“من جاء دهب عقله ذهب”.. هكذا بدأت مي أبو زيد، حديثها عن رحلتها في مدينة دهب المصرية، المدينة الساحرة التي خطفت الشابة الثلاثينية من زحام العاصمة المصرية مدينة القاهرة، لتبدأ حياتها، لتصبح المدينة الساحلية ملاذًا جديدًا للهاربين من العاصمة التي لا تنام، مودعين الصخب وباحثين عن الهدوء.
دهب هي مدينة مصرية تتبع محافظة جنوب سيناء وتقع على خليج العقبة، وتنقسم المدينة إلى قسمين، الأول: يقع جنوبًا ويسمى قرية العسلة وتشتهر بالحياة البدوية البسيطة، والقسم الثاني: يقع شمالاً ويعد روح ونبض المدينة، بسبب اشتماله على الأسواق التجارية والأماكن الترفيهية، وتشتهر المدينة بشواطئها الصافية ومواقع الغطس الطبيعية الغنية بالشعاب المرجانية.
تخرجت “مي” في الجامعة وبدأت العمل بمجال السياحة، وبحكم طبيعة عملها كانت تذهب للمدينة في رحلات صيفية قصيرة، حتي جذبتها الشواطئ والطبيعة الخلابة، فبدأت الفكرة تراودها، وطرحت على نفسها سؤالاً: “لم لا استقر بتلك المدينة الفاضلة”، فبحسب حديثها المدينة تتمتع بكافة السلوك الطيب، فطرقاتها نظيفة لا يوجد بها قمامة، أو مهملات، كما أنها تساعد في الحفاظ على البيئة ومنع استخدام البلاستيك لأكثر من مرة، فالميل للطبيعة هو نهج المدينة”.
تجديد الطاقة في المدينة الفاضلة
قررت “مي”، ثم عزمت ترك العاصمة بضجيجها، والذهاب لما أطلقت عليها “المدينة الفاضلة”، برغم أن فرص العمل لم تكن متوفرة هناك بكثرة، لقلة عدد السكان بالمدينة، ولكن حلم “تجديد الطاقة” كان أقوى منها، وبالفعل ذهبت وبدأت في رحلة جديدة من البحث عن العمل ومكان الإقامة، وعملت في أحد الفنادق التي تستقبل الأفواج السياحية بالمدينة.
أسعار الإيجارات قليلة في المدينة مقارنة بالعاصمة المصرية القاهرة، ولكن كما ترى “مي” فهناك أيضًا فرص عمل قليلة وأجور أقل، لقلة السكان، ولكن مع زيادة أعداد المترددين على المدينة أو المقيمين بها زادت أسعار الإيجارات، ولكن تظل المدينة تحتفظ بطابعها النقيّ، بعيدة عن التلوث، بعيدة عن الضوضاء، تستقبل الوافدين إليها بحب يجعلهم يقررون عدم العودة للمدن الصاخبة.
8 أشهر عاشتهم الفتاة في مدينة دهب المصرية، حتى قررت العودة مجددًا إلى القاهرة في رحلات قصيرة لزيارة أسرتها، فالشئ الوحيد الذي تفتقده في المدينة هو أسرتها، فكما تقول تذهب للعاصمة المصرية لرؤية أسرتها وأصدقاءها، وتعود لمدينة دهب لشحن طاقتها من جديد.
“الهجرة لدهب” مصطلح أصبح منتشرًا بقوة بين الشباب في الفترة الأخيرة، ويبدو أن المدينة الساحرة نجحت في جذب المصريين والأجانب أيضًا إليها، فهناك الكثير من جنسيات مختلفة قرروا نقل حياتهم إلى سيناء والاستقرار بها مدى الحياة، كما فعل يوسف الهولندي، بعدما ترك هولندا وقرر الإقامة في دهب، ولم يعرف في البداية باسمه، ولكن عرف بما يقدمه من “أرز بلبن”، وهو أحد الأطباق المصرية الشهرية، فيسير يوميًا بدرجاته ومعه عبوات حلوى الأرز باللبن بمذاقها المميز، لبيعها على المقيمين والمترددين على دهب.
المساحة الآمنة للحرية الشخصية
“زحام.. ضوضاء.. عودام سيارات.. تدخل في الحياة الشخصية”.. عوامل دفعت خلود خالد، إلى ترك القاهرة والذهاب إلى دهب، تروي أنها قررت تنفيذ التجربة عندما أصبح الاستقلال عن الأهل أمرًا مستحيلاً للفتيات في القاهرة، فبحسب قولها هناك تدخل دائم في الحياة الشخصية، تقييم مستمر للتصرفات، تحب التدخين ويوصمها المجتمع بالعار، ولكن على الجانب الآخر المدينة تستقبلها بترحاب دون تدخل في الحياة الشخصية.
بعد دراسة الصيدلة طلبت “خلود” بداية تكليفها والعمل في سيناء، وبالفعل نقلت هناك وبدأت حياتها من دهب، تقول إن الوحدة ظلت تطاردها منذ أكثر من عامين عند بداية التجربة، ولكنها استطاعت التغلب على تلك المشاعر بالسلوكيات الإيجابية التي وجدتها بالمدينة، فهنا ممنوع إلقاء القمامة أو الورق على الأرض، أو تعذيب الحيوانات، فالحفاظ على البيئة وحب الحيوانات شعار المدينة، وهنا أيضًا لن تضطر للوقوف بالساعات في إشارات المرور، ولن تستنشق هواء محمل بعوادم السيارات كما كان يحدث لها في القاهرة، فكانت تلك جميعها عوامل عوضت إحساسها بالغربة.
دهب أصبحت مكان آمن لـ”خلود”، بعيدًا عن حالات التحرش التي تحدث كثيرًا في القاهرة، وبعيدًا أيضًا عن التدخل في حريتها الشخصية، سواء كان هذا التدخل من الأسرة أو المحيطين، فوجدت الفتاة العشرينية في المدينة الساحرة مساحة مفتوحة، لحريتها دون وصاية، أو قيود- حسب قولها.
انتظار المولود الأول من رحم دهب
تحت عنوان: “الخروج من القاهرة”، قدم المخرج هشام العيساوي فيلمًا في عام 2011 بطولة النجم المصري محمد رمضان، تناول قضايا عدة منها: حلم الشباب في الهجرة خارج مصر لبلاد أجنبية، ولكن يبدو أن أحلام الشباب تغيرت وأصبح حلم الهجرة الآن لدهب، كنوع من أنواع الهجرة الداخلية، وترك المدن الصاخبة.
درس ماجد صلاح، 33 عامًا السياحة والفنادق، وبدأ في رحلة البحث عن العمل المناسب، ولكن على مدار سنوات لم يجد فرصة مناسبة لمجاله في القاهرة، فعمل في خدمة العملاء بشركات عدة، وهنا شعر أن حلمه أصبح سرابًا، تأكله المدينة يوميًا، بين 4 ساعات ذهابًا وإيابًا، للعمل بسبب الزحام، و8 ساعات داخل الشركة في مجال بعيد عن حلمه، ليجد نفسه في نهاية اليوم يذهب للنوم ليستعد ليوم جديد دون طعم للحياة، بحسب وصفه.
في عام 2012 قرر “صلاح” ترك العاصمة، وتوجه إلى دهب ليبدأ حلمه في مجال عمله فالمدينة ساحلية تعمل على السياحة في المقام الأول، استقر بها وقال إن أسعار الإيجارات في بداية الأمر كانت قليلة تصل لـ800 جنيه شهريًا، ولكن مع زيادة عدد المهاجرين لدهب زادت ووصلت لـ3000 جنيه شهريًا، ولكن مع ارتفاع الأسعار يرتقع حلمه في الاستقلال عن العاصمة.
يحكي: “هنا تعلمت الحفاظ على البيئة.. هنا أيضًا تعلمت أنه لا يمكن إزعاج المارة بصوت السيارات العالي أو التعدي على خصوصياتهم.. ولا يمكن هنا تعذيب أي حيوان مهما كان.. المدينة هادئة الجميع ينام مبكرا ويستيقظ مبكرا أيضا.. فكيف لي أن أعود مجددا للقاهرة القاهرة”.
حقق “ماجد” الجزء الثاني من حلمه وتزوج، عاشت زوجته المصرية معه في دهب لبدء خطوة جديدة بالحلم، ينتظرون مولودهم الأول، ليخرج من رحم الهدوء في دهب، يعيش في مدينة ساحرة بعيدًا عن الزحام، مختتمًا حديثه: “تمنيت لنجلي القادم بيئة خالية من التعصب أو التدخل في حياته الشخصية، وأظن إنني نجحت في تحقيق ذلك”.