“الكل هنا واحد، أكلنا واحد، قعدتنا واحدة حتى الحمام أو الحتة اللي بيتقال عليها حمام برضه واحدة، في الأوضة الضيقة الصغيرة دي مفيش حد مختلف، كلنا زي ما بيقولوا في الهم سوا”.. كلمات مقتضبة من حديث منال محمد، ربة منزل تبلغ من العمر 48 عامًا، بعد أن قضت 6 أشهر داخل السجن، بسبب إيصال أمانة قيمته 10 آلاف جنيه.

“يا الدفع يا الحبس”، هي الجملة التي قابلتها “منال” عقب طلاقها من زوحها، معقبة: “طلقني بعد 12 سنة جواز، وخد البنتين مني وسافر واتجوز واحدة تانية، وانا لقيت نفسي في الشارع، لازم أدور على شقة تلمني، وبدأت اشتري حاجات من محل قريب من الشقة اللي أجرتها، واكتب وصولات أمانة وصلت لـ10 آلاف جنيه، وانا لا بشتغل ولا ليا دخل، والتاجر في الآخر عاوز فلوسه ولما ملقاش معايا حبسني”.

6 أشهر حبس في “متر ونص”

6 أشهر عاشتهم السيدة، في الحبس بأحد أقسام الشرطة: “لما دخلت القسم كنت مرعوبة وركبي بتخبط في بعضها، ازاي ممكن أعيش في الأوضة دي، لما العسكري فتح باب الحجز، كانت ضلمة ومش طالع منها غير صوت ستات بتتكلم وتضحك، قولت في نفسي هما ازاي بيضحكوا كده؟، ازاي في المتر ونص اللي قاعدين فيهم واللي لامؤاخذه ريحة المكان كله حمام قادرين يضحكوا؟”.

تتذكر السيدة اليوم الأول لها في الحجز: “دخلت واتكورت على نفسي وقعدت في الأرض، وجه في بالي مشاهد الأفلام، إن حد كمان شوية هتيجي واحدة ترحب بيا ويعمل عليا حفلة، لقيت واحدة شابة صغيرة جاية تجيب لي أكل وميه وبتقولي كلي أكيد مكلتيش، كلي وفكك وكله بيعدي، لسه اللي جاي طويل”.

مشاعر الخوف والقلق، وأسئلة عدة، منها كيف ستعيش في هذا المكان لعدة أشهر لا تعلم نهايتها؟، وكيف يمكن أن تحرم من العالم الخارجي وضوء الشمس؟: “اتحبست في الأوضة الضلمة الضيقة اللي كان فيها 8 ستات 6 شهور، مبشوفش الشمس، كنت متأكدة في الأول إني هموت، بس اللي حصل إني مموتش وبعد شهر لقيت نفسي بضحك مع الستات الموجودة، اللي في منهم جاية في قتل واللي جاية في دعارة ومستنين المحاكمة، بس في المكان ده مبتسألش اللي داخلة عليك انت تهمتك إيه، علشان كده كده هنقعد سوا، وهنعيش سوا”.

التعود على الحياة القاسية

تصف “منال” الحياة في الحبس بالقاسية، ولكنها وفقًا لحديثها يمكن التعود عليها: “حياة قاسية وريحتها وحشة بس بتتعود عليها، بتتعود تنام على جنبك علشان المكان ضيق، وبتتعود تدخل الحمام البلدي أو بمعنى أصح حُفرة في الأرض ومفيش سيفون وبتتعود تاكل اللي بيجي من الزيارات سواء بتحبه ولا لأ، وبتتعود تقبل اللي قدامك”.

قبول الآخر، هو التغيير الحقيقي الذي حدث بشخصية “منال”، من تلك التجربة: “عمري مكنت اتخيل نفسي مسجونة، وكنت ببص للي في السجون إنهم مجرمين ويستحقوا ده بس لما جربت ده بنفسي اتعلمت اقبل اللي قدامي بعلته علشان الله أعلم اللي وصله ليها إيه زي محصل معايا”.

في رمضان 2014، قدمت الفنانة نيللي كريم مسلسل تليفزيوني بعنوان “سجن النسا”، حظى بنسبة كبيرة من المشاهدة، دار حول سجانة تحولت لسجينة، عرض مشاهد من الحياة داخل السجن، والتي كانت تُشبه الحياة العادية، فالسيدات يستيقظن في الصباح ويتجملن بمساحيق التجميل كما يحدث في الحياة العادية، ويتحدثن عن الحياة وعن الحب والمشاكل في الخارج، جمع المسلسل بين شخصيات عدة لسيدات يقضين أحكام مختلفة، وعكس التحولات التي حدثت في شخصية البطلة التي تحولت من سجانة لسجينة بتهمة قتل لم تفعلها، ولكنها خرجت من السجن وقررت الانتقام ممن ظلمها، وقتلتهم وذهبت للسجن مجددًا بتهمة قتل حقيقية.

التأقلم مع الحياة الجديدة حتى وإن كانت قاسية، وتغير النظرة للآخر وتقبله، تغيرات حدثت في شخصية “منال”، بعد قضاء حبس 6 أشهر، وهي تغيرات حاول المسلسل إبرازها أيضًا، كما حاول مسلسل “جيل برايد”، الذي يُعرض على شبكة “نت فيلكس”، ويعرض حياة السجينات لتحقيق حياة أفضل عبر محاربة بعضهنّ، ومقاومة السلطة، والتصالح مع الذات فالحياة لا تتوقّف وراء القضبان.

أثر العقوبة على الشخصية

أجرى باحثون من معهد علم الجريمة بجامعة كامبريدج، حوارات مع مئات من السجناء، أوضحت أن عقوبة السجن الطويلة تغير شخصية السجناء إلى أبعد حد، وكان علماء نفس الشخصية يعتقدون أن الشخصيات لا تتغير إلى حد كبير في فترة البلوغ، ولكن توصل بحثًا أجري مؤخرًا إلى أن عادات التفكير والسلوكيات والعواطف، بالرغم من بعض الثبات النسبي، تتغير بشكل كبير استجابة لمؤثرات خارجية، وذلك تماشيًا مع الأدوار المختلفة على مدار الحياة.

 

مصادرة الحق في اتخاذ القرارات، وانعدام الخصوصية، أبرز ما يحدث وراء القضبان، وهو  أبرز التغيرات التي حدثت في شخصية غادة حليم، البالغة من العمر 31عامًا، والتي قضت ما يقرب من عامين بالحبس الاحتياطي، بتهمة نشر أخبار كاذبة، تقول: “بقيت حاسة اني مش عارفة أخد قرار، علشان فضلت سنتين كاملين مسلوبة من حقي في أخد القرار، كمان بقيت بنسى أقفل باب الحمام، لأنه في السجن الحمام ملوش باب، أنا خرجت من أكتر من سنة بس لسه زي منا مش قادرة أخرج من السجن”.

محاولات الانتحار والتظاهر بالقوة

الرهبة والخوف من السجن طاردا “غادة” في بداية حبسها: “خفت على بنتي اللي بره وخفت كمان على نفسي ولما عرفت ان بنتي خلاص هتعيش مع أمي في أمان فكرت في الانتحار، وأضربت عن الطعام، بس في الآخر استجبت للحياة، اللي اتأقلمت عليها بعد كده، هو تأقلم غصب عنك بس لازم تتأقلم علشان فكرت ان مهما طالت المدة هيكون ليها نهاية وهخرج في يوم لبنتي، بس لما خرجت حاولت اتظاهر بالقوة واني قادرة علشان أواجه كل العيون اللي بتوصمني وبتقولي من تحت لتحت يا رد سجون”.

محاولة التظاهر بالقوة تفعلها “غادة” يوميًا لإسكات الألسنة بحسب قولها، لكنها أصبحت تعتاد على الوحدة، لا ترغب في الانخراط  في المجتمع، يرى المحيطون والمقربون منها أن الأمر أصبح خوفًا مرضيًا، ولكنها لا تعترف بهذا الأمر، وتراه بُعد عن المخاطر، فالتعامل مع المحيطيين من الممكن أن يسبب لها العديد من الأزمات: “كمان أنا بقيت ناسية شكل الحياة العادية، مصطلحات السجن زي التريض والترحيلة والطبلية لسه معايا وبنتي بتستغرب لما بقولهم، بس أنا فعلًا السجن لسه عايش جوايا زي معيشني هو جواه”.

متلازمة ما بعد الحبس

يتفق عدد من علماء النفس وعلماء الجريمة، على أن السجناء يتكيفون بالتدريج مع البيئة خلف قضبان السجن، فيما يسمى بعملية التأقلم مع الحياة داخل السجن اجتماعيًا وثقافيًا، ويساعد هذا في ظهور ما يسمى بـ”متلازمة ما بعد الحبس”، وهي مجموعة من الأعراض التي تظهر على المفرج عنهم، وفقًا لنتائج مقابلات أجريت مع 25 سجينُا صدر بحقهم حكم بالسجن مدى الحياة في ولاية بوستن، بينهم سيدتان، وكانوا قد أمضوا ما يقرب من 19 عامًا في السجن.

مارتن كونست، عالم الجريمة، يقول في نتائج المقابلات، إن هؤلاء السُجناء اكتسبوا سمات شخصية جديدة تتماشى مع متطلبات البيئة القمعية في المؤسسات الإصلاحية، منها على سبيل المثال تخوين الآخرين، وصعوبة إقامة علاقات، والتردد في اتخاذ القرارات أيضًا، كما أثبتت اختبارات نفسية وعصبية، أن فترة العقوبة القصيرة أيضًا تترك بصمة على شخصية السجين.

تكيفت “منال”، مع حياتها الجديدة وأصبحت تعمل في أحد الشقق كمساعدة منزل، بينما تعيش “غادة” بداخل السجن بعد خروجها منه، وكلاهن اكتسبن خبرات جديدة من خلف القضبان، خبرات تؤكد أن الحياة مستمرة لن تنتهي، وأن هناك تغيرات جذرية حدثت وما زالت تحدث في شخصياتهن.

*الأسماء الواردة في التقرير مستعارة بناءً على طلب المصادر والحفاظ على خصوصياتهن.