“العيد فرحة” جملة متداولة اعتادت الآذان على سماعها قديماً، خلال أيام العيد، سواء عيد الفطر أو عيد الأضحى، أجيال عديدة نشأوا على طقوس جميلة تبدأ بتكبيرات العيد ليلة الوقفة، تعقبها صوت الست يأتي من بعيد “يا ليلة العيد .. أنستينا”.. ينام بعدها الأطفال بجوار ملابسهم الجديدة، يستيقظوا أكثر من مرة طوال الليل على أمل أن يروا الشعاع الأول للشمس، ويأتي الصباح سريعاً ليرتدوا ملابسهم الجديدة ويبدأ يومهم سريعاً بزيارة الأهل والأقارب والأصدقاء، الآباء تغمرهم سعادة كبيرة وهم يصنعوا حلقة الوصل بين الأحفاد والأجداد، تفاصيل بسيطة لا يمكن أن تنساها الأذهان تربى عليها أجيال، حتى اصبحت ماضي يسبق ذكرها جملة “كنا زمان بنفرح بالعيد.. الآن لا ” .

فمنذ ما يقرب من 10 سنوات تبدل الحال وظهرت جمل تفيد بعدم الاستقرار النفسي، واختفاء سعادة الأغلبية العظمى بالعيد، واتسعت رقعة التعساء، أرجعتها الدراسات للظروف المحيطة، ولعوامل عدة، وقفت جنباً إلى جنب واصطفت لتفسر أسباب عبوس المصريين، وعقد ملامح الأوجه واتصال الحاجبين بخط اكتئاب واضح يعتلي الجبين.

الفقر هو السبب

“سيد. ح” رجل خمسيني لديه 3 أبناء بمراحل تعليم مختلفة، تقدم بطلب اقتراض من إحدى شركات الأدوية التي يعمل بها ليشتري لحمة لأسرته قبل العيد بأسبوع واحد، تدوينه كتبها أحدهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو يتساءل كم مرة يأكل سيد وأسرته اللحمة في العام، إذا كان مضطر للاقتراض ليشتريها مرة واحدة كل عيد؟

تدوينه حزينة وعميقة في أن واحد، فلو كان سيد مضطر للاقتراض لشراء اللحمة، فماذا يفعل في باقي مطالب الحياة من ملبس وعلاج وزواج وغيره؟! وكيف يمكنه بعدها أن يفرح بالعيد؟!

حالة “سيد” كانت متكررة في معظم المنازل المصرية، فوفقاً لإعلان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر نهاية عام 2018، أعلن عن ارتفاع معدلات الفقر في مصر لتصل إلي 32.5% من عدد السكان، وهو ما أفاد رفع نسبتها بنسبة 4.7 % عن معدلها نهاية العام الذي يسبقه 2017، وقد تصدر صعيد مصر قائمة المحافظات الأكثر فقرا في الجمهورية، حيث سجلت محافظة أسيوط نسبة فقر بين مواطنيها بلغت 66.7 %، تلتها محافظة سوهاج بنسبة 59.6 %، ثم الأقصر 55.3 %، والمنيا 54 %، ثم قنا 41 %

في المقابل، كانت محافظات شمال مصر وتحديداً محافظات بورسعيد والغربية ودمياط قائمة المحافظات الأقل فقرا.

وأشار التقرير إلى أن ما يقرب من 46 قرية في محافظتي أسيوط وسوهاج، بصعيد مصر، تتراوح نسبة الفقر فيها بين 80 إلى 100 %، فضلا عن معاناة 236 قرية في سوهاج من الفقر، وهي نسبة بلغت 87 % من قرى المحافظة، ما جعلها تسجل النسب الأعلى بين أفقر 1000 قرية في مصر.

 مفتاح الجريمة

عادة ما يأتي الفقر في بداية السلسلة ليجذب بعده حلقات أشد خطراً تشير لانتشار ظواهر أخرى، فالعوز دائماً ما يدفع البشر للجريمة ولأفعال مريبة، في العشر سنوات الأخيرة ارتفعت معدلات الجريمة في مصر بحسب مؤشر الجريمة العالمي (نامبيو) لعام ٢٠١٩، حيث احتلت مصر المركز الرابع على مستوى الدول العربية في معدلات الجريمة، والمركز الـ26 عالميًا، والثامنة أفريقيًا والثالثة عربيًا.

نتائج المؤشر (نامبيو) كانت ناقوس خطر لكنها عللت وبرهنت عن كثير من المؤشرات السيئة منها تعدد أنواع الجريمة وطرق تنفيذها، فارتفعت نسبة القتل العمد بنسبة 130% من 2009 إلى 2019، والسرقة بالإكراه ارتفعت بنسبة 350%، أي ما يعني أننا أمام كارثة مجتمعية خاصة وأن بعض هذه الجرائم ارتكبها أطفال.

جرائم الأسرة

الضغط يولد الانفجار، جملة علمية للغاية، تشير إلى قواعد فيزيائية ثابتة، فلكل فعل رد فعل مماثل له في القوة، مضاد له في الاتجاه، بنفس هذه القاعدة ضغطت الظروف على المواطن خارج المنزل، ففرغ شحنات غضبه في الداخل، وارتقعت معدلات الجريمة داخل الأسرة، وتنوعت ما بين جرائم الشرف وغيرها، وهو ما أكده المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية مطلع العام الجاري، بأن  92% من الجرائم الأسرية تندرج تحت ما يسمى جرائم الشرف، و 70% منها ارتكبها الأزواج ضد زوجاتهم، و20% ارتكبها الأشقاء ضد شقيقاتهم، بينما ارتكب الآباء 7% فقط من هذه الجرائم ضد بناتهم والنسبة الباقية وهى 3% ارتكبها الأبناء ضد أمهاتهم.

عندما تهون الحياة

إذا كنا بصدد الحديث عن الاكتئاب والفقر والاضطرابات الشخصية والمعرفية بفعل الأوضاع، فنحن نقترب كثيراً من دائرة الحديث عن الانتحار، الحلقة الأخيرة والأشرس التي يقف أمامها العالم في حالة غضب وصمت وحيرة.

مؤخراً ارتفعت نسب الانتحار في مصر وفق التقرير الذي نشرته منظمة الصحة العالمية نهاية 2019، وقد جاء في التقرير أن شخصا واحدا ينتحر كل 40 ثانية، وتصدرت مصر قائمة البلدان العربية من حيث أعداد المنتحرين، ولم يكن هذا الترتيب حديث العهد، فقد احتلته مصر بدايتاً من عام 2016، عندما شهدت مصر انتحار 3799 حالة في النصف الأول فقط من العام.

اغتصاب وتحرش

عندما يأتي الحديث عن اضطهاد النساء في مصر فحدث ولا حرج، فهي بمفردها جملة دافعة للغضب والاحتقان خاصة فيما يتعلق بالتحرش الجنسي والاغتصاب، ففي دراسة نشرتها الجامعة الأمريكية، أجرتها هيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة أظهرت أن حوالى 99% من النساء المصريات تعرضن لصورة ما من صور التحرش الجنسى، ونسبة كبيرة منهم تعرضوا للاغتصاب، حتى المتزوجات منهن، تعرضن هم أيضاً لاغتصاب على ايدي أزواجهن.

كل هذه العوامل تراصت جنباً إلى جنب لتفسر لماذا لم يعد العيد مفرح، كما عهدناه، وكما تربى على بهجته الآباء والاجداد، فجميع هذه العوامل ساهمت في خلق عقد نفسية كثيرة للمواطنين.

مجتمع مضطرب

“توقعات بإرتفاع معدلات المرضى النفسيين في مصر لأكثر من 80%  من الشعب المصري، نهاية عام 2030” الجملة الأولى التي قالتها منال عبد الحليم، استاذ علم النفس المعرفي ، موضحة أن العوامل النفسية التي تؤدي لاكتئاب المصريين، لا يقف تأثيرها عند حد الاكتئاب فحسب، بل يتسع التأثير ليصل إلى حد الاضطراب والمرض النفسي والعقلي، فعادة ما يصاب الأشخاص الذين يصابون بالقلق والغضب والاكتئاب ببعض الأمراض العقلية كالفصام والذهان، كذلك بعض الأمراض البدنية كأمراض القلب والسكتات الدماغية، وهو ما يفسر ارتفاع عدد حالات المصابين بهذه الأمراض في الفترة المذكورة في العشر سنوات الأخيرة. وأضافت أن هذه الأزمة ربما لا تظهر بوضوح الآن، لكنها ستشكل كارثة مجتمعية في المستقبل القريب.