“لا ييأس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العالية، فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيدبرون الأمور، وبذلك يصلح حال الأمة كلها”
بعض عبارات من بيان “بونابرت” لأهالي مصر، والذي يأتي “محمد علي” بعدها بسنوات قليلة ليطبقه ويسير على نهجه، بدعم ومساعدة من “السان سيمونيين” الفرنسيين الذين شاركوا “محمد علي” حلمه وعمله، فيكتشف قدرة المصريين ويستفز هممهم، ليتمكن المجتمع المصري من النهوض في سنوات قليلة.
ويبدو أن العلاقة الجدلية بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي تظل قائمة وممتدة دوما، فالتطور التقني والعلمي الذي شهدته مصر في بدايات القرن التاسع عشر، واهتمام محمد علي بالنهضة العلمية والثقافية، واللحظة التاريخية التي يعيشها المصريون، ينعكس عبر تطورات فكرية ذات دلالة، فها هو الشيخ (الأزهري) رفاعة الطهطاوي يقدم وصفا دقيقا للحياة في باريس، في كتابه المعنون: تخليص الإبريز في وصف باريز”. يدعو فيه المصريين للتبصر في التطور والأخذ بأسبابه، ويبادر باقتراح عملي لإنشاء مدرسة الألسن لتكون مدرسة للترجمة التي تقدم الفكر الأوروبي الحديث، بل ويترجم كثيرا من الكتب، يقدم فكرا جديدا، ويشيد المؤسسات التربوية التي تخرج طلاب علم وتلاميذا يسهمون في التقدم ويشاركون في التطور ويصنعون الاستنارة.
ومنذ اللحظة الأولى لبناء مصر الحديثة حدثت مواجهات ذات دلالة بين النهضة المصرية والمد الوهابي، ووصلت المواجهة إلى الاقتتال، وللدرجة التي يطرح بعض المؤرخون رؤية مفادها أن الحرب المصرية إبان حكم “محمد علي” ضد الوهابية كان هدفها الرئيس منع هذا المد الفكري الديني الرجعي من التمدد وإرغامه على التراجع في إطار جغرافي لا يتعداه. مثلما واجهت الرؤية الدينية في مصر هذا المد الوهابي ورفضته عبر أطروحات ذات دلالة ومن خلال عناصر جوهرية، فبينما تضع الوهابية الأحاديث والسنة في المقدمة على نصوص القرآن، تقدم الرؤية الدينية في مصر نصوص القرآن على ما عداه وتضعها كحاكم لكل ما عداها. وبينما يرفض الوهابيون مسألة التأويل رفضا قاطعا للدرجة التي تجعلهم يقبلون بنصوص مجازية في ذاتها مثل نصوص التجسيد (يد الله فوق أيديهم). تقبل الرؤية الدينية في مصر بالتأويل وإن كانت تضعه في شروط ومعايير.
وتتساءل حول طبيعة العلاقة التي يمكن أن تكون بين (النص المقدس) و(النص الإنساني) وخاصة فيما يتعلق بآليات التفسير والتأويل التي سعى “الإنسان” إلى وضعها بغرض استبيان أو كشف غموض (النص الإلهي) وخاصة إذا ما تبينا أن (النص الإلهي) على وجه الخصوص يمثل حدثا معجزا في العقيدة الإسلامية، وهو نص قابل لاستمرار التأويل لما يحتويه من نصوص عابرة للزمان والمكان، استنادا إلى ما يستجد من وقائع، أو يتكشف من حقائق مفسرة للكون ومفرداته، وكأننا أمام النصوص الغامضة في القرآن إزاء “خبيئة” تمثل أحد مظاهر إعجاز النص وقدسيته، وهو أمر يبدو قاطعا بوصفه عنصرا من عناصر عقيدة الدين الإسلامي منذ البعثة المحمدية وحتى اللحظة الراهنة.
يأتي “محمد عبده” ويستعيد مقولات “ابن رشد” الفقيه والفيلسوف الذي أنار الطريق في أوروبا العصور الوسطى (الرشدية اللاتينية)، والذي ترجمت أعماله إلى اللاتينية لتصنع تنويرا ونهضة، ويقدم بفكره ومقولاته للإصلاح الديني في أوروبا، ويفسح الطريق للأنوار. يقول ابن رشد ويؤكد الإمام: العقل والنقل لازمان للمعرفة، “خصوصا ودعوة الدين إلى الفكر في المخلوقات لم تكن محدودة بحد ولا مشروطة بشرط” على حد قول الشيخ الإمام محمد عبده في كتابه “رسالة التوحيد.
وهنا… تأتي قضية أساسية أخرى لتتقاطع فيها وتتشابه أوضاع الكنيسة في العصور الوسطى الأوروبية والمؤسسات الدينية الإسلامية (إن صح التعبير). فما هو أكيد ومعلوم من الدين بالضرورة أن لا مؤسسة دينية في الاسلام (هكذا أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم). هذه القضية التي اختبرتها الكنيسة وخرجت منها بتجربة وقرار. أما التجربة فكانت أن قياس المطلق على النسبي يضعف من شأن المطلق ويضعه في غير موضعه، وأما القرار فكان: “لا ينبغي أن تتدخل الكنيسة في شئون العلم سلبا أو إيجابا”.
والآن يسعى رجال الدين المسلمين لخوض نفس التجربة عبر ما يطلقون علبه “الإعجاز العلمي في القرآن” ومن ثم قياس المطلق على النسبي، وهو أمر قد ثبت تهافته. يقول الإمام محمد عبده: ليس من وظائف الرسل عمل المدرسين ومعلمي الصناعات وتعليم التاريخ، ولا تفصيل لما يحتويه عالم الكواكب، ولا بيان ما اختلف من حركاتها، ولا ما استكن من طبقات الأرض، ولا مقادير الطول فيها والعرض، ولا ما تحتاج إليه النباتات في نموها، والحيوانات في أنواعها، أما ما ورد من كلام الأنبياء من الاشارة إليها فإنما يقصد منه النظر إلي ما فيه الدلالة علي حكمة مبدعة أو توجيه الفكر إلي القول لإدراك أسراره وبدائعه”.
نحن أمام “نص” قابل دوما للتفاعل الإنساني، قابل للدخول في “جدل” مع معطيات الحياة الإنسانية، وما يطرحه “شخص ما” في مرحلة من مراحل التاريخ، هو تعبير دقيق حول ما توصل إليه في علاقته بالنص المقدس، وحول ما يمكن أن يكون النص قد كشف له / عنه وفقا للتطور (العلمي/ الثقافي / الاجتماعي …الخ) الذي تشهده لحظة التفسير/ التأويل التي قدمها هذا (الشخص) وهوما لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتعامل معه بوصف هذا المعنى الذي يشكل طرحا إنسانيا، ومنتجا إنسانيا، ليصبح (ما قصده الله في نصه).
يعلي الإمام محمد عبده إذن من شأن العقل، ويطرح ببساطة العالم وتمكن العارف رؤاه التنويرية: “ليس قصور الإنسان عن استكناه الأشياء في ذواتها بحائل بينه وبني الاستعانة بعقله على المعرفة الدينية، فإنه بهذا العقل يستعين على كل معرفة تعينه وتنفعه في مصالحه الدنيوية، وعلم العقل الإنساني بقصوره يلهمه تفويض الإيمان بمسائل الغيب، ومسائل الشرع التي لا يتطلبها العقل على صورة من الصور غير صورتها في الدين، كشعائر الفروض وأعداد الركعات في صلوات العبادة ومقادير الزكاة وما إليها، فإن العقل يتقبلها لأنها ضرورية على صورة من الصور، وليس له أن يرفضها على صورة دون صورة”. وهكذا عبر رؤية تنويرية خالصة سطر محمد عبده مقولة كانطية بامتياز ( تفكروا وأطيعوا).
ويقدم الشيخ الإمام للحرية (العنصر الثاني والمكمل للتنوير) بوصفها مسئولية فردية وجماعية: ومسألة القدر — على أي معنى من معانيه — لا تلغي إرادة الإنسان كما ينبغي أن تكون إرادة المخلوق المحدود، ولا تبطل الجزاء كما ينبغي لتلك الإرادة، والعلم السابق بالتكليف والعقاب لا يقتضي بطلان الإرادة النفسية؛ لأن الإنسان قد يريد عامدا ما يعلم أنه معاقَب عليه، وإذ كان علم الله بعمل الإنسان حقيقة، فحقيقة مثلها أنه جعل له إرادة على قدر وسعه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها على أية حال.
وهنا نأتي للتساؤل الملغز. ما الذي حدث من تطورات اجتماعية وثقافية وعلمية …الخ في مجتمعاتنا أعاد الأمور إلى الخلف، وطمس أعمال وفكر المجددين الأوائل من أمثال رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وغيرهما، وجعل البعض يظن أن هذا المنتج الإنساني هو (عين الحقيقة ومآلها الأخير) وهو أمر يمكن أن ينحو بنا منحا مغايرا للغرض منه منذ بداية التفاعل الفكري مع (النص المقدس) على مدار العصور، والتي كانت تنظر للمنتج الإنساني بوصفه ( اجتهادا) يؤجر عليه صاحبه، ولكن لم تتعامل معه بوصفه (منتجا نهائيا)، وهو الأمر الذي يبدو جليا من تكرار المحاولات في تقديم (فهما آخر) أو السعي إلى تقديم (تأويلا/تفسيرا) جديدا للنص المقدس.
في ظني أنه على مدار التاريخ تقدم لنا عصور التدهور والانحطاط الحضاري تجارب وخبرات شبيهة، حيث يتوقف الإبداع، ويتعامل المجتمع مع تراثه الفكري والثقافي بوصفه الحامي له والحافظ لهويته، وهي مشاعر تبدو مشروعة إذ تعبر في صميمها عن أزمته الاجتماعية بالقدر الذي تعبر عن أزمته الوجودية في لحظة ضعف يمر بها المجتمع والفرد على حد سواء، حيث تهاجمه الهواجس من ضياع ما تبقى له من ميراث الفخر الذي ورثه عن آبائه وأجداده، ولم يستطع أن يطوره أو يضاهيه إبداعا، فليس أقل من أن يحفظه.
وقد يصبح هذا الحديث مقبولا بوصفه تحليلا للوعي الجمعي، ولكنه لا ينبغي له أن يتعدى هذه النقطة، فنحن بحاجة لاستعادة روح المبادرة والتجديد التي طرحها رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده، وإذا كان التنوير هو “جسارة التفكير” على حد قول ” إيمانويل كانط” فإننا بحاجة ماسة إلى هذه الروح الشجاعة القادرة على مواجهة الكسل العقلي والجمود الفكري من أجل نهضة تعيد الدم إلى الأوصال المصرية لتسري في العروق، كي نستنهض وعيا أصيلاً شاملاً يعود بالأشياء إلى أصولها العميقة وجذورها الضاربة، في الوقت الذى يمتد بها إلى مستقبلها البعيد واحتمالاته البعيدة، لأن الوعى الأصيل المعافى هو وحده القادر على أن يسبك معطيات الماضي ورؤى المستقبل في دائرة فعله الخلاق.