في مصر تزدهر الصوفية، ربما لأنها تزداد كلما عاش الناس تحت وطأة الفقر، فيرفعون شكواهم وتوسلوا إلي الله بأوليائه ليمن عليهم بالنفحات والكرم، ويقطع الفقراء رحلة طويلة من قراهم النائية تبدو أشبه برحلة حج إلى وليهم، ويشعرون وكأن تلك الرحلة تتطيب جروحهم وتشفي قلوبهم العليلة، وتمنحهم البركة وتلهمهم القدرة على الصبر واحتمال الآلام، يرفعون الذكر، ويدورون في حركات كما لو كانوا يطيرون، يسمونهم الدراويش، والمجاذيب، لكنهم مجرد نفوس ضائعة تبحث عن طريق إلى الله.

الأزمة التي نعيشها في السنوات العشر الأخيرة، وتحديدا بعد ثورة 25 يناير 2011، وانتشار أصحاب الفكر المتشدد، وازدياد العمليات الإرهابية، سلطت الضوء على ضرورة إيجاد بدائل لأصحاب الفكر المتشدد، يمكنهم من جذب الشباب إلى “الدين”، بعيدا عن التشدد، والإرهاب.

بداية التصوف

بحسب كتاب “التصوف: الثورة الروحية في الإسلام” للدكتور أبو العلا عفيفي، فإن التلقيب بالصوفي ظهر في النصف الثاني من القرن الهجري الثاني، وسمي به جابر بن حيان الكوفي، صاحب الكيمياء، الذي كان يدعو إلى مذهب خاص في الزهد، أما كلمة الصوفية فظهرت عام 199 هجريا، وكانت تدل في ذلك الوقت على أصحاب مذهب يكاد يكون شيعيا من مذاهب التصوف ظهر في الكوفة، وكان عبدك الصوفي آخر أئمته وتوفي في بغداد عام 210 هجرية.

وذكر “أبو العلا” أن أول مدرسة عرفت التصوف الإسلامي ظهرت في مدينتي الكوفة والبصرة، وكانت الكوفة آرامية الثقافة متأثرة بالثقافة المانوية التي ظهرت في تصوف الكوفيين في مسألة الحب الإلهي، بينما كانت البصرة هندية الثقافة وهو ما ظهر في تصوفها الذي كان يميل أكثر نحو العملية.

معنى صوفي

ويقال إن كلمة صوفي مشتقة من صوف أو صفاء أو صف، أو الصفة” صفة مسجد رسول الله بالمدينة، ورجب اسمه صوفة وإلى صوفة القفا، وإلى الصوفانة وهي نبتة في الصحراء، وإلى الكلمة اليونانية صوفيا، وقال بشر بن الحارث إن الصوفي من صفا قلبه، وقال البعض إن الصوفي من صفت لله معاملته، فصفت له من الله عز وجل كرامته.

وقال قوم سموا صوفية لأنهم في الصف الأول بين يدي الله لارتفاع همهم إليه، وإقبالهم بقلوبهم عليه، ووقوفهم بسرائرهم بين يديه، ويميل الصوفي إلى الزهد والعُزلة، إنه يرى أن ذلك يقربه أكثر من الله، ويفتح بصيرته، يحاول التعالي على شهوات الدنيا، والترقي من أجل الوصول إلى الله، يغمر نفسه في الطاعات والعبادات، ويكثر من مدح النبي.

ومن عوامل نشأة الزهد في الإسلام هو اتجاه من المسلمين إلى ما يشبه ثورة روحية على نظام اجتماعي وسياسي غلبت عليه الفتوحات والغنائم وأصبحت الدنيا فيه الهم الأكبر، وخشى البعض على إيمانهم وتعلق قلوبهم بالدنيا ومباهجها وشهواتها فلاذوا بالفرار من الحياة ولذاتها وبدوءا في تريض للنفس على الطاعات والجهاد والابتعاد عن تيار الحياة الجارف.

التصوف في مصر

كانت بداية التصوف في مصر مع ذو النون المصري، وأبو بكر الدقاق المصري، وأبو الحسن بن بنان الحمال في القرن الثالث الهجري، لكن ظهور التصوف في جماعات لم ينتشر إلا بحلول عام 569 هـ، بحسب المقريزي، وبدأ ظهور الخانقاوات، وتعني المكان الذي يتفرغ فيه المتصوف للعبادة وينصرف إلى الطاعات، وهي مأخوذة من الكلمة الفارسية خانكاه، واقيمت لأول مرة في عهد الإسلام بالقرن الرابع الهجري.

وانتشرت الصوفية في مصر في عهد الفاطميين، الذين عرفوا بحبهم لآل البيت، وبدوءا في إدخال طقوس احتفالية إلى المناسبات الدينية المختلفة، وبناء الأضرحة للأولياء الصالحين من أصحاب الكرامات، قبل أن يقنن محمد علي باشا والي مصر أوضاع الطرق الصوفية المختلفة بفرمان أصدره عام 1812 ميلاديا، وضع فيه الطرق الصوفية تحت لواء سلطان شيخ السجادة البكرية.

ولا تخلو منطقة في مصر من أتباع للطرق الصوفية الكثيرة الموجودة فيها، والتي يبلغ الرسمي المعترف به منها نحو 77 طريقة صوفية، هذه الفروع الكثيرة انبثقت في الأساس عن ست طرق كبرى هي الرفاعية والبدوية والجيلانية والشاذلية والخلوتية والدسوقية، والمتمعن في هذه الطرق يجد أنها كما لو كانت سقيت من ذات النبع لتشابهها في الطقوس والأوراد، وطريقة تولي الخلافة فيها.

وفي الوقت الحالي ينظم أمور تلك الطرق الآن ثلاث مؤسسات هي المجلس الأعلى للطرق الصوفية، الاتحاد العام لتجمع آل البيت، نقابة الأشراف.

الصوفية والسياسة

يميل الصوفيون بشكل كبير للابتعاد عن غمار الحياة السياسية والاجتماعية، لكن خلال المائة عام الأخيرة بدأت الأمور تتغير بعض الشيء فإبان ثورة 1919 قام محمد إبراهيم الجمل شيخ السادة السمانية بجمع توقيعات تؤيد بقاء الاحتلال الإنجليزي في مصر، مقابل عشرة قروش لكل من وقع على العريضة.

وبعد نشأة الجمهورية عقب ثورة يوليو 1952، اعتبرت الصوفية ظهير للدولة ضد التنظيمات الإسلامية، فدعمت جمال عبد الناصر خلال صراعه مع التيار الإسلامي، وأصدر قرارا بتعيين محمد محمود علوان شيخا للطرق الصوفية، وكانت أول مرة يتم الاختيار بالتعيين، وفي تلك الفترة أصبحت الصوفية ملجأ كل من يحاول أن يزيح عن نفسه تهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين.

ودعا عبد الناصر أحمد الجنيدي، شيخ الطريقة الجنيدية، لإنشاء فرع للطريقة في سوريا تدعو للوحدة بين مصر وسوريا من قلب الداخل السوري، في المقابل عضوية البرلمان لبعض مشايخ الطرق الصوفية، وسار أكبر موكب صوفي رسمي في مصر تأييدًا لعبد الناصر في أعقاب هزيمة 5 من يونيو 1967.

الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، حاول تقنين أوضاع الطرق الصوفية بصورة أكبر وأخضعها لقانون 118 لسنة 1976، وأصبح هناك تحالفا بينها وبين النظام، واستمر الأمر كما هو عليه في عصر الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، ولكن الأخير حوال استغلالهم كظهير ديني للنظام، إلى أن حدث صدام بين مبارك الصوفيين بعد تعيين الشيخ عبد الهادي القصبي رئيسا للمجلس الأعلى للطرق الصوفية، ما اعتبره مشايخ الطرق الصوفية انتهاكا لتقاليد الصوفية، ولجأوا للتهديد بترشيح الشيخ علاء أبو العزايم ضد أحمد فتحي سرور رئيس مجلس الشعب في انتخابات 2010 عن دائرة السيدة زينب.

وبعد نجاح ثورة يناير بدأ الصوفيون بالعمل السياسي بصورة معلنة، وأعربوا عن عدائهم الصريح للإخوان المسلمين والسلفيين، وعارضت الطرق الصوفية في مصر حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، وشاركت في تظاهرات الثلاثين من يونيو، كما أيدت بيان المؤسسة العسكرية لعزله في الثالث من يوليو 2013، وأثبتت الطرق الصوفية ولاءها للسطلة مجددا، مع وصول الفريق عبد الفتاح السيسي لسدة الحكم.

وعقب نجاح ثورة 30 يونيو 2013، قامت الطرق الصوفية بتأييد السيسي فور ترشحه للرئاسة معتبرينه صوفيا منهم وبعد وصوله غلى الحكم بدوءا في دعمه، بصورة كبيرة.

“الصوفية والمتشددون”

وعلى مدار الـ100 عام الماضية، خصوصا مع انتشار اتباع الجماعات المتشددة في مصر وتحديدا “الإخوان والسلفيين”، واجه الطرق الصوفية المختلفة هجوما كبيرا من قبلهم، بدعاوى مختلفة، أبرزها اتهامهم بـ”فساد العقيدة، والغلو في الدين، واتباع الخرافات”، فضلا عن اعتبارهم “شيعة” أهل السنة، وهو ما آخذ يفنده الصوفية ويردون عليه بشتى الطرق، مستشهدين بالقرآن والسنة.

الصراع بين الصوفية والسلفيين تحديدا، لم يقتصر على التصريحات المتبادلة، ولكنه زاد إلى أبعد من ذلك بكثير، حيث هاجم المتشددون مرارا وتكرارا احتفالات الصوفية، وخصوصا خلال احتفالاتهم بمولد نبي الإسلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وحفيده الإمام الحسين بن علي، في محاولة لإلغاء احتفالاتهم، فضلا عن العديد من الموالد لأولياء الله الصالحين، وإنهاء احتفالاتهم في بعض الأحيان أو منع إقامتها خوفا من حدوث اشتباكات.

وكانت أبرز المجازر التي وقعت ضد الصوفيين، في نوفمبر 2017، إذ تم تفجير مسجد الروضة الذي يرتاده الصوفيون في سيناء بمنطقة الروضة غرب العريش، وأسفر الحادث عن استشهاد 235 شهيدًا وإصابة 109 شخص، بعد أن فتح الإرهابيون عليهم النار بصورة عشوائية، فضلا عن إقدام اتباع تنظيم داعش الإرهابي في سيناء عام 2016 على إعدام شيخ صوفي كفيف يبلغ من العمر 100 سنة، هو الشيخ سليمان أبو حراز عبر قطع رأسه بالسيف، بعد وصفه بالكافر.

الصوفية ومواجهة الإرهاب

أصبحت الطرق الصوفية ظهيرا للدولة في مواجهة الجماعات المتشددة التي انتشرت في البلاد لكونهم ممثلون للإسلام المعتدل البعيد عن التطرف والغلو في الدين، وبعدهم عن الدماء والعنف، ليتصاعد نجمهم حيث نظمت الطرق الصوفية ممثلة في الاتحاد العالمي للطرق الصوفية بالتعاون مع وزارة الأوقاف، في يونيو 2015، ملتقى “التصوف ضد التطرف” استجابة لدعوة الرئيس السيسي لتجديد الخطاب الديني.

العداء الدائم من التيار الصوفي، تجاه أصحاب الأفكار المتشددة والداعمة للإرهاب بشتى صوره، دفع العديدين إلى اعتباره الملجأ الذي يحتاج إلى دعم أكبر لمواجهة تلك الأفكار، ونشر الإيمان الذي يركز على روح الإنسان بدلا من مظهره وهيئته وشعر ذقنه الهائج، وجمود كلماته، بشرط أن يبقوا محافظين على رونقهم الإيمانية المتمسك بالتدين البعيد عن التملك، أو السعي إلى سلطة دنيوية ينكرها فكره.

القيادي السابق في الجماعة الإسلامية الدكتور ناجح إبراهيم، طالب في تصريحات صحفية، بإحداث نهضة صوفية علمية تستعيد بها الصوفية رونقها بما يمكنها من أن تكون بديلا للفكر المتطرف الذي يتجه الشباب لاعتناقه، موضحًا أن الصوفية مؤهلة لأن تقود حركة النهضة في العالم الإسلامي، لأنها تدعو للحب والتسامح والحياة، عكس الجماعات الظلامية التي تدعو للكراهية والعنف والموت.