كي يستطيع مواطن أمريكي، الوصول إلى الصندوق الزجاجي الشفاف، حتى يُدلي بصوته في الانتخابات بكافة أشكالها، عليه “الدفع من أجل التصويت”، هذا إذا كانت الظروف ألقت به في السجنّ ولو لمدة قصيرة، بسبب جنحة، أو عجزه عن دفع دين صغير.

إنه ليس إجراءً تمييزيًا يَرجع إلى العصور الماضية من تاريخ الولايات المتحدة، لكنّه إجراء حاليّ، بموجب قانون فيدرالي صدر في عام 2019، بولاية فلوريدا، يرغم ملايين المسجونين السابقين على دفع غرامات ورسوم قضائية كبيرة، إذا أرادوا استعادة حقهم في التصويت في أي انتخابات مقبلة.

ورغم أن القاضي الفيدرالي روبرت هنكل، أصدر مؤخرًا حكمًا برفض القانون، ووقف العمل به، معتبره غير دستوري، إلاّ أنّ حاكم فلوريدا الحالي الجمهوري رون دي سانتيس، يمكنه الاستئناف على الحكم، ما يعني أنه ربما يطبق خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة بين الرئيس الحالي دونالد ترامب، ومنافسه الديمقراطي جو بايدن.

حرمان الفقراء من التصويت

يرى حقوقيون أمريكيون، أن القانون الصادر عام 2019، والذي يفرض نظامًا يرغم المسجونين السابقين، على “الدفع من أجل التصويت” يستهدف حرمان ملايين الأشخاص من السجناء السابقين من التصويت، والذين أغلبّهم من أصل إفريقي أو منحدرين من أمريكا اللاتينية، حيث لا يمكنهم دفع الرسوم القضائية والغرامات المنصوص عليها في القانون، وبالتالي منع عدد كبير من المواطنين المعارضين لـ”ترامب” والحزب الجمهوري من التصويت.

ويُعتبر القانون انقلابًا على استفتاء شعبي أجري في 2018 أعطى المدانين السابقين الحق في التصويت، بعدما سلبهم حاكم فلوريدا السابق ريك سكوت، والمنتمي للحزب الجمهوري في مارس في عام 2011 هذا الحق عندما سن تشريعًا يحرم المواطنين المدانين بشكل دائم من حقوقهم في التصويت.

الانتخابات والسجناء

تتفاوت حقوق السجناء في التصويت في الانتخابات من دولة لأخرى، فهناك دول تعتبر التصويت في الانتخابات أثناء مدة الحبس، حق من حقوق الإنسان لا تسلبه عقوبة السجن، ومنها ألبانيا، وكرواتيا، والدنمارك، وإسبانيا، وأذربيجان، وقبرص، وسويسرا، وصربيا، وإيرالندا، والسويد، ودول تحرم جميع المدانين من التصويت أثناء مدة سجنهم، بغض النظر عن المدة، مثل أرمينيا، وبلغاريا، وبريطانيا، وروسيا.

وهناك مجموعة من الدول تتبنى نظامًا وسطًا حيث الحرمان من التصويت يكون تبعًا لنوع المخالفة أو من خلال العتبات الزمنية للعقوبة السالبة للحرية، فمثلًا يتم منح حق التصويت لمسجونين أثناء فترة سجنهم، في جرائم ومخالفات صغيرة، أو بعد قضاء فترة زمنية معينة من مجمل مدة العقوبة، مثل ألمانيا، وأستراليا، وبلجيكا وهولندا وتركيا.

أما في فرنسا فيتوقف الأمر على منطوق الحكم، وفق شروط يحددها قانون الانتخابات وقانون المسطرة الجنائية، فإذا لم يتضمن نص الحكم حرمان السجين من الحقوق الوطنية يكون له الحق في التصويت أثناء قضائه عقوبة السجن، إلا أن أيًا من هذه الدول لا يمنع السجين السابق من حق التصويت في الانتخابات، سوى في جريمتي القتل، والجرائم ذات الطابع الجنسيّ.

وفي الولايات المتحدة الأمريكية، يختلف حق التصويت للسجناء السابقين، من ولاية لأخرى، حيث أعطت معظم الولايات، الحق للسجناء السابقين بالتصويت في الانتخابات، بينما ظلت ولايات فلوريدا، وكنتاكي، وفيرجينيا، في سلب كل من يملك سجلًا جنائيًا حق التصويت.

وفي 2007 أعطت فلوريدا الحق للسجناء السابقين في التصويت في الانتخابات، عدا المدانين في جرائم قتل أو الجرائم ذات الطابع الجنسي، قبل أن يسن حاكم الولاية السابق الجمهوري ريك سكوت، عام 2011 تشريعًا يسلب نحو 1.4 مليون شخص من المدانين السابقين، بشكل دائم، من حقهم في التصويت، قبل أن يستعيد سكان فلوريدا هذا الحق عبر استفتاء شعبي أجري عام 2018.

وتقول منظمات حقوقية أمريكية، إن نحو 6 ملايين مواطن أمريكي من المدانين السابقين محرومين من حقهم الدستوري في الترشح والانتخاب، الغالبية العظمى منهم من الفقراء والأقليات، وأن أغلب الجرائم المدانين فيها مخالفات وجرائم بسيطة، متعلقة بوضعهم الاقتصادي.

“ترامب” والقضاء

 منذ وصول “ترامب” للبيت الأبيض بعد فوزه على المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون عام 2016، خاض صراعًا مع القضاة، لثني العصا في اتجاه أغلبية للقضاة أصحاب الخلفية والميول الجمهورية، وتقليص عدد القضاة الذين وقفوا ضد قراراته، خاصة المتعلقة بانتهاك حقوق الأقليات والمهاجرين واللاجئين.

وفي عام 2018، أخذ الصراع شكلًا أشرس، إذ شنّ “ترامب” هجومًا على القضاة متهمًا إياهم بجعل البلاد غير آمنة، بعدما منعت محكمة الاستئناف الفيدرالية، إعلانًا أصدره بشأن اللاجئين، ينص على أنه لا يحق سوى للأشخاص الذي يدخلون الولايات المتحدة من نقاط الدخول الرسمية التقدم بطلبات اللجوء.

هذا يعني رفض أي لاجئ يتسلل عبر الحدود، ووصف “ترامب” القاضي الذي منع إعلانه بأنه “قاضي أوباما”، ليرد عليه رئيس المحكمة العليا جون روبرتس، قائلًا: “ليس لدينا قضاة أوباما أو قضاة ترامب، أو قضاة بوش أو قضاة كلينتون، ما لدينا قضاة مخلصون يبذلون ما بوسعهم لضمان الحقوق المتساوية لمن يَمثلُون أمامهم”.

“ترامب” واصل الهجوم على “تويتر”، قائلًا: “يجب ألا يصدر القضاة قرارات بشأن الأمن والأمان على الحدود أو في أي مكان آخر”، مضيفًا، “أنهم لا يعرفون شيئًا عن هذا ويجعلون بلادنا غير آمنة”، واصفًا الدائرة الخامسة (محاكم الاستئناف) بأنها “كارثة حقيقية، وأنها خارج السيطرة، وسمعتها فظيعة أكثر من أي دائرة أخرى في البلاد”.

لكن رئيس المحكمة العليا جون روبرتس، عاد ليعزز من قدرة إدارة “ترامب” على ترحيل المهاجرين غير الشرعيين “بسرعة” بمن فيهم طالبو اللجوء دون مراجعة قضائية، إذ وافقت المحكمة العليا على قانون اتحادي يطلق يد “ترامب” وإدارته في ترحيل المهاجرين غير الشرعيين وطالبي اللجوء ويحد من دور المحاكم في مراجعة قرارات الترحيل، وصدر القرار بموافقة 7 قضاة من بينهم رئيس المحكمة العليا جون روبرتس، وبمعارضة قاضيين هما سونيا سوتومايور وإيلينا كاجان.

ووصل عدد القضاة الذين عينهم “ترامب” منذ توليه الرئاسة 200 قاضٍ، بعد موافقة مجلس الشيوخ، آخرهم كان تعيين كوري ويلسون، بمحكمة استئناف بنيو أولينز، بأغلبية 52 سناتور جميعهم من الجمهوريين، من أصل مائة نائب، وهو القرار الذي رفضه الديمقراطيون الذين اعتبروا القاضي الجديد، والنائب السابق عن ولاية ميسيسبي، مؤيدًا للإجراءات التي تقيد ممارسة الأقليات لحق التصويت.

وهكذا عمل “ترامب” منذ دخوله البيت الأبيض، على تعزيز قدرات إدارته في فرض إجراءاتها العنصرية ضد الأمريكيين الذي ينتمون إلى الأقليات والمهاجرين، وحقوقهم الدستورية ومنها الحق في الترشح والتصويت في الانتخابات المختلفة، إضافة لإجراءات تعليق دخول المهاجرين واللاجئين، وترحيل المهاجرين غير الشرعيين، مستعينًا على هذا بخطاب شعبوي يميني، جذب الملايين من الأمريكيين في الانتخابات الماضية، ويبدو أنه لا يزال قادرًا على جذبهم.