الحاكمة لناصر، اتسم خلالها بالقوة في نبرات الصوت خاصة في نطقه للجملة الأخيرة، (لهذا قد وقعت اليوم) فهي تشير إلى نوع من القيادة والقوة والقدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة في الوقت المناسب  .

نسج من لغة الشعب

من أكثر السمات التي ميزت خطابات الزعيم الراحل جمال عبد الناصر أنه كان يأخذ من لغة الشعب وينسج حواراته وتعليقاته معهم، ففي الحادث الشهير الذي تعرض فيه للاغتيال في ميدان المنشية في 26 أكتوبر عام 1954 بمناسبة عيد الجلاء، ووقت التصفيق الحار والهتاف خلال خطبة ناصر تعالت أصوات الطلقات، التي تبين أنها كانت محاولة لاغتيال جمال عبد الناصر فإذا به يتدارك الأمر وسرعان ما يقول بعد فترة قصيرة من الفوضى عمت المكان ثم عادت الأمور لطبيعتها فيقول: ” فليبق كل في مكانه.. أيها الرجال.. أيها الأحرار.. فليبق كل في مكانه.. دمى فداء لكم.. حياتي فداء لكم.. دمى فداء مصر.. حياتي فداء مصر”.