“احنا معلمين احنا معلمين، والاسم شحاتين، لا ده احنا معلمين، ناخد ما نقولشي لا حسنتنا بذوق وزقة، بنمارس الشحاتة بحداقة وفهلوة، والقرش بالتباتة بنجيبوا من الهوا”.. أن تجبر شخصًا على أن يمد يده إلى غيره ليستبدل كرامته بجنيهٍ أو بضعة جنيهات، وربما تعود يده فارغة من كليهما، ليس بالضرورة شيئًا يدعوه للزهو، مثلما غنى “عدوية” ورفاقه متفاخرين بمهنتهم، في أحد مشاهد فيلم المتسول.

“عمري ما كنت مبسوطة من الشغلانة دي، ولا عملتها بخاطري، ما هو مفيش إنسان هيقبل يهين كرامته ويمد أيده للناس، واحد يديله وعشرة لا” هكذا تصف شيماء صاحبة الـ22 سنة” شعورها وتجربتها مع التسول القسري”.

اتجار بالبشر

الإجبار على التسول، يأخذ أشكالُا مختلفة، منها ما هو تحت السلطة الأسرية والعائلية، كإرغام الآباء والأمهات لأبنائهم أو من يعولون، أو الأزواج لزوجاتهم، أو الإخوة الذكور أو الإناث لإخوتهم وأخواتهم الأصغر سنًا، وكل من يقع تحت السلطة الأسرية والعائلية، وإجبار الأطفال الخاضعين لسلطة “الشارع” المتمثلة في رجال ونساء يسيطر كل واحدة أو واحد منهم على مجموعة من الأطفال والفتيان والفتيات وأحيانًا البالغين، ولكل واحدة أو واحد منهم منطقة محددة يمارس فيها نفوذه.

وتعتبر الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة، التسول القسري، عن طريق التهديد أو استخدام القوة أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو الابتزاز أو إساءة استغلال مواقف ومواضع الضعف أو إعطاء مبالغ مالية أو مزايا بدافع السيطرة على شخص آخر، نوع من أنواع الاتجار بالبشر، وحددت الأمم المتحدة الثلاثين من تموز/يوليه، كيوم دولي لمكافحة الاتجار بالبشر.

الإجبار على التسول

تستكمل شيماء روايتها: “كنا ساكنين في مركز سنورس، أبويا من صغرنا أنا واخواتي بيخلينا ننزل الفيوم نشحت عند السواقي وجنب محلات الآيس كريم، وهو كان بيقعد جنبنا يبيع مناديل، احنا مش ساكنين في الشارع، بس مش معانا ثروة ولا عندنا عمارات، زي ما بيظهر في الأفلام، عندنا بيت أوضين وصالة، المهم، ما كنتش ببقى عايزة أروح مع أبويا ولا أشحت، بس في الآخر كنت بروح غصب عني مرة بالمحايلة ومرة بالضرب”.

وتضيف شيماء: “دخلت مدرسة لحد الإعدادية، وكنت شاطرة والله، ما كنتش هاطلع دكتورة يعني”، تضحك شيماء ثم تستأنف كلامها “بس أكيد كنت هاخد شهادة حتى لو دبلوم، أبويا ما خرجنيش من المدرسة أنا اللي خرجت، العيال في المدرسة كانوا عارفين حوار الشحاتة ده وكانوا دايمًا بيعيروني”.

تحكي شيماء كيف تخلصت من إجبار والدها لها على التسول فتقول: “وأنا عندي 17 سنة، اتقدم لي شاب، كان بيبع ملابس على الرصيف، وكان مصاحب أبويا اشترطت عليه ما اشتغلشي الشغلانة دي، وهو كمان ما كنشي عايز كده، وطلب من أبويا يقعدني في البيت، حتى واحنا مخطوبين، وبعد ما اتجوزت وخلفت، ساعات بقف مع جوزي أبيع ملابس، بس من غير ما أهين كرامتي، عايزة ولادي يشوفوني محترمة وأربيهم وأعلمهم كويس”.

إرغام من نوع آخر

“سحر”، امرأة في بداية العقد الخامس، ولديها ثلاثة أبناء أكبرهم في الخامسة عشر من عمره، تمر منذ 5 سنوات على المقاهي كل مساء، طلبًا للعون، وفي فترة كورونا كانت تقف بجوار البنوك وماكينات الصرافة، لتجني “حسب روايتها” من 30 إلى 60 جنيهًا يوميًا، عنصر الإرغام هنا ليس محددًا بدقة ولكنه متوفر، فـي “سحر” متزوجة منذ سبعة عشر عامًا، وزوجها كان يعمل على “عربة كارو” ولكنه منذ سنوات لم يعد يعمل، ويطالبها بتوفير نفقات المنزل، إضافة لسجائره، وإن لم تفعل يكون مصيرها الضرب.

تحكي “سحر” عندما كانت مريضة يومًا، ولم تذهب لتمر على المقاهي كعادتها، وطلب منها ثمن علبة سجائر، ولما يكن معها فضربها بسلك كهرباء، ظلت أثاره على جسمها لأسابيع.

تقول سحر: “الشحاتة أهون من الدعارة، مش ببقى عايزة أنزل ولا عايزة ولادي يطلعوا يلاقوا أمهم كده، بس ما باليد حيلة، فكرت أكتر من مرة أبيع خضار، بس مفيش راس مال وكمان بخاف جوزي ياخد فلوس البضاعة يصرفها”

النجاة محل شك

شهادات عدد من الأطفال عن إجبارهم على التسول، سواء من قبل الأهل، أو لأن بعضهم ليس له مأوى سوى الشارع ولم يعرفوا مكانًا آخر غيره، ووقعوا تحت سيطرة أشخاص، أجبروهم على التسول مقابل نسبة يومية من حصيلة تسولهم.

وعلى عكس “شيماء”، فجميع من تحدثنا معهم لم يَنجُو منهم أحد سوى “دنيا” والتي لجأت إلى مركز استضافة المرأة بالجيزة، بعدما تحرش بها أخيها الأكبر، والذي كان يجبرها أيضًا على التسول، لكن نجاتها بشكل كامل محل شك، فمشروع مركز استضافة وتوجيه المرأة التابع لوزارة التضامن الاجتماعي، والتي لجأت إليه دنيا يستضيف المعنفات بشكل مؤقت لحين استلام المعنفة من أحد أقاربها وتعهده بحمايتها، وغالبًا ما يتم استغلالهن مرة أخرى بعد ترك المركز.

تشوه يجب مواجهته

التسول ظاهرة اجتماعية قديمة داخل المجتمع المصري، لها جوانب متشعبة، وتحتاج إلى علاجات اجتماعية واقتصادية وسياسية وقانونية كثيرة وطويلة الآجل، ليس أهمها بالطبع معاقبة المتسولين، خاصة الأطفال، ومن ألقت بهم الظروف داخل الظاهرة.

لكن التسول القسري وما يَنتُج عنه من تشوه اجتماعي ونفسي لعشرات الآلاف من الأشخاص، والذين أُرغموا على ممارسة التسول، بينما كانوا يحلمون أن يروا أنفسهم في أماكن وأعمالٍ أخرى، لا تُمتهن فيها كرامتهم، حتى ولو كانت أحلامهم بسيطة مثل حلم “شيماء”، بيت، وزوج تساعده في بيع الملابس، وأولاد وبنات تستطيع تعليمهم  ليصبح حظهم أفضل منها، يستلزم  سياسات وخطط وميزانيات محددة، خاصة من الجهات المعنية بالأمومة والطفولة، والمرأة، والتي لا يعدو وجودها في الكثير من الأحيان مجرد ديكور، إضافة لدعم الجهود البحثية التي يمكنها حصر المشكلة ووضع الحلول، تحت مظلة قانونية، تسلب الوصاية الأسرية، في حالات الإجبار على التسول، بما يتماشى مع المعايير الدولية.

الأسماء الواردة في التقرير أسماء مستعارة، كما حرصنا على ألا نورد كلام الأطفال والذين لم يصلوا للسن القانونية لظهورهم بأي شكل في وسائل الإعلام، طالما لم يمكننا موافقة لأوصياء القانونيين على نشر كلامهم.