«لا يستطيع أحد أن يمتطى ظهرك إلا اذا انحنيت له»، مقولة صاغها مارثن كينج  تختصر المعنى الحرفي لتنازل الشخص عن حريته وتسليم زمام أمره لأيادي آخرين يعبثوا فيها كيفما شاءووا.

ويُعد التخلي عن الحرية، سواء أكانت «حرية فكر، أو تحرك، أو اتخاذ القرار»، شرطًا أساسيًا للقبول داخل أروقة الكيانات المتطرفة التي تملك وحدها صكوك المغفرة ومفاتيح الجنة، وتعتبر الحرية باطلاً يراد به هدم الدين، وثقافة القطيع هي القادرة وحدها على حمايته.

كيف كانت الحرية سلاحًا للعصيان داخل جماعات الإسلام السياسى؟

القداسة داخل الكيانات المتطرفة

سلب الحريات داخل الكيانات المتطرفة لا يتم بين ليلة وضحاها، وإنما يستغرق وقتًا طويلاً في عمل «غسيل مخ» لمن يراد سلب حريته، حتى يقدمها لقادته بقناعة كاملة تضمن عدم تراجعه فيها

وأولى خطوات سلب الحرية تتمثل فى إرساء مبدأ القداسة لقادة الكيانات المتطرفة، فلا يجوز الخروج عنهم أو مراجعة ما يأمرون به، وإلا اتهم الشخص بفقدان عقله والتعدي على دينه، وخسارة آخرته مقابل دنياه الفانية.

ولعل أولى الكيانات التي وضعت مبدأ القداسة في تعاملها مع أعضائها، هي جماعة الإخوان، والتي نصبت مع حسن البنا- مؤسسها- نبيًا لا يأتيه الباطل عن اليمين أو الشمال، جميع ما يردده صواب، يأمر ويطاع، وينهي ويحكم دون مراجعة، ومن يرتد من مرديه عن الخضوع لتلك الأحكام كان النبذ والتشويه والطرد عقابًا له، الأمر الذي يعرف لديهم بمبدأ السمع والطاعة.

ومصير التشويه كان ينتظر أحمد السكري، أول رافعي راية العصيان داخل جماعة الإخوان، وأحد أهم مؤسسيها، والذي كان مبشرًا بخلافة “البنا” في منصب المرشد العام للجماعة، ليتحول نتيجة لمعارضته لـ”البنا” إلى مطرود من رحمة الجماعة وأحد ألد أعدائها.

كان ذنب “السكري” الوحيد، هو رفض تحول الجماعة من جماعة دعوية إلى جماعة سياسية طامحة في الحكم والسلطة، ما جعل “البنا” يستشعر خطر “السكري”، ليس فقط كونه خرج عن طاعته ما ينذر بمعارضين آخرين، ولكن كونه كشف مخطط نبي الجماعة وملهمها الأول وحاميها الأوحد من الاندثار.

وكان مصير “السكري”، حملة مكبرة من التشويه وإلقاء التهم دون أدلة، ومن أبرزها اتهامه بالولاء لحزب الوفد خاصة بعد أن طلب من “البنا” أن تظل الجماعة كما هي، ومن يرغب في خوض الحياة السياسية ينضم لـ”الوفد”، ويزيد من قوته أمام قوات الإنجليز.

وعقب تأكد “البنا” من كراهية معظم أعضاء الجماعة لـ”السكري”، ورفضهم لوجوده ونجاح حملة تشويهه، قرر تشكيل للجنة للبت في مصير أكبر معارضيه وجعله عبرة لمن تسول له نفسه الاقتراب من الذات الحسنية، وهي اللجنة التي انتهت بفصله من الجماعة بعد تغليفه بمجموعة من الاتهامات منها نقض العهد وعداء الدعوة وخروجه عنها والتجسس لصالح حزب الوفد، وقرروا عدم التواصل معه ومن يفعل ذلك يحصل على نفس الجزاء.

 القداسة سلاح سحب الحريات من المتشددين والجنة جزاء الخانعين

ولم يكن “السكري” وحده صاحب هذا المصير، فهناك العديد من النماذج التي مثل اقترابها من “البنا” خطيئة كبرى، ومنهم: عبد السميع الغشيمي، ومهدى علي، وسالم غيث، هذا بخلاف سيد فايز عبد المطلب الذي تم تصفيته، لمعارضته لتصرفات قادة الجماعة عام .1953

لم يكن سهلاً على حسن البنا ترسيخ مبدأ القداسة والطاعة العمياء داخل الجماعة دون إعلاء ذاته لدرجة الصحابة والأنبياء، وهو ما قرر ترسيخه في عقول تابعيه، وجعل منهج الطاعة من أدبيات الجماعات المتطرفة، فيما أصبح المعارضون خوارج يحق قتالهم.

الأمر الذي ذكره في إحدى مؤتمراته والذي قال فيها « كان الإسلام حكيمًا أعظم الحكمة في وصيته بأخذ هؤلاء الخوارج- في إشارة للمعارضين- على رأس الجماعة بمنتهى الحزم»، واستشهد بالحديث النبوي: “من آتاكم وأمركم جمع يريد أن يشق عصاكم فاضربوه بالسيف كائنًا من كان».

وتابع: “ولكننا تأثرنا إلى حد كبير بالنظم المائعة التي يسترونها بألفاظ الديمقراطية والحرية الشخصية، وما كانت الديمقراطية ولا الحرية يومًا من الأيام معناهما تفكيك الوحدة”.

وفي وصفه للقادة قال البنا: “القائد جزء من الدعوة ولا دعوة بغير قيادة، وعلى قدر الثقة المتبادلة بين القائد والجنود تكون قوة نظام الجماعة وإحكام خططها”.

واستطرد:” للقيادة في دعوة الإخوان حق الوالد بالرابطة القلبية، وحق الأستاذ بالإفادة العلمية، وحق الشيخ بالتربية الروحية، والقائد بحكم السياسات العامة للدعوة، ودعوتنا تجمع هذه المعاني جميعًا والثقة بالقيادة هي كل شيء لنجاح الدعوات، لهذا يجب أن يسأل الأخ الصادق نفسه، ليتعرف على ثقته بقيادته، هل مستعد لاعتياد الأوامر التي تصدر إليه من القيادة «في غير معصية طبعًا» قاطعة لا مجال فيها للجدل والتردد ولا الانتقاص؟، هل مستعد لأن يفترض فى نفسه الخطأ وفى القيادة الصواب، إذا تعارض ما أمر به مع مع ما يعلم من المسائل الاجتهادية التي لم يرى فيها نصًا شرعيًا؟، هل مستعد لوضع ظروفه الحيوية تحت تصرف الدعوة؟، وهل تملك القيادة في نظره حق الترجيح بين مصلحته الخاصة ومصلحة الجماعة العامة؟»

تلك الكلمات التي لخصت سيطرت قادة الجماعة على أعضائها سيطرة كاملة، ترفض الحريات، أو التفكير، أو الاعتراض.

السمع والطاعة دستورًا

وذكر طارق البشري، أحد أعضاء التنظيم، أنّ “البنا” قال إنه لا ينفع بناء للدعوة سوى ما بناه بنفسه، وذكر أن فرعي الدعوة بشبراخيت والمحمودية لن ينفعاه بشيء، لأنهما انشئا بغير أسلوبه.

واستمر “البنا” في ترسيخ معانى الخنوع على أنها طاعة، والاستسلام تدين، وتنفيذ الأوامر جهاد، وما دون ذلك يعد مؤامرة على الجماعة وبالتالي على الدين، الأمر الذي أحاطه ببيعة ملزمة لكل منضم للجماعة، يقسم فيها على الولاء والسمع والطاعة للمرشد، وعدم مخالفته حتى ولو كان غير مقتنع بما يؤمر توارث الطاعة بين التيارات المتشددة.

حسن البنا يرسخ مبادئ “الولاء” للجماعة… والأحرار خوارج يجوز قتالهم

وهكذا بات السمع والطاعة دستورًا، وبيعة يقدمها العضو قربانًا للانضمام لتلك الكيانات، فيقسم على الولاء والتضحية في سبيل الجماعة التي ينتمي إليها، وقد توارثت التيارات المتشددة هذا الدستور وتناقلوه فيما بينهم وأصبح لكل منهم قسم بيعة طاعة، يتلوها الأعضاء لولائهم، ولكي تمنحهم الحق في الانتقام ممن يحيد عنها، وكانت بعضها غير ملزم بالقسم، مثل: الجماعة الإسلامية أو السلفيين، فالأولى تعتمد على التعهد بالطاعة فيما بين أعضائها دون الالتزام بأداء قسم الولاء للقيادات وللجماعة، ولكن ظل الخروج عن هذا الأسلوب هو مؤامرة على الجماعة تجيز فصل العضو مع تشويه صورته وربما التعدى عليه.

لحوم مسمومة

السلفيون كذلك اعتمدوا دستور الطاعة دون إلزام الأعضاء بأداء القسم الخاص به، رافعين شعار «لحوم العلماء مسمومة»، حيث لم يكتفوا بمنع الاعتراض أو الخروج عن آراء القادة والشيوخ، ولكنهم اعتبروا هذا الأمر حرامًا شرعًا، ويعد صاحبه آثمًا يقع عليه حد الإثم والخطئية.

وذكر إسلام المهدي، المنشق عن سلفية الإسكندرية، أن الشيخ في السلفية كان يحرم أن يذكر بسوء، ولا يجوز أن يرد له أمرًا، كما كان يطلع على تفاصيل حياة كل عضو، ليعرف كيف يتم اختراق شخصيته والسيطرة عليها، لذا فكان أمره أولى بالتنفيذ عن أمر الوالد، وقرار صواب حتى وأن كان عكس قناعات الشخص المأمور.

الجهاديون يرثون دستور الخنوع الإخواني ويلزموه بقسم وعهد مدى الحياة

واكد المهدى أن العضو فى جماعة السلفية كان يتعرض لاختبارات كثيرة خاصة بالولاء، وكانت معظمها يصعب تنفيذها، وعلى هذا الأساس كان يتم تصنيف الأعضاء بالكيان، وكان يتم منحهم المهام والمناصب وفقا لدرجة الولاء، أما الاعتراض على شيء فكان يعرض صاحبه للعقاب، والطرد وعدم الدخول في المساجد السلفية، وكان يتساوى الخطأ في حق الشيوخ بالخطأ في حق الأنبياء باعتبارهم ورثتهم وورثة الصحابة.

السلفيون يرفعون شعار «لحوم العلماء مسمومة» ومن يخالفهم مصيره جهنم

دستور الجهاديين

«أبايعك على السمع والطاعة في المكره والمنشط، وفيما أحب وفيما أكره، طالما لا يخالف شرع الله، وأن أضع إقامة شرع الله نصب عيني، وأن أبذل لتمكين ديني كل ما أملك من نفس وولد ومال وروح”.. هكذا كان دستور سلب الحرية داخل الجماعة الجهادية، حيث كان للطاعة معنى أشمل يتمثل فى الزم الأعضاء بأداء قسم الولاء والطاعة للقيادات، أو أمير الجماعة، ولأنها تعتمد على المواجهات المسلحة، التي تلتزم ضمان التقديس و الطاعة الكاملة، كان الخروج عنها يبيح دم المعارض باعتباره نواة فكر قد تغير مسار الجماعة وتهدد وجودها القائم على قبول أي تصرف منها دون التفكير في مدى صوابه أوخطاؤه، وأكد المنشقون عن الجماعة أن الحرية كانت تمثل العدو الأكبر للجماعة كونها العائق الوحيد في محاولات إحكام السيطرة على التابعين، واستخدامهم فيما يخدم استمرار الكيانات المتشددة.