يحمل مجمع التحرير، سيلًا من الذكريات مع ملايين المصريين الذين تاهوا في أروقته لإنهاء مصالحهم، حيث يمثل المبنى العريق بوسط البلد، كيانًا ضخمًا، ومتاهة من التوقعيات والطوابع والأختام، ومثالًا صارخًا على مركزية المصالح الحكومية في العاصمة.
وتستعد الحكومة لاستغلال مجمع التحرير بشكل استثماري، خاصة بعد الانتقال للعاصمة الإدارية الجديدة وإخلاء المجمع.
مول تجاري
تعول الحكومة، حاليًا، على توسيع شبكة الخدمات الحكومية إلكترونيًا في إنهاء حالة مركزية إنجاز مصالح المواطنين، التي ظلت لصيقة بـ”مجمع التحرير”، منذ إنشائه في الخمسينيات، وتُنفق بسخاء على تطوير بنية الاتصالات والمراكز التكنولوجية لتقليل تقديم الخدمة المُباشرة التي كان يقدمها المجمع، وغيره من المباني الحكومية الشبيهة، لكن يبدو أن الأمر لا يزال بعيد المنال.
اتفق وزراء السياحة والآثار، والتخطيط والتنمية الاقتصادية، والإسكان، أخيرًا، على تحويل المجمع إلى مبنى مُتعدد الوظائف والأغراض، يشمل أنشطة ثقافية وفندقية وتجارية متنوعة، حيث يتم تقسيمه لمول تجاري كبير بالأدوار الأولى، وتحويل منطقة المنتصف لأنشطة المطاعم والبنوك، على أن تكون الطوابق الأخيرة فندقًا سيًاحيًا.
متاهة “التعود”
“محمد محمود”، أكاديمي يعمل في الخارج، يشعر بحالة من التيه منذ توقف المجمع عن تقديم خدماته، فعلى مدار 20 سنة ظل المجمع المكان الذي يقصده لإنجاز مصالحه، وبعدما توجه إلى مقر مصلحة الجوازات بالعباسية لاستخراج جواز سفر لنجله، تم إخباره بأن الاختصاص المكاني لاستخراج جواز السفر الخاص به في روض الفرج بشبرا الخيمة.
يقتصر دور ديوان عام إدارة الجوازات في العباسية حاليًا، على منطقة الوايلي ومزودجي الجنسية والمُهاجرين فقط، مع تقسيم باقي مناطق القاهرة إلى أماكن بعضها كان قريبًا من المناطق المُستهدفة والآخر يتضمن قدرًا من المشقة مثل القاطنين بالشروق والعبور الذين يجب عليهم التوجه إلى مصر الجديدة لإنهاء أوراقهم.
يقول “محمود”، إن اللامركزية تتطلب توسيع شبكات تقديم الخدمة لتكن في أماكن قريبة من المواطن، فاللا مركزية أمر هام لكنها تسير في بعض الجهات وتتراجع في أخرى، فتجديد البطاقات الشخصية لم يعد يتم في أي مركز شرطة كالمعتاد، وأصبح قاصرًا على المكان الذي يتبع له محل الميلاد أو مكان العمل أو المقر الرئيسي بالعباسية، وهو ما يمثل عبئًا على آلاف الوافدين من الأقاليم الذين يعملون كمؤقتين أو عمالة غير منتظمة.
يضم مجمع التحرير، مكاتب تمثل 13 وزارة وأكثر من 25 جهة حكومية، ويتكون من 14 دورًا، بتكلفة إنشاء 2 مليون جنيه، وتم بناؤه على مساحة 28 ألف متر بارتفاع 55 مترًا ويضم 1356 حجرة، كان يزورها يومياً 100 ألف مواطن وقرابة 30 ألف موظف حكومي.
صعوبة اللامركزية
يقول خبراء اقتصاد، إن التحول من النظام المركزي إلى اللامركزي بمصر يتطلب وقتًا لتطبيق مفهوم الإقليمية أو اللامركزية المحلية، ويستغرق المواطنون وقتًا لمعرفة أماكن تقديم الخدمات، أو كيفية الحصول عليها إلكترونيًا.
الدكتور رشاد عبده، الخبير الاقتصادي، يؤكد أن اللامركزية في مصر لن تنتهي بمجرد ترحيلها من المباني وتعزيز الخدمات الإلكترونية، ولكنها مقترنة أكثر بالفكر الإداري ذاته للموظفين، وقدرتهم على توظيف التكنولوجيا وإنجاز مصالح المواطنين بسرعة دون تعقيدات بيروقراطية.
ويضيف “عبده”، أنه من المفترض أن تساعد اللامركزية، في إدارة التنمية القومية الشاملة وتحقيق التوازن في التنمية والحصول على الخدمات بين الأقاليم المختلفة دون تركيزها في العاصمة، إلا أن بنية التطوير لا تزال مرتكزة على المدن الرئيسية فقط، وتعاني من عدم فك التشابكات بين الوزارات والإدارات المحلية وعدم التحديد الدقيق لمسئولية كل منها.
ويوضح أن المركزية، في الأقسام الإدارية والحكومية ارتبطت بمركزية إدارة مصر على مدار العصور سواء في أوجه النشاط الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما أدى في فترات كثيرة لتضارب مصالح الناس واختلاط بعضها ببعض وتعطلها انتظارًا لقرارات من الإدارة المركزية لحسمها ودون القدرة على اتخاذ قرار خاص.
ويشير الخبير الاقتصادي، إلى أن فكرة نقل المصالح الحكومية من ميدان التحرير لتخفيف التكدس من وسط القاهرة، وزيادة الصلاحيات للمراكز الصغيرة للقيام بدورها جيدة، لكنها ستواجه بعض المُمانعة من المواطنين الذين يفضلون المجمع لمكانه بوسط القاهرة، وإنجاز كم كبير من الأوراق في مكان واحد وعدم اعتيادهم حتى الآن على المعاملات الإلكترونية أو كيفية طلبها.
اعتراض الموظفين
تبنت الحكومة، خطة تزويد غالبية الخدمات الحكومية بإنهاء الخدمات عن بعد، وتوصيل الوثيقة أو المستند للمنازل، من بينها تجديد تراخيص البناء، وتراخيص المحال التجارية، وتوصيل المرافق الدائمة، والتصالح في مخالفات البناء، وسداد قيمة المخالفات الواقعة على المركبة، لكنها تحتاج لوقت طويل لإتمامها، فوثيقة بطاقة الميلاد الإلكترونية، تحتاج لثلاثة أيام للتصديق عليها، وبعدها يتم تحويل مقابلها ثم إرسالها للبريد لتوصيلها للمنزل في رحلة تستمر أسبوعًا كاملًا .
مع إغلاق المجمع، عادت كل مصلحة حكومية إلى وزارتها الأم، وهو ما لقي اعتراضًا من الموظفين خاصة كبار السن الذين ربطوا حياتهم بمكان المجمع في وسط القاهرة، حيث اختاروا مساكنهم لتكون قريبة من الميدان، فأصبحوا مطالبين برحلات طويلة لا تتناسب مع أعمارهم أو التعامل مع جهات أكبر نسوا تبعيتهم لها في خضم شعورهم بنوع من الاستقلالية في مكانهم.