قدم الشيخ أمام والشاعر أحمد فؤاد نجم أغنيتهم الساخرة عن “موضوع الفول واللحمة” في سبعينات القرن الماضي، والتي تقول خاتمتها، “ايه رأي جنابك وجنابهم .. فيه واحد مجنون بيقول .. احنا سيبونا نموت باللحمة وتعيشوا انتوا وتاكلوا الفول .. مش بالذمة كلام معقول”.
وما تزال تلك السخرية المريرة تجد انعكاسها في واقع إنتاج واستهلاك اللحوم في مصر رغم التقدم الكبير علي طريق توفير اللحوم الحمراء في مصر، والتي بلغت لأول مرة 55% اكتفاء ذاتي عام 2019، لكن معدل استهلاك المواطن المصري ما زال بعيدا عن المعدلات العالمية لتوفير البروتين، حيث يبلغ معدل استهلاك الفرد في مصر من اللحوم 8 كيلوجرام سنويا بمعدل 20 جم يوميا، بينما يبلغ هذا المتوسط 28 كيلو جرام في دول الاتحاد الاوروبي، و30 كيلوجرام في الولايات المتحدة، ويصل إلى 40 كيلوجرام في البرازيل بمتوسط عالمي 50 جم بروتين يوميا حسب الدكتور “جمال صيام” أستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة القاهرة.
إنتاج واستهلاك اللحوم الحمراء في مصر
تستهلك مصر ما يقارب 10 ملايين طن من اللحوم الحمراء سنويا، منها 60% انتاج محلي حسب ما أعلنه “مركز البحوث الزراعية” التابع لوزارة الزراعة لعام 2019، و40% يتم استيرادها من الخارج لي شكل حيوانات حية أو لحوم مجمدة، وتستورد مصر اللحوم من أثيوبيا والبرازيل واستراليا والسودان وأوروجواي.
ووفقا لبيانات وزارة الزراعة تملك مصر 18 مليون رأس ماشية، منها 4.7 مليون من الابقار، و3.8 مليون رأس جاموس، و4.2 مليون رأس من الماعز بالإضافة إلى 5.4 مليون رأس من الأغنام.
خطة الدولة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من اللحوم
بعد الوصول للاكتفاء الذاتي من الدواجن والأسماك تسعى مصر جاهدة لتأمين الطلب المحلي على اللحوم الحمراء لتأمين مصادر البروتين اللازم للمصريين من مصادر محلية دون الحاجة للاستيراد، وهي ليست فقط دعم للاقتصاد القومي وتوفير للعملات الأجنبية التي تستخدم في الاستيراد، ودعم قوة الجنيه المصري في مواجهة العملات الأخرى، بل أيضا مسألة أمن قومي يحرر مصر من التحكم في غذاء شعبها في ظل حالة عدم الاستقرار والحروب الاقتصادية والعسكرية التي تسود العالم، خاصة في ظل زيادة سكانية تبلغ 2.5 مليون سنويا.
تتضمن خطة الدولة لتأمين احتياجات مصر من اللحوم الحمراء المحاور التالية:
مشروع المليون رأس ماشية
وضعت وزارة الزراعة خطة لإضافة مليون رأس ماشية الي الثروة الحيوانية المحلية، وبدأت المرحلة الأولى للمشروع في 2017 من منطقة النوبارية بمحافظة البحيرة، بإنشاء مزرعة نموذجية على مساحة 350 فدان باستثمارات بلغت 211 مليون جنية، لتربية 200 ألف رأس من الابقار، انطلق مشروع المليون رأس ماشية من منطقة غرب النوبارية بمحافظة البحيرة.
ودخلت المرحلة الثانية من المشروع الإنتاج هذا العام في محافظة الفيوم بافتتاح مجمع الإنتاج الحيواني بمنطقة يوسف الصديق، والذي تبلغ طاقته الإنتاجية 200 ألف رأس من الماشية سنويا، ويشمل بالإضافة إلى مزارع تربية الحيوانات 25 ألف فدان مزروعة لتوفير الاعلاف، كما يضم مجزر آلي على مساحة 54 ألف متر مربع، ومصنع للألبان ومركز طبي بيطري لرعاية ثورة مصر الحيوانية من الأمراض والأوبئة.
إحياء المشروع القومي للبتلو
طرح مشروع البتلو لأول مرة في ثمانينات القرن الماضي غير أنه واجه مشكلات كثيرة وتوقف لفترة طويلة قبل أن تعيد الدولة احياؤه في العام الماضي، ويستهدف منع ذبح الماشية اقل من 400 كيلوجرام، بدلا من 100 كيلو حاليا، ويحافظ المشروع على حماية 550 ألف رأس ماشية كان يتم ذبحها قبل إتمام تغذيتها، وهو ما يضاعف إنتاجها من اللحوم أربع مرات على الأقل.
ويستهدف المشروع صغار المربيين عبر تمويل الدولة لشراء رؤوس الماشية وتغذيتها من خلال قروض ميسرة بلغت اكثر من مليار جنيه حسب تصريح لنائب رئيس البنك الزراعي المصري الدكتور “تامر جمعة”، ومرصود له 500 مليون جنيه أخري في موازنة هذا العام، وتجاوزت عدد رؤوس الماشية في المشروع 75 ألف رأس واستفاد منه اكثر من 7000 أسرة حتى الآن.
إجراءات أخرى لدعم قطاع إنتاج اللحوم في مصر
قروض ميسرة للمربين بفائدة 5% سنويا وبلغت خلال العام الماضي 1.6 مليار جنيه.
حصر عدد الماشية لدى المزارع والمربين لتوجيه عملية الإنتاج لتتناسب مع حجم الطلب والعرض خلال العام بتلافي عمليات إغراق الأسواق والنقص فيه على مدار العام.
تقديم الدعم الفني وتوفير المرشدين من وزارة الزراعة لصغار المربيين، تشمل الارشادات الطبية وكيفية توفير الاعلاف وطرح الانتاج في الاسواق.
توفير سلالات من الماشية تتميز بإنتاجية كبيرة من اللحوم والألبان للمربين.
تسهيل الحصول على تراخيص مزارع الإنتاج الحيواني خاصة في الظهير الصحراوي للمدن.
إعداد خريطة وبائية للأمراض ومواسم انتشارها، مع وضع خطط لمواجهتها من خلال حملات التحصين منها.
التوسع في إنشاء المجازر الحديثة وفقا لأحدث المعايير الصحية والبيطرية، مع تطوير منظومة حفظ وتخزين اللحوم وعمليات نقلها في المبردات.
عقبات تواجه الاكتفاء الذاتي من اللحوم الحمراء
سكرتير عام شعبة القصابين، شلبي جابر، أكد أن خطة الدولة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من اللحوم الحمراء تواجهها معوقات كثيرة تأتى في مقدمتها ثلاث عقبات رئيسية وهي:
توفير الأعلاف محليا بسعر مناسب
ما يزال توفير الأعلاف للماشية يعتمد على الاستيراد حيث تستورد مصر أكثر من أربعة ملايين طن من الذرة الصفراء تدخل في صناعة الأعلاف، وهو ما يسعى مشروع المليون فدان لتوفير جزء منها، عبر التوسع في زراعة الذرة والتي تشكل المكون الرئيسي للعلف، مع البرسيم الأخضر والذي يساهم بنسبة أقل ضمن مكونات غذاء الماشية.
تطوير مزارع وزارة الزراعة المتوقفة
دكتور “مصطفي خليل” مدير معهد بحوث الإنتاج الحيواني التابع لوزارة الزراعة، كشف عن امتلاك الوزارة 51 مزرعة تعمل فقط بـ 40% من طاقتها، بسبب نقص التمويل، وتحتاج لتطوير البنية التحتية المتهالكة حيث أنشأ أغلبها في خمسينات القرن الماضي، وهو ما يساهم في رفع إنتاجيتها وتقليل الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك في اللحوم الحمراء.
دعم منافذ التوزيع الخاصة “القصابين”
تدخل الدولة القوي في مجال إنتاج اللحوم وتوفيرها للمنتجات من خلال منافذها سواء التابعة لوزارة الزراعة أو القوات المسلحة ووزارة الداخلية، انعكس سلبا على مهنة القصابين، جعلت رئيس شعبة القصابين باتحاد الغرف التجارية “محمد وهبة” يطالب بدعم القطاع والحفاظ على مئات الآلاف من العاملين به، من خلال توفير حصة لهم من مزارع الإنتاج التابعة للدولة، لتوزيعها من خلالهم حتى لا تخرج مهنة القصابين من السوق.
لا شك أن جهود الدولة لتوفير اللحوم الحمراء قد ساهمت إلى حد كبير في الحفاظ على الأسعار عند مستواها الحالي رغم ارتفاعه عن متناول قطاع واسع من الشعب المصري، لكن الأمر كان من الممكن أن يكون أسوأ كثيرا خاصة بعد أزمة التي شهدتها مصر منذ عامين والتي تجاوز خلالها سعر الكيلو 250 جنية، قبل ان يعود ليستقر بين 100 و160 جنيه للكيلو حسب الجودة ومكان العرض.
لكن المؤكد إن جهودا أكبر ما زالت القطاع يحتاج إليها للوصول إلى تأمين هذا القطاع الحيوي والمكون الرئيسي في سلة غذاء الشعوب، والذي يعد تحقيق الاكتفاء الذاتي أحد أهم دعائم الحفاظ علي الأمن القومي للدول.