آلاف النساء تُقتل كل يوم بسلاح الـ”شرف” و”غسل العار”، حيث يفتخر مرتكبو هذه الجرائم بأفعالهم، متعللين بالـ”عرف” و”شرع الله”، ورغم وقوع حوادث شبيهة سابقًا، إلا أن وتيرتها ارتفعت مؤخرًا، ما جعلها مادة دسمة للنقاش.
“أن تبقي عذراء في عيون مجتمعك حتي لو كنتِ متزوجة”، جملة قد تصدمك للوهلة الأولى، لكن خلف الأحرف نجد صرخات آلاف النساء اللاتي قُتلن بداعي الـ”شرف” حيث يتخطى لفظ “العذرية” في المجتمعات العربية والشرق أوسطية، المفهوم الطبي، وتعني الالتزام بسلوك مجتمعي معين، تخطيه يقربك للموت، فمئات من الآباء والأخوة أقدموا على قتل بناتهم أو أمهاتهم، شكًا في سلوكهن، ثم خرجوا متفاخرين بأفعالهم مطمئنين لأحكام القضاء .
ويقصد بـ “جرائم الشرف”، القتل الذي يرتكبه غالبًا أحد الذكور في أسرة ما أو قريب ذكر لذات العائلة بحق أنثى أو مجموعة إناث في ذات الأسرة، وتكون الأسباب في الغالب ظنيّة تتعلق بشكوك حول ارتكاب الأنثى فعلًا “مخلًا بالأخلاق”، مثل الزنا أو إقامة علاقة “غير شرعية“.
ويقع سنويًا حوالي 5000 شخص وخاصة من النساء ضحية لجرائم قتل ترتكب باسم حماية الشرف في أنحاء متفرقة في العالم، وعلى ضوء ذلك تطالب منظمات حقوقية ودولية بتشديد العقوبات على هذا النوع من الجرائم.
وتشير تقارير لجنة الأمم المتحدة إلى أن جرائم الشرف تقع في بلدان كثيرة منها باكستان، أفغانستان، الهند، إسرائيل، إيطاليا، الأردن، اليمن، تركيا السويد، العراق، المغرب، ومصر.
دول عربية في الصدارة
لم ينس الأردن صرخات “أحلام” التي قتلها والدها ثم جلس يحتسي الشاي بجانب جثتها، ورغم أن جريمته تندرج تحت العنف الأسري، إلا أنها سلطت الضوء من جديد على ما تعانيه بعض النساء في الأردن من عنف وتضييق قد يصل للقتل في كثير من الأحيان، حيث يحتل الأردن البلد صدارة الدول العربية في جرائم الشرف في العامين الماضيين.
وتُستخدم المادتان 340 و98 عادة لتخفيف العقوبة على مرتكبي جرائم الشرف لتصل إلى بضعة أشهر بدل الإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة.
ولا يختلف الأمر في سوريا ودول كلبنان وفلسطين، حيث تفاقمت الظاهرة مع ارتفاع نسبة العنف والقتل بعد اندلاع الثورة السورية، ففي مدينة السويداء سجلت عدّة جرائم صنّفت جرائم شرف، كأب قتل ابنته لأن إدارة المدرسة أرسلت تستدعيه وتخبره أنها تغيبت وشوهدت في السوق مع “زميلة” لها، فقتلها وألقاها في الطريق.
لكن يبدوا أن ضغط المنظمات الحقوقية وتنديدها بهذه الجرائم، دفع مجلس الشعب السوري في مارس الماضي، إلى إلغاء المادة 548 المتعلقة بمنح العذر المخفف بـ “جرائم الشرف”.
إلا أن الخوف من عدم تأثير إلغاء هذه المواد، حيث “لبنان” خير دليل، فرغم إلغاء المادة 562 الخاصة بجرائم الشرف، إلا أن حوادث قتل النساء بهذا الداعي لا تتوقف، ويكفي فقط مطالعة الصحف اللبنانية يوميًا.
بينما لم يشفع الاحتلال وتبعاته، في إنقاذ عشرات النساء في فلسطين من نفس المصير، ففي أواخر العام الماضي، أقدم أحد الأشخاص على دفن ابنته حية في حفرة بعمق متر ونصف المتر بسبب تغيبها عن المنزل.
وبحسب أرقام رسمية، فقد قتلت 18 امرأة فلسطينية في نفس العام ولأسباب متشابهة، بينما أجبرت أخريات على الانتحار، الأمر الذي دفع إلى دق ناقوس الخطر للوقوف عند هذه الظاهرة والعمل على محاصرتها.
كما تعاني مصر من آفة “جرائم الشرف” فمازالت هذه الجرائم تؤرق المجتمع، حيث أقدم أب على قتل ابنتيه بمنطقة الحوامدية بالجيزة العام الماضي، بزعم أن سلوكهما سيئًا وترتبط إحداهما بعلاقة غير شرعية مع أحد الشباب، حيث استدرجهما إلى منطقة زراعية وذبحهما وألقى بجثتيهما في الترعة ما أثار جدلا واسعًا حينها، وخرجت نداءات بتشديد العقوبات في مثل هذه الجرائم، والتي يُحكم فيها بعقوبات مخففة أو السجن ما بين عامين و4 أعوام.
وكشفت إحصائية صادرة عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عام 2018، أن 92% من الجرائم الأسرية في مصر تندرج تحت “جرائم الشرف”، وأن 70% منها ارتكبها الأزواج ضد زوجاتهم، و20% ارتكبها الأشقاء ضد شقيقاتهم.
وفي العراق تُقتل النساء تحت دعاوى الشرف ويُلقى بجثثهن في مكبات النفايات، ويُسجل موتهن على أساس وفاة عادية أو قتل من قبل مجهولين، في دوائر الطب العدلي، وتحكم هذا الأمر القوة العشائرية.
وتعود مجمل جرائم الشرف إلى منظومة غير عادلة تجاه النساء، ففي تركيا دفن رجل ابنته التي تبلغ من العمر 16 عامًا حية تحت حظيرة بسبب “صداقة شبان”.
في حين، تسجل باكستان مقتل نحو 1000 امرأة سنويًا، في جرائم متعلقة بمسائل الحب والزواج والسلوك العام.
العرف السائد
ويقول طه أبو الحسن، أستاذ علم الاجتماع، إنه مازال في معظم المجتمعات العرف والتقاليد هي السائدة، أحيانًا تكون أكثر قوة وتأثيرًا من القانون.
وذكر أن العرف نمط سلوكي سائد في ظروف اجتماعية محددة بعيدًا عن القانون، وتشارك في اعتماده قوى اجتماعية ورسمية، وهو ما يدفع بالقول بإن جرائم القتل باسم الشرف هي بالواقع “قتل عرفي” يرتكبها بعض الأشخاص بدوافع ذكورية بحتة.
وأوضح أن من ضمن أسباب تقبل البعض لفكرة القتل تحت مسمي الشرف أو دفع بعضهم البعض على ذلك، هو سيطرة “العرف السلبي” وتقاليد العائلات والعشائر الكبرى، فإذا أخطأت فتاة، افتراضًا على شكوكهم، يعاب على الأخوة والآباء في ذلك، وهو ما يشعرهم بالتقليل أو المهانة، بالإضافة إلى ربط ذلك بشكل خطأ حول نظرة الإسلام لهذه الجريمة التي لا تمت للشرع الإسلامي بصلة.
لا علاقة لها بالدين
وبالحديث عن الشرع، استنكرت الدكتورة، آمنة نصير، أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، إلصاق هذه الجرائم بالدين، موضحة أن الإسلام لم يسمح بها، كما أنه يدين وأد الفتيات، ويحترم النفس البشرية، ويُعد قتلها من الكبائر .
واستشهدت بالقرآن الكريم في قوله تعالى: “من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعًا ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعاً” (32) المائدة.
ولفتت إلى أن حد الزنا يُطبق بشروط، فالأحكام الشرعية تبنى على اليقين والأدلة وليس الشكوك .
وتابعت أن للشريعة موقف واضح من جرائم الشرف، حتى إذا ضبط الزوج زوجته في وضع مخل، يرجع الحكم فيها لولي الأمر، وهي الدولة والقانون، فلا يجوز قتلها بأي شكل من الأشكال .
التفسير النفسي
وتثار بعض الأسئلة حول صفات مرتكبي هذه الجرائم، فهل هم ميالون للعنف؟.
يذكر علماء النفس والاجتماع أن “مفهوم الذكورة” في المجتمعات المحافظة، هو حماية الرجل لعذرية كل من تخصه من السيدات، وتقاعسه إخلال بصورته أمام المجتمع.
ويوضح عبد الناصر عمر، استشاري الطب النفسي، بعض صفات مرتكبي هذا الجرائم، والتي أبرزها الاندفاع وعدم التروي والشحن العاطفي، والميل للعنف في كثير من الأحيان، وهو ما يظهر في بعض الحوادث التي تدفع فيها العنف الأسري والقهر إلى هروب الضحية ثم البحث عنها لقتلها، وتحويلها لقضية شرف.
ويضيف أن مرتكبي “جرائم الشرف” التي في الأغلب يكون أحد أفراد الأسرة، يتخذ أنماطًا سلوكية قهرية في تعامله مع المرأة منذ البداية، كالمراقبة الدائمة والعنف الجسدي والتخويف المستمر، ظنًا منه بالحفاظ على تقاليد مجتمعه وتربيته الخاطئة، التي في الأغلب تكون ضلعًا أساسيًا وشريكًا في ارتكاب هذه الجرائم.
وتابع أن المفهوم السائد في أغلب المجتمعات الشرقية، هو أن للرجل مكانة فوقية مقارنة بالمرأة، وهو موروث اجتماعي، يعني أن المرأة هي الحلقة الأضعف ويجب السيطرة عليها، بل هناك من يتعدى ذلك ويعتبر المرأة ملكًا للرجل، لذا هي بحاجة لتوجيه، وتأديب والعقاب.
في الأدب والدراما
وخلافًا للواقع، فإن كلاسيكيات الأدب قد تناولت “جرائم الشرف” وسلطت الضوء عليها منذ سنوات، وأبرز ما كُتب هنا رواية “دعاء الكراون”، لطه حسين، والتي تحولت إلى فيلم سينمائي، حيث يجسد “مقتل هنادي”، قصصًا مكررة تحدث في واقعنا.
كذلك فعلت نساء القرية في رواية ممدوح عزام “معراج الموت”، عن قصة حقيقية، عندما وقعت الفتاة “سلمى” في حب شاب وهربت لاجئة لشيخ العشيرة التي سلمها لأهلها، فحبسوها في قبو معتم وكانوا يقدمون لها الخبز معجونًا بالزجاج المطحون لتأكله، فتفارق الحياة.
التركية أليف شافاك أيضًا تحدثت في روايتها “شرف” عن عائلة كردية تغادر تركيا إلى لندن وتتغير عاداتها فتحاول الاندماج في الحياة الغربية بكل تفاصيلها، لكن الابن لم يستطع التخلص من إرثه الاجتماعي فيقتل خالته بدلاً من أمه غسلا للعار.
ومن الأدب للدراما، ففي مسلسل شاهده الملايين، أقدم الفنان محمد رمضان، في “الأسطورة” على قتل زوجته مي عمر، بعد حديثها مع شخص هاتفيًا، فاشتعلت الغيرة في قلبه وقتلها ثم اكتشف أنها مكيدة من شقيقته، ولكنه لم يندم أو يُعاقب.
أيضًا مسلسل “خمسة ونص”، يقدم قصي الخولي على قتل زوجته لمجرد الشك، وما يثير الاستغراب التعاطف الكبير من شريحة واسعة من الجمهور معه، مبررين فعلته تحت مسميات مختلفة.