المؤسسة الدينية، ورجال الدين، دومًا هم السلاح الأقوى في التأثير على الرأي العام واجتذاب كافة طوائف الشعب نحو فكرة أو سياسة مُعينة، وهو ما ظهر جليًا في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، والذي طوع الأزهر وشيوخه في خدمة سياساته التي انتهجها عقب انتهاء الحكم الملكي في مصر.
لا شك أن فترة حكم عبدالناصر، شهدت العديد من الخلافات على كافة الأصعدة، لا سيما الجانب الدينيّ له، فالبعض اتهمه بالشيوعية والعلمانية، والبعض الآخر وصفه بـ “المروض” الذي وظف الجميع لخدمة أهدافه السياسية.
ناصر المؤمن
إلا أن الأزهر الشريف بشيوخه وعلمائه، كان شاهدًا على السياسة التي انتهجها عبد الناصر نحو الأزهر والإسلام كافة، فهو أول رئيس مسلم في التاريخ يتم في عهده جمع القرآن الكريم مسموعًا “مرتلًا ومجودًا”، وتمت ترجمة القرآن الكريم إلى كل لغات العالم في عهده، كما أنشأ إذاعة القرآن الكريم التي تذيع القرآن على مدى اليوم.
وفي عهد عبدالناصر، تم زيادة عدد المساجد في مصر من 11 ألف مسجد قبل ثورة يوليو إلى 21 ألف مسجد عام 1970، أي أنه بنى 10 آلاف مسجدًا في الـ 18 عامًا التي حكم فيها مصر، وهو ما يعادل عدد المساجد التي بنيت في مصر منذ الفتح الإسلامى وحتى عهد عبد الناصر.
سيطرة دينية لخدمة السياسة
الدكتور تامر مصطفى، أستاذ العلوم السياسية المشارك في جامعة سيمون فريزر الكندية، يقول في كتابة “الأزهر والدولة”: مَن يهيمن على مَن؟”، إن ما أحدثه جمال عبد الناصر بعد 1952 هو أكبر توغل في تاريخ المؤسسة الدينية، إذ عمل على ضم الأزهر إلى سلطة الدولة، لإحداث توازن مع جماعة الإخوان المسلمين، فأصدر أولاً: قانون الإصلاح الزراعي، في سبتمبر 1952، والذي ضم الأوقاف في وزارة جديدة لها، ومن خلال السيطرة على أراضي الوقف اكتسب النظام أداة جديدة لمكافأة من يطيعونه ومعاقبة من يعارضونه، ثم تلى ذلك إلغاء المحاكم الشرعية، وهي محاكم كانت تعمل بموازاة المحاكم العلمانية التي أنشأها محمد علي.
تطوير الأزهر وبناء الجامعة
جدّد عبدالناصر، الأزهر الشريف، فحوله لجامعة عصرية تدرس فيها العلوم الطبيعية بجانب العلوم الدينية، وبنى آلاف المعاهد الأزهرية والدينية في مصر، وافتتح فروع لجامعة الأزهر في العديد من الدول الإسلامية.
أنشأ عبدالناصر، مدينة البعوث الإسلامية على مساحة 30 فدانًا، وكانت ومازالت تضم عشرات الآلاف من الطلاب المسلمين، قادمين من 70 دولة إسلامية يتعلمون في الأزهر مجانًا ويُقيمون في مصر إقامة كاملة مجانًا أيضًا، وزودت الدولة المصرية بأوامر من الرئيس الراحل المدينة بكل الإمكانيات الحديثة وقفز عدد الطلاب المسلمين في الأزهر من خارج مصر إلى عشرات الأضعاف، بسبب اهتمامه بالأزهر الذي قام بتطويره وتحويله إلى جامعة حديثة عملاقة تدرس فيها العلوم الطبيعية مع العلوم الدينية.
يقول محمد فائق، رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان، ومدير مكتب عبدالناصر للشئون الإفريقية، في كتابه “عبد الناصر والثورة الأفريقية”، إن الرئيس عبد الناصر أمر بتطوير الأزهر بعد أن لاحظ من متابعته لأوضاع المسلمين في أفريقيا، أن قوى الاستعمار الغربي كانت حريصة على تعليم المسيحيين العلوم الطبيعية “الطب والهندسة والصيدلة”، ومنع تعليمها للمسلمين مما أدى لتحكم الأقليات المسيحية في دول أفريقية غالبية سُكانها من المسلمين، وكانت هذه الأقليات المسيحية تتحكم في البلدان الأفريقية المسلمة، وتعمل كحليف يضمن مصالح قوى الاستعمار الغربي التي صنعتها، لذا صمم الرئيس عبد الناصر على كسر هذا الاحتكار للسلطة، وتعليم المسلمين الأفارقة علوم العصر ليستطيعوا حكم بلدانهم لما فيه مصلحة تلك البلدان.
مُنظمة المؤتمر الإسلامي
أنشأ ناصر، مُنظمة المؤتمر الإسلامي، والتي جمعت كافة الشعوب الإسلامية، كما تم في عهده تنظيم مسابقات تحفيظ القرآن الكريم على مستوى الجمهورية، والعالم العربي والإسلامي، وكان يوزع بنفسه الجوائز على حفظة القرآن، وتم في عهده وضع موسوعة جمال عبد الناصر للفقه الإسلامي، والتي ضمت كل علوم وفقه الدين الحنيف في عشرات المجلدات وتم توزيعها في العالم كله.
سجلت بعثات نشر الإسلام في أفريقيا وآسيا في عهده أعلى نسب دخول في الدين الإسلامى في التاريخ، حيث بلغ عدد الذين اختاروا الإسلام دينًا بفضل بعثات الأزهر في عهده 7 أشخاص من كل 10 أشخاص وهي نسب غير مسبوقة وغير ملحوقة في التاريخ حسب إحصائيات مجلس الكنائس العالمى.
الشيخ شلتوت وعبدالناصر
ورد في مجلة الأزهر، ديسمبر سنة 1960، أن الشيخ محمود شلتوت، شيخ الأزهر وقتها، أكد على وجوب طاعة الحكومة، ما لم تُخالف أوامر الله، وأنه على المسلم السمع والطاعة، فقد عرف أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وواجب المسلم لا يختلف، ولا يقل نحو حكومته، ما دام كل عملها، في المصلحة العامة، وما دامت لا تخالف أوامرها أوامر الله ولا أوامر الرسول لا فرق في ذلك بين حكومة علمانية أو حكومة دينية، كما أفتى الشيخ شلتوت بعدم تعارض قوانين الاشتراكية مع الإسلام.
وبصدور قانون الأزهر 1961، جُرد منصب شيخ الأزهر من قيمته السياسية، حيث سمح القانون بتعيين وزير لشؤون الأزهر، وللرئيس باختيار شيخ الأزهر، فعمل شلتوت على الحفاظ على كرامة المؤسسة ومكانة مشيخته، ودافع عن اختصاصاته، مما عرضه لخلافات شديدة مع رئيس الوزراء في ذلك الوقت علي صبري، وخاض شلتوت معركة صامتة، تحلى فيها بالصبر، وعندما فقد الأمل في إصلاح الأمر قدم استقالته من مشيخة الأزهر في أغسطس 1963.
كتب “شلتوت” مذكرته إلى الرئيس جمال عبدالناصر وإلى رئيس مجلس الوزراء علي صبري قال فيها: “أجد نفسي أمام واحد من أمرين: إما أن أسكت على تضييع أمانة الأزهر، وهو ما لا أقبله على ديني وكرامتي، وإما أن اتقدم آسفًا في هذه الظروف بطلب إعفائي من حمل هذه الأمانة، التي أعتقد عن يقين أنكم تشاركونني المسؤولية في حملها أمام الله والتاريخ؛ ولذلك فليس أمامي إلا أن أضع استقالتي من مشيخة الأزهر بين أيديكم بعد أن حيل بيني وبين القيام بأمانتها”.
رفض عبدالناصر الاستقالة، وأرسل إلى الشيخ شلتوت حسين الشافعي الذي كان يحبه ويميل إليه لتدينه ليقنعه بالعودة، إلا أن الشيخ تمسك برأيه، ولم يقبل الحضور إلى مشيخة الأزهر وليس له فيه أي سلطة، وشعر البعض من الضباط بالحرج أمام الزائرين الأجانب الذين يلحون في طلب زيارة الشيخ شلتوت، فأشاعوا أنه اعتزل الحضور إلى الأزهر لأنه مريض.
الشيخ الباقوري وعبدالناصر
عمل الشيخ أحمد حسن الباقوري، مع عبدالناصر الذي كان في حاجة إلى مثله بعد أن تنكر للإخوان واصطحبه في زياراته للدول الإسلامية، إذ كان هو الخطيب ومارس مسؤوليته كوزيرًا للأوقاف بروح إنسانية سمحة، وكان بينه وبين كثير الأقباط صداقة حميمة ومحبة.
قضى الباقوري، في الوزارة 7 سنوات من 1952 إلى 1959، حتى عزله جمال عبدالناصر بسبب وشاية كاذبة، وحدد عبدالناصر إقامته في بيته 5 سنوات كاملة، وإن عبد الناصر اعتذر للباقوري بعد ذلك وعينه مديرًا لجامعة الأزهر.
عن تدين عبدالناصر، يحكي الباقوري أن ناصر في “باندونج” أصر على أن يظل صائمًا طوال شهر رمضان ورفض استخدام الرخصة الشرعية التي تعطيه حق الإفطار والتي استخدمها شيخ الأزهر نفسه فأفطر.
يقول الباقوري: “حين بدأ شهر رمضان في مدينة باندونج فقد رأينا الجهد الذي كنا نبذله في شهور المؤتمر ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم ليس من البر الصيام في السفر وأخذنا بالرخصة أفطرت ولكن عبدالناصر أصر على الصيام”.
الشيخ عبدالرحمن تاج وعبدالناصر
دعم الشيخ عبدالرحمن تاج، جمال عبدالناصر في خلافه مع محمد نجيب فأفتى بسريان عقوبة التجريد من شرف المواطنة على من يتآمر ضد بلاده، قاصدًا بذلك نجيب، كما هاجم الإخوان المسلمين بعد حادث المنشية 1954، في بيان له تحت عنوان “مؤامرة الإخوان”، ليتهم من خلاله الجماعة بأنها تشوه الدين الإسلامي.
معارضة شيوخ الأزهر
وقال الدكتور عاصم الدسوقي، شيخ المؤرخين التاريخيين العرب، إن قرار عبدالناصر بتطوير الأزهر عام 1961، أحدث نوعًا من الصدام بين الأزهر وعبد الناصر، حيث اعتقد بعض المشايخ أن هذا يخرج الأزهر عن رسالته الشرعية في الحفاظ علي علوم الدين، فيما كان عبد الناصر له هدف آخر من وراء هذا التطوير، وهو مواجهة النشاط التبشيري في أفريقيا بين الشعوب الوثنية حيث كانت فكرة عبد الناصر تدور حول أن يذهب الطبيب الأزهري والمهندس الأزهري والمدرس الأزهري وهكذا ليقوموا بالدورين، أي الدعوة من خلال الخدمة وتلبية احتياجات الناس.
ويوضح دسوقي، أنه لم يكن أحدًا يجرؤ على مُعارضة ناصر، إلا أن بعض المشايخ عارضوا القرار، معقبًا: “من المُدهش أن الدكتور الطيب النجار فكر في إنشاء لجنة لإعادة النظر في قانون تطوير الأزهر وكان المستشار طارق البشري متحمسًا لهذا”.