الانتحار، تلك الظاهرة التي تحولت إلى مأساة حقيقية في مجتمعاتنا العربية، خاصة في مصر، فكثيرًا ما نسمع بأن شابًا أو فتاة أقدمت على إنهاء حياتها بطريقة أو بأخرى، ولكن المأساة الكُبرى، حين نسمع بأن أبًا قتل أولاده وزوجته، ثم أودى بحياته، هربًا من أزمة ما.
ليس شرطًا أن تكون الأزمة اقتصادية، فدوافع الآباء لارتكاب تلك الجريمة مختلفة، ربما أزمة نفسية واجتماعية، وربما ضائقة مالية، وغيرها من الأسباب العديدة.
يقول تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية في سبتمبر 2019، إن مصر الأولى عربيًا في عدد حالات الانتحار، مُتقدمة بذلك حتى على تلك الدول التي تشهد نزاعات مسلحة وحروبًا أهلية.
لا ينطوي الأمر هنا على انتحار الفرد فقط، بل قتل الأب لأبنائه ثم الإقدام على الإنتحار، وهو ما يعزيه علم النفس والاجتماع إلى مرض نفسي اتخذ فيه المريض نظرية الخلاص من معاناته هو وأحبائه.
وهو ما يراه الأطباء والمحللين النفسيين، في ما أقدم عليه عاطل بإلقاء أبنائه الثلاثة أسفل عجلات القطار بمحافظة المنيا، ثم فر هاربًا ليلقي نفسه في مياه ترعة الإبراهيمية، ولم تكن تلك الحادثة الأولى من نوعها فسجلات الحوادث، مليئة بتلك القضايا، باختلاف أسبابها.
تفسيرات اجتماعية
“إن ما يبدو في ظاهره أفعالًا فردية مثل الانتحار يتطلب تفسيرات اجتماعية في جميع الحالات”، كانت هذه هي الفرضية الرئيسية التي بنى عليها عالم الاجتماع الفرنسي “اميل دوركايم”، بحثه عن الانتحار في خمسينات القرن التاسع عشر، حيث ربط حالات الانتحار دائمًا بالمجتمع المحيط والعوامل المحيطة بالفرد التي تؤثر على قراره.
الدكتورة هالة منصور، أستاذ علم الاجتماع، تؤكد أن المرأة تشعر بالمسؤولية أكثر من الرجل، لذا فإن قرار انتحارها يكون صعبًا للغاية، خاصة عندما تكون أمًا، فإحساسها العاطفي والاجتماعي نحو أبنائها يكون أكثر من الرجل بكثير.
وتُضيف منصور، أن الأم هي من تتحمل أمور الأسرة، أما الأمور المالية فتكون من اختصاص الأب كرب للأسرة، وعندما يجد خللًا في تلك المسؤوليات يهرب بالانتحار لكن المرأة جذورها أعمق بالعائلة وتًفضل سلامتها.
وترى أستاذ علم الاجتماع، أنه كلما ارتفعت حالة اليأس وفُقدان المعايير يرتفع معها حالات الاكتئاب الذي يؤدي للانتحار، وهذا ليس لدى الفقراء فقط بل يلجأ الأغنياء للانتحار وقتل أولادهم لعدم وجود إشباع جديد يعيشون من أجله.
الخلاص من المعاناة
الدكتور علي بهنسي، استشاري الطب النفسي، يرى أن الانتحار له مقدمات تبدأ من تمني الموت، والتفكير فيه كأنه رحمة من الله، ثم تبرير الانتحار وعمل خطة ناجحة للموت واختيار وسيلة مناسبة ومن الممكن أن تأخذ تلك المراحل أسابيع وشهور.
ويوضح بهنسي، أن مشاعر إيذاء النفس تكون صادقة لدى النساء ولكن التفكير في الحياة يكون أعلى من رغبتها في الموت على عكس الرجل، منوهًا إلى أن حالات الانتحار تكون كبيرة لدي السيدات فيما يسمي اكتئاب ما بعد الولادة، ويصبح تفكيرها أن ابنها هو سبب شقائها فتُقدم على قتله وقتل نفسها.
ويسمي استشاري الطب النفسي، ظاهرة قتل الأب لأبنائه بالانتحار المُنتشر الواسع، قائلًا: “اليأس لم يدخل لنفسه فقط بل لقتل أحبته حتى لا يعانون في الحياة، ويكون الأمر إيذاء نفسه بشكل مباشر، أو إيذاء للمجموع بشكل كلي”.
ويلفت بهنسي، إلى أن هذا الأمر يلزمه وعي مجتمعي بالمرض النفسي، وخاصة الاكتئاب الذي يكون بداية لعدد من الأفعال المميتة والمُدمرة للنفس البشرية.
الأمر لا يتعلق بجنس المنتحر
وفقًا للمسح القومي للصحة النفسية، والذي أجرته وزارة الصحة المصرية العام الماضي، فإن 7% من المصريين، البالغ تعدادهم نحو 100 مليون نسمة، يعانون أمراض نفسية أغلبها في شكل اضطرابات مزاجية، لا سيما اضطراب الاكتئاب الجسيم، يليه الإدمان ثم القلق والتوتر ثم الفصام، كما أن 24.7% من المصريين لديهم مشاكل وأعراض نفسية.
الدكتور هشام رامي، رئيس أمانة الصحة النفسية بوزارة الصحة سابقًا، يؤكد أن الأمر لا علاقة له بجنس المُنتحر سواء كان رجلًا أو امرأة، بل يتعلق بسؤال هام: “هل هو مريض ويعاني من اضطراب نفسي ما ولم يعالجه؟”.
وينوه رامي، إلى أن هناك أمر محسوم تبعًا للنوع فقط، وهو أن محاولات الانتحار أكثر في النساء أما الانتحار القاتل يكون أكثر في الرجال، مشيرًا إلى ان الفقر ليس له علاقة في قتل رجل لأولاده قبل أن ينتحر هو.
ويتابع رئيس أمانة الصحة النفسية بوزارة الصحة سابقًا: “هذا حدث في الجاهلية فقط ولم يتكرر، والسبب الحقيقي هو أن يكون نتيجة للضغوط الاقتصادية أو الضغوط الحياتية ففجرت لديه الاستعداد النفسي للانتحار أو وجود مرض نفسي ولم ينتبه له أحد”.
الوعي بالمرض النفسي
وعن الأمراض التي تتسبب في إقدام الأب على قتل أبنائه، يوضح رامي، أنه يوجد نوعين من المرض أولهما الاكتئاب الشديد المصحوب بأعراض ذهانية، وهو ما يجعل نظرة الإنسان للحياة وللمستقبل سوداء، ويتوهم بأنه لو ترك أبنائه في الحياة فإنه يتسبب في عذابهم، ومن ثم يرى أن قتلهم ثم انتحاره هو الخلاص من ذلك العذاب.
ويتابع رامي، أن المرض الثاني هو التهاب الذهان، الذي يشاع بالشيزوفرنيا وهو ناتج عن ضلالات تُصيب المخ البشري، وينبع الانتحار من هذه الضلالة، ويصبح قناعة راسخة لديه، لافتًا إلى أن هناك إمكانية للحاق بهم إذا تم التشخيص والعلاج المبكر، خاصة أن هذا المرض يصيب جميع الطبقات، والحكومة توفر العلاج النفسي لكل محافظات مصر مجانًا، ويكون التشخيص والعلاج بالجنيه المصري.
استراتيجية الوقاية من الانتحار
وفقًا لأطلس الصحة النفسية الصادر عام 2017 عن منظمة الصحة العالمية: “لا تمتلك مصر استراتيجية وقائية على المستوى الحكومي لمواجهة الانتحار“.
كما صرّحت منظمة الصحة العالمية، بأن عدد البلدان التي لديها استراتيجيات وطنية لمنع الانتحار، قد زاد خلال السنوات الخمس الماضية، منذ صدور تقرير المنظمة العالمي الأول بشأن الانتحار، إلا أن العدد الإجمالي للبلدان صاحبة الاستراتيجيات، الذي لا يتجاوز 38 بلدًا، لا يزال ضئيلًا للغاية وعلى الحكومات أن تلتزم بوضع مثل تلك الاستراتيجيات.
ويؤكد المدير العام للمنظمة، الدكتور تيدروس أدحانوم غيبريسوس: “رغم التقدم المحرز، ما زال هناك شخص يفقد حياته كل 40 ثانية جرّاء الانتحار، وتمثل كل حالة وفاة مأساة لأسرة الفقيد وأصدقائه وزملائه، ورغم ذلك، فإن منع حالات الانتحار أمر ممكن”.
ويناشد تيدروس، جميع البلدان أن تقوم بشكل مستدام بإدراج استراتيجيات مُثبَتة لمنع الانتحار ضمن برامجها الوطنية في مجال الصحة والتعليم.