نُصدم وتهتز ذاكرة المكان بداخل أرواحنا حين نصحو في 21 يوليو الماضي على هدم قد حدث بالفعل لأجزاء من أجمل نماذج العمارة الجنائزية الحديثة، ذات التصاميم الرائعة التي تخص عائلات الأرستقراطية والبرجوازية المصرية، وذلك لإقامة محاور مستحدثة في منظومة الطرق الجديدة، مدافن لأميرات وأمراء من أسرة محمد على، ومدافن أعلام السياسة والفن والفكر والأدب والصحافة، أحمد لطفي السيد، ومحمد عبد القدوس، وعبود باشا، وحسن صبري باشا، ومحمد التابعي، وغيرهم. كما تتصاعد الأخبار لنعرف أن لدى البعض نية هدم جبانات مدينة القاهرة في مخططات للقاهرة حتى 2050.
مسجل في منطقة الجبانات وحدها 78 أثر من 537 أثرا إسلاميا في القاهرة القديمة، وتعود هذه الآثار الجنائزية للدول الإسلامية المتعاقبة بدءاً من الفاطمية حتى العثمانية، ثم أضيف لامتداداتها مدافن أعلام العصر الحديث في تنوع بديع وثري للطرز المعمارية.
ولقد شمل التدمير أيضا أجزاء من جبانة المماليك الجنوبية والشرقية، رغم أن في أحواش تلك الجبانات أثار فنية معمارية فائقة الجمال لم تسجل بعد كآثار.
وانقسم المصريون كالعادة إلى فريقين: أحدهما يندب امتهان قدسية الموت ورفات الراحلين وطريقة تعامل المسئولون مع عائلات أصحاب المقابر، كما يرفض أي مساس بتلك المنطقة، ويذكر أن أي هدم سيتم لإقامة بناءات أخري سيحول المنطقة لمسخ معماري منفر، كما سيدمر ذاكرة المكان. ويرى الفريق الآخر أن التحديث وفق خطط شأن حركة الحياة، بشرط الحفاظ على الآثار المسجلة في تلك المنطقة، فالتطوير سيغير شكل العاصمة للأفضل، ويقضي على العشوائيات التي اجتاحت تلك المنطقة الجنائزية، حيث بات يسكنها بجانب الأموات ما يقرب من مليون مواطن من البسطاء، كما يمكن منح هؤلاء المواطنين أماكن سكن في المشاريع السكنية الجديدة التي تقيمها الدولة.
وأنا أتابع بعض تفاصيل هذه المساجلات الحدية بين الطرفين قفزت بمخيلتي بعض المشاهد التي قرأتها في النصوص الروائية للحكاء الكبير “خيري شلبي” حيث كانت ساحة أحداثها وجلساته هو وأصدقاؤه وبعض شخوص سردياته في تلك الأحواش في منطقة المدافن، وتعجبت في حينها وأنا صغيرة لماذا يعيش البشر في تلك الأحواش مع الموتى، وما طبيعة تلك الحياة؟ لم أكن بعد قد وعيت تركيبة المصري حيث يتجاور الموت مع الحياة بداخله في إيمان عميق بفلسفة الخلود التي ارتضاها الوعي المصري منذ القديم. أيضا لم أكن أدري أن التفاوت الطبقي الشاسع بين فئات الشعب المصري تجعل المهمشين يحتموا بأحواش الميتين، وبقدر ما تعجبت من تلك الحياة بقدر ما استوطنت ذاكرتي، وصارت جزءًا من هوية المكان وطبيعته التي استرجعها كلما مررت بجواره.
يرسخ الأدب كثيرا لكيفية تلقينا للأماكن قبل أن نشاهدها، من خلاله نتلقى المكان ويتشكل في وجداننا قبل أن نراه بأعيننا، يُوجد الأدب الأماكن على نحو خاص ويبقيها بذواتنا، فيجعلنا نتوق إليها أو ننفر منها، يبعث بها الروح ويجعلها تقر بالذاكرة.
لماذا لا نتمكن من المحافظة على الماضي، وعيش الحاضر، والتأسيس للمستقبل بفكر مرن وموضوعي؟
ربما السؤال الذي واجهت به نفسي بعد تفكير، أتروق لك صورة القاهرة على ماهي عليه الآن، ألا تتمني لمدينتك الشاهقة العريقة أن تغسل وجهها، أن تعود شابة وسط عواصم العالم، تتمتع بالحيوية والنضارة، وأن تسعى لتطوير مناطقها الكابية العجوز، خاصة وأن منطقة الجبانات الشاسعة تلك تضفي نوعا من كآبة الموت والعشوائيات من خلال المتصل الجنائزي الكبير الذي يمتد بطول 12 كيلومترا من الشمال للجنوب بموازاة القاهرة التاريخية، تحت سفح المقطم، حيث تبلغ مساحة تلك المنطقة أكثر من 2300 فدان.
لماذا نحن حديون وانفعاليون بهذا القدر المبالغ فيه دون موضوعية وتروٍ؟ ماذا لو حافظنا على تلك الآثار المعمارية الــ (78) المسجلة، كما بإمكاننا تشكيل لجنة مختصة بإضافة بعض الجبانات الأخرى المميزة معماريا من العصر الإسلامي أو الحديث، ثم تقوم الجهة المختصة تحت إشراف وزارة الآثار بتجميعهم في منطقة واحدة، مع ملاحظة أنه ليس من الصعب الآن حدوث هذا النقل لبعضهم هندسيا، كما يمكن أن نطالب بإشراف اليونسكو، ونستعين بمهارة وخبرات مهندسي الآثار المصريين المتخصصين، ثم حوّلنا تلك المنطقة بعد ترميم جباناتها لمزار سياحي، متحف مفتوح يضم تلك الآثار بعد ترميمها، ويدرج في الجولات التي يقوم بها زوار القاهرة للمزارات الإسلامية، يحدث هذا بالطبع بعد جمع رفات الموتى في منطقة الجبانات تلك ونقلها لجبانات خارجية في أحد المناطق الصحراوية على أطراف القاهرة إكراما لهم، ولذكراهم، وحفظا لرفاتهم.
فكما نقدس الموتى ورفاتهم وأجسادهم والمعمار الذي تركوه، علينا أن نقدس الحياة أيضا، نطور مقوماتها ومعطياتها، شكلها الجمالي، نضع تحديث مدننا في أولويات اعتباراتنا، نحافظ على تطويرها والحفاظ عليها مشرقة، تتمتع بالحيوية والنظام والجمال في الوقت ذاته، حيث تنعكس تلك القيم الرفيعة على الطابع النفسي للمواطنين، كما تصبح تلك المنطقة الشاسعة واجهة مشرفة لمن يزور مصر. وغني عن الذكر أن من شأن الإدارة القائمة على هذا الأمر التواصل مع ذوي أصحاب الجبانات والتشاور معهم، وتبصيرهم بمخططاتهم لتجميل وجه القاهرة؛ لتأسيس نوع من الثقة والاقتناع بالهدف من أعمال التطوير تلك والحفاظ على الآثار أيضا.
فلو حوّلنا منطقة الأحواش الجنائزية تلك إلى متنفس واسع للقاهرة، حدائق خضراء واسعة، تضم مسرحين أحدهما مفتوح والثاني مغلق، وسينمات، ومجموعة من النافورات الحديثة التي تنطلق معها الألحان العذبة، ومتنزهات يستطيع أن ينعم بها البسطاء، وتعيد الوجه الأخضر المشرق للعاصمة العريقة، كما يمكن تخصيص بعض المساحات المحدودة لبعض البناءات المعمارية الحديثة بما لا يطغى ويضر بالمناطق الأثرية الإسلامية المجاورة لتلك المنطقة، هذا لتتمكن الدولة من تمويل هذه المناطق السياحية الخدمية الميسرة للفئات العريضة.
ففي كثير من عواصم العالم العريقة وخاصة في أوروبا رأيت تجاور العمارة ما بعد الحديثة مع المعمار التاريخي جنبا إلى جنب، حتى أن بنايات الأحلام لــ (زها حديد) كانت تتجاور في ميلانو وغيرها من مدن أوروبا مع البنايات الكلاسيكية القديمة. ولا أتصور أن هناك تنافرا أو تناقضا كما يحلو للبعض أن يصف هذا الأمر، أو أنه يشكل القضاء على التجانس المعماري والهوية البصرية التي ظلت محتفظة بها المنطقة على مر العصور، بل أحسب أن هذا التجاور سيعبر عن التعايش ضمن كينونة الزمان وحركته ومراحله.
القاهرة بحاجة ماسة إلى أن نعيد لها حيويتها وألقها بما يليق بعراقتها، ولن يتسنى لها هذا إلا بمبادرات جريئة، مبادرات تحرص على التراث وتقدره وتحسن التعامل معه، وتوضح للأجيال الجديدة ماذا يمثل للمصريين، ولماذا نحافظ عليه؟ حيث يقول هايدجر:” للأعمال الفنية (وأولها المعمار بالطبع) سمتان جوهريتان: العمل الفني ينشئ عالما أو يجمع شتاته، كما يمهد الأرض أيضا” فعندما يتأمل هايدجر لوحة لحذاء امرأة فلاحة لفان جوخ يزعم أنها لا تمثل فحسب هذا الحذاء لكن تجمع شتات عالم المرأة الفلاحة. فتلك المقابر وما قام حولها من مساجد ومدارس وقصور، من “خوانق” أي خلوات صوفية، و”جواسق” أي أكشاك حراسة كلها منشآت معمارية تفصح وتدلل على طبيعة الحياة الاجتماعية وطبقاتها، والمناحي المعرفية الثقافية، التي كانت في هذه العصور، كما أن المعمار ذاته وطرازه الفني المتجلي في المشربيات، والنقوش الهندسية المرسومة الملونة، والرخام المنحوت، والأخشاب المشغولة كلها لا تفصح عن المدى الفني فقط بل عن فلسفة الرؤى التي خلف المعمار وتفاصيل هندسته ومقوماته. ندرك تاريخنا ونحافظ عليه، لكن نحرص أيضا على تنظيم حاضرنا، وإضفاء قيمة الجمال والحيوية على كل ما تقع أعيننا عليه.
لكل مدينة من المدن طابع خاص وبصمة متفردة، وتترك كل مدينة ذاكرة وصورة بصرية يحتفظ بها ساكنوها وزوارها أيضا، يتخيل المدن حتى من قرأ عنها في الآداب والفنون، أو رأى مشاهد منها في السنيما فحلم بزيارتها وشكلت جزء من ثقافته. وتزهو المدن والعواصم وتختال على مدن أخرى بعراقتها، وامتداد تاريخها، وتوالي الحضارات وانصهارها على أرضها، تزهو المدن أيضا بتنظيمها وقدرتها على التحديث وبث روح الحياة المتفائلة المشرقة، فالمدن منشآت وأماكن معمارية فوق طبيعة خاصة، بناءات متعددة الاختصاصات، أحداث بشر ووقائع حدثت فوق تلك الأرض بمختلف أنماط وطرز معمارها، تاريخ ممتد في الزمن لأجيال مرت من هنا. فلنترك تاريخنا وحاضرنا يتجاوران، نحافظ على الآثار التاريخية ونرممها، وأيضا نحدّث عاصمتنا ونجلو وجهها.
في تيار ما بعد الحداثة في الفنون تتجاور المدارس الفنية والمعمارية ضمن كيانات معمارية واحدة، وهو ما شاهدناه في العديد من البناءات والمدن العريقة في أوروبا، وبعض البلاد العربية، ففي دولة البحرين مثلا ابقوا على بعض البيوت التراثية الكلاسيكية، وأكملوا ما تهدم منها بمعمار ما بعد حديث تماما، في هارموني مبتكر له جماله الخاص والعجيب. في تواصل ديناميكي تفاعلي ما بين القديم والحديث.
كما أن المدن الجميلة التي حرصت على رونقها المعماري الحيوي الحديث سواء في الخليج أو أسيا وأوروبا، أزاحت مناطق قديمة بأكملها، ونقلتها لمناطق أخرى متاخمة لها أو بعيدة، عوضت أصحابها، وأقامت المعمار الحديث على أحدث الطرز، فضمنت رواجا سياحيا بمعدلات عالية.
نحن أبناء الأمس أي بتاريخنا الممتد، وأبناء اللحظة الحاضرة التي يجب أن نسهم في تطويرها بكل طاقتنا، كما أننا أساس وصانعو المستقبل فلنخلق معا ما نسميه “المكان الأسطوري” حيث يتعانق القديم والحديث معا، الموت والحياة، “المكان الأسطوري” الذي يجمع العصور وفنونها معا في هارموني متآلف.