تعود نشأة سيارات الإسعاف إلى القرن السادس الميلادي، خلال حروب الرومان، فكان يُكلف عدد من الفرسان بنقل المصابين إلى مكان بعيد عن ميادين القتال لتلقي العلاج، وفي القرن السادس عشر، شهدت أوروبا اختراع سيارات إسعاف تجرها الخيول، تُخلي المصابين إلى أماكن آمنة للعلاج، خلال ما سمي بفترة الحروب الدينية.
ومنذ أكثر من قرنين، وفي الثامن والعشرين من يوليو عام 1792، ظهرت أول سيارة إسعاف كوحدة مجهزة لإعطاء الإسعافات الأولية في الميدان، وبعدها بعدة أعوام قام جراح عسكري فرنسي بتزويد العربات بمعدات طبية وطاقم طبي يتألف من طبيب وممرضة للتدخل في ميادين القتال.
وفي عام 1830 انتقلت سيارات الإسعاف من المجال العسكري إلى الحياة المدنية على يد الطبيب الفرنسي هيبوليت لا راي، لتصبح سيارات الإسعاف منذ ذلك الوقت جزءًا أصيلًا من المنظومة الطبية، ومع تطور الخدمات العلاجية والتزام الدول بالرعاية الصحية تجاه المواطنين، أصبحت عمليات نقل المرضى عن طريق سيارات الإسعاف جزءًا من حقهم في العلاج خاصة في الحالات الطبية الطارئة.
ويمثل زمن استجابة سيارات الإسعاف لاستغاثات المرضى في الحالات الطارئة، وقدرة المسعفين على مباشرة الحالة أثناء نقلها، عاملًا مهمًا في مهمة إنقاذ حياتهم، فبقدر ما تَقلص زمن الاستجابة وزادت مهارات المسعفين، بقدر ما كانت المهمة أكثر يسرًا.
تكلفة نقل المرضى
وفي مصر، ظلت خدمات نقل المرضى بسيارات الإسعاف مجانًا، أو بسعر رمزي في الحالات “غير الطارئة”، حتى أغسطس من العام الماضي 2019، حيث أقرت هيئة الإسعاف لائحة أسعار لنقل المرضى طالبي الإغاثة من منازلهم إلى المستشفيات، وصِفت الأسعار بأنها مرتفعة جدًا وتفوق قدرات المرضى خاصة الدخول المنخفضة.
أسعار نقل المريض في الحالات غير الطارئة عن طريق سيارات الإسعاف بحسب لائحة الهيئة، من 1 إلى 25 كيلو مترًا 125 جنيهًا، ومن 26 كيلو مترًا إلى 50 كيلو مترًا تكون التكلفة 250 جنيهًا، وهكذا تزداد التكلفة كلمة زادت المسافة، وتكلفة نقل المريض من منزل إلى آخر 500 جنيه (خدمة المصاحبة)، وساعة الانتظار بـ100 جنيه كما يحسب كسر الساعة بـ100 جنيه أخرى، ونقل حالات الأورام والكلى 75 جنيهًا، أما تكلفة نقل المريض خارج المحافظة فتصل إلى مبلغ 5 آلاف جنيه.
خصخصة مقنعة
وبحسب وصف “ممرض” يعمل بأحد المستشفيات العامة، فضل عدم ذكر اسمه، فإن الأسعار المقررة منذ قرابة العام تعتبر خصخصة مقنعة لخدمات هيئة الإسعاف، وإن كانت الهيئة قد ذكرت أن الأسعار المحددة للحالات المرضية غير الطارئة، فإنه يرى من واقع عمله، أنه: “إذا لم تكن حادثة على الطريق، أو انهيار منزل أو حريق، فإن هيئة الإسعاف لا تعتبرها حالة طارئة، فكل ما دون ذلك يخضع لقائمة الأسعار”.
أغلى من “أوبر”
كلام الممرض يتطابق، مع شهادة عامل البناء، حسن رمضان، لـ”مصر 360″، فـ”رمضان” مر بتجربة مع سيارات الإسعاف، وصفها أنها كانت بلا رحمة، حيث كُسرت ساق والده المسن، يونيو الماضي، بعدما انزلقت قدمه على سلم منزله بحي فيصل بالجيزة، فاتصلوا بالإسعاف لنقله إلى أقرب مستشفى.
يستكمل رمضان: “كانت الساعة العاشرة مساءً فخفنا من استئجار سيارة خاصة بسبب الحظر، إضافة لخوفنا من تفاقم الإصابة بقدم والدي لو قمنا بتحريكه بشكل خاطئ، فاتصلنا بالإسعاف والتي جاءت بعد نحو ساعة، ثم أخذ المسعفون وقت طويل حتى أمكنهم عمل إسعافات للساق حتى لا تتأثر أثناء نقله، وكانت معاملتهم طيبة جدًا، ذهبنا إلى مستشفى أم المصريين، فطلبوا منا الانتظار بسبب دخول بعض حالات كورونا للمستشفى، فطلبنا من الإسعاف توصيلنا إلى عيادة عظام لطبيب خاص بالجيزة دلنا عليها واحدًا من عمال المستشفى وقال إن أسعاره رخيصة، ففوجئنا عند وصولنا عيادة الطبيب الخاص، بطلب المسعفين دفع مبلغ 325 جنيهًا تكلفة نقل المريض والانتظار”.
يضيف رمضان: “ماكنشي معايا غير 500 جنيه، كنت قاعد من غير شغل بقالي فترة بسبب “كورونا”، أعطيتهم المبلغ المطلوب واتصلت بواحد صاحبي جابلي فلوس، المسعفين كانوا متعاطفين معايا، وقالوا إنها اللوائح وإنهم مالهمش ذنب، مش عارف إيه الأسعار دي، ده لو “أوبر” مش هياخد نص المبلغ ده، وبعدين المرضى تجيب منين”، متسائلًا: “مش دي بردو سيارات الدولة ومن حقنا تنقل المرضى مجانًا، ويعني إيه كسر مضاعف في القدم، ما يعتبرشي حالة طارئة، ولازم ندفع مقابل النقل علشان روحنا عيادة خاصة طيب هو احنا روحنا بمزاجنا!، ويا ريت طلبوا مبلغ معقول ده أغلى من أي وسيلة مواصلات في مصر”.
دفع اضطراري
وتقول سهام علي، مدرسة، مقيمة بقرية الغرق بمحافظة الفيوم لـ “مصر 360”: “شعرت أمي بآلام شديدة في الظهر، وكانت قد أجرت عملية جراحية بالعمود الفقري منذ أيام، استدعينا طبيب شاب من جيراننا فطلب منا الاتصال بالإسعاف، لحاجة والدتي للنقل للمستشفى، وجاءت سيارة إسعاف ونقلتها إلى مستشفى “إطسا”.
وتستكمل سهام، “بعدما دخلت أمي المستشفى طلب منا المسعفون دفع 350 جنيهًا تكلفة النقل للمستشفى”، مضيفة، “حاولت أن أتحدث مع أحد المسؤولين لتخفيض المبلغ، فقالوا لي إنها ليست حالة طارئة إنها مجرد متابعة للعملية الجراحية وعليّ دفع الرسوم، فاضطررت لدفع المبلغ”.
3500 جنيه “بعد الرأفة”
أما سعيد مرجان، الموظف بالمجلس المحلي بمدينة بني سويف، فقد كلفه نقل زوجته بسيارة إسعاف من القاهرة لـ”بني سويف” 3500 جنيه، بعد إجراءها عملية جراحية لاستبدال مفصل الحوض، بالقصر العيني، المبلغ الذي دفعه “مرجان” كان “بعد الرأفة”، كما يقول ساخرًا لـ “مصر 360” مضيفًا: “تحول نقل المرضى بسيارات الإسعاف من خدمة مجانية إلى السفر على درجة رجال الأعمال”.
الحق في العلاج
وتنص المادة (18) من الدستور المصري على أنه: “لكل مواطن الحق في الصحة وفي الرعاية الصحية المتكاملة وفقًا لمعايير الجودة، وتكفل الدولة الحفاظ على مرافق الخدمات الصحية العامة التي تقدم خدماتها للشعب ودعمها والعمل على رفع كفاءتها وانتشارها الجغرافي العادل. وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للصحة لا تقل عن 3 % من الناتج القومي الإجمالي تتصاعد تدريجيًا حتى تتفق مع المعدلات العالمية. وتلتزم الدولة بإقامة نظام تأمين صحي شامل لجميع المصريين يغطى كل الأمراض، وينظم القانون إسهام المواطنين في اشتراكاته أو إعفاءهم منها طبقاً لمعدلات دخولهم. ويجرم الامتناع عن تقديم العلاج بأشكاله المختلفة لكل إنسان في حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة”.
وقضت محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية في حكم تاريخي لها عقب تعطيل دستور 2012، بموجب بيان المجلس الأعلى للقوات المسلحة في 3 يوليو 2013، بعلاج عشرة مواطنين بينهم ثماني سيدات يعانون من تصلبات متعددة بالنخاع الشوكي وتليف بالجهاز العصبي، على نفقة الدولة، وقالت المحكمة في حيثيات حكمها: “إن حق المواطنين غير القادرين في العلاج المجاني، سارٍ حتى في فترات تعطل الدستور، لما تكفله الدساتير الدولية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والاتفاقات الدولية الموقعة عليها مصر، حتى لا تتعرض حياة المواطنين للخطر والهلاك، ذلك أن الحق في الحياة يجب أن يسمو على أي حق آخر”.
خدمات “Business class“
وبينما يكفل الدستور المصري بشكل واضح لا يقبل اللبس، حق المواطنين في رعاية صحية متكاملة، ويجرم من يمتنع عن أداءها، ليس هذا فحسب بل وتخبرنا أحكام القضاء الإداري بأحقية المواطنين في العلاج المجاني، حتى في فترات تعطل الدستور، تتسارع وتيرة تسليع الخدمات الصحية، سواء في المستشفيات أو الخدمات الطبية المكملة كنقل المواطنين عن طريق سيارات الإسعاف المملوكة للدولة والمُشْتَرَاةٌ من أموال الضرائب التي يدفعها المواطنين، ليتحول الحق في العلاج كما يقول صاحب إحدى الشهادات الواردة في التقرير إلى خدمات “Business class“.