قُدم أول عرض سينمائي في العالم، وكان لفليم تسجيلي قصير، في “جراند كافيه” بالعاصمة الفرنسية باريس في ديسمبر عام 1895، وبعدها بعشرة أشهر كان أول عرض سينمائي في مصر والشرق الأوسط، بقهوة “زواني” بمدينة الإسكندرية في نوفمبر 1896، قبل تأسيس أول دار للعرض السينمائي في عام 1897، تحت اسم سينما “بورصة طوسون” بمدينة الإسكندرية.
وبعد أربعة أشهر تأسست أول دارٍ للعرض السينمائي في القاهرة تحت اسم “سينما فرنسيس” في ميدان حليم باشا، وتتابع ظهور دُور العرض السينمائي في مصر، فتأسست سينما أوليمبيا، عام 1911، وريالتو والكورسال وجومير بالإسكندرية، وسينما ميامي سنة 1923، بشارع طلعت حرب، وديانا بلاس، في سنة 1930، وسينما رمسيس، عام 1931، وريال، عام 1932 و”تريومف” بمصر الجديدة عام 1938، كما تأسست سينما فريال وفاروق بمحافظة قنا في بداية الثلاثينيات، وخلال فترة الأربعينيات تأسس العديد من السينمات، مثل، ريفولي وراديو وكريم ومترو وليدو وكايرو بلاس.
مواكبة السينما العالمية
مواكبة السينما المصرية للسينما العالمية سواء من حيث التقنيات الفنية، أو النوع من تسجيلي إلى روائي قصير إلى روائي طويل، ومن صامت إلى ناطق، وتواكب نشأة استوديوهات التصوير، استلزم معه توسع وانتشار لدور العرض السينمائي في كافة أنحاء مصر، ليصل عدد دور العرض إلى 244 دارًا في منتصف الأربعينيات، وهي الفترة التي وصل الإنتاج فيها إلى نحو 50 فيلمًا في العام الواحد، بينما كان تعداد سكان مصر لم يتجاوز 18 مليون نسمة.
كما تزامن ظهور دُور السينما المصرية مع العالمية، فقد ظهر أيضًا الإنتاج السينمائي المصري في وقت مُبكر، ففي 1917 تكونت شركة لإنتاج الأفلام السينمائية قدمت فيلمين روائيين قصيرين وهما “الزهور الميتة” و”شرف البدوي” سبقها بعشر سنوات إنتاج فيلمًا إخباريًا عن “زيارة الباب العالي للمعهد العلمي بمسجد أبي العباس”، وفي عام 1918 مثلت فرقة فوزي الجزاريلي، فيلمًا روائيًا قصيرًا بعنوان “مدام لوريتا” من إخراج “لارتشي”.
وكانت سنة 1927 بداية إنتاج الأفلام الروائية الطويلة، حيث عرض فيلم “ليلى” من إنتاج عزيزة أمير، وإخراج إستيفان روستي، وسبقه فيلم قبلة في الصحراء، من إنتاج إبراهيم وبدر لاما، كما قدم المخرج محمد كريم فيلمه “زينب” عن رواية الكاتب الكبير محمد حسين هيكل، وفي الثلاثينيات كانت بداية السينما الناطقة في مصر بعد سنوات قليلة من ظهورها في أوروبا، فأنتجت مصر فيلمي “أولاد الذوات” “وأنشودة الفؤاد”.
تنوع الإنتاج السينمائي في مصر، فقدمت السينما كافة الأشكال بنسب متفاوتة، من أفلام: “واقعية، وغنائية، واستعراضية، وتاريخية، وأفلام الـ”فانتازيا”، وأفلام المرأة”، وقد حققت كافة الأشكال نجاحات جماهيرية اختلفت من فيلم لآخر، ومن فترة زمنية لأخرى.
“يوليو” والسينما
ازداد عدد دور السينما بعد 23 يوليو، حيث انضم إلى قاعدة مشاهدي السينما شرائح اجتماعية جديدة من الريف والمناطق الشعبية، وجدت في الأفلام المقدمة بعد يوليو وشخصياتها المحورية تعبيرًا عنهم، إضافة لتوجه الدولة لتشجيع إنتاج أفلام من هذا النوع، فانتشرت السينمات في المراكز الريفية والمناطق الشعبية “سينما الترسو”، وشهدت القرى السينما الجوالة، وظهر إلى جانب الإنتاج الخاص، إنتاج الدولة والذي لم يكن يحسب حساب لمعايير المكسب والخسارة.
ومع النكسة تراجع إنتاج الدولة من الأفلام، نتيجة للظروف السياسية والاقتصادية، وسيطرة المجهود الحربي على ميزانية كبيرة من الخزانة العامة، كما تراجع الإنتاج الخاص متأثرًا بمستوى الدخول وأولويات الإنفاق للمواطنين، وفي السبعينيات واصل الإنتاج تقلصه ففي 1974، لم يُنتَج سوى 42 فيلمًا، ونما الإنتاج نسبيًا في عام 1975 حيث وصل إلى 52 فيلمًا ثم تراجع مجددًا بعد معاهدة كامب ديفيد والمقاطعة العربية لمصر.
انتعاشة الثمانينات القاتلة
ومع بداية الثمانينيات، حدثت انتعاشة في الإنتاج السينمائي، مدفوعة بظهور شرائح اجتماعية جديدة ذات دخول مرتفعة بشكل كبير عن أبناء الطبقة الوسطى، التي اعتمدت عليها دُور السينما إضافة لأبناء الطبقات الشعبية والذين انضموا لجمهور السينما بعد يوليو، هذه الشرائح الجديدة كانت تتمثل في أصحاب الحرف، إضافة لظهور الفيديو، وإقبال رأس المال العربي على الاستثمار في مجال السينما في مصر، حيث وصل الإنتاج عام 1989 إلى 91 فيلمًا.
أثرت زيادة الإنتاج في الثمانينيات بشكل سلبي على عدد دور العرض، فلم ترتفع كما كان يحدث في الماضي، حيث كان الإنتاج موجهًا إلى جمهور مختلف، هو جمهور الفيديو سواء داخل مصر أو خارجها خاصة في دول الخليج الغارقة في أموال النفط، حيث تراجع عدد السينمات في أواخر الثمانينيات إلى 70 دار عرض، وفي بداية التسعينيات إلى 62 دار عرض بتراجع نسبته 80% عن فترة الخمسينيات، و70% عن الستينيات، ووصلت السينما إلى أكبر تدهور في تاريخها خلال فترة التسعينيات.
طفرة الألفية الثالثة
أحدثت موجة سينما الشباب في بداية الألفية الثالثة انتعاشًا ملحوظًا، وزادت رؤوس الأموال المستثمرة في قطاع السينما وحققت الأفلام الجديدة إيرادات كبيرة، وظهر جمهور جديد للسينما ينحصر في فئة الشباب، وزاد عدد صالات العرض بشكل كبير، نتيجة لدخول شركات إنتاج في الاستثمار في دور العرض، منها العدل جروب وشركة الأخوة المتحدين.
شهدت السنوات الخمس الأخيرة تذبذبًا في الإنتاج ففي 2015 أُنتج 34 فيلمًا و2016 أنتج 47 فيلمًا وفي 2017 أنتج 48 فيلمًا وفي 2018 أنتج 37 فيلمًا وفي العام الماضي 2019 أنتج 34 فيلمًا، ورغم زيادة إيرادات الأفلام المصرية من دُور العرض، خلال العام الماضي 2019، إلا أن هذه الزيادة لم يواكبها توسع في دُور العرض بل على العكس تقلص العدد من 350 دار عرض خلال السنوات الماضية إلى ما دون الـ100.
سينما المولات والتوجه الجديد
خلال الأعوام الماضية زادت أسعار تذاكر السينمات بشكل كبير، وفي 2019 وحدها، زادت الأسعار أكثر من مرة، ليصل متوسط سعر التذكرة إلى 60 جنيهًا، ما يوضح نوعية الجمهور الذي يتوجه إليه أغلب الإنتاج، فهو في الغالب جمهورًا ينتمي إلى الطبقة الوسطى وربما للشرائح العليا منها، كما ينتمي الجمهور المستهدف إلى فئة الشباب، فعائلة مكونة من أربعة أفراد تحتاج إلى 500 جنيه، في كل مرة ترغب الذهاب إلى السينما، هذا بالطبع يَحرم الغالبية العظمى من الأسر من الذهاب لحضور عرض سينمائي، حتى الأسر التي تنتمي للطبقة الوسطى، فما بالك بالطبقات الشعبية، في ظل هذا التوجه الذي ساعد في استمراره تدني دخول الأسر، انهارت السينمات الشعبية “الترسو” وصب جمهور السينما المتبقي إلى “سينما المولات” وسينمات وسط البلد، في القاهرة والإسكندرية، وخلى ثلث محافظات مصر الأكثر فقرًا، من أي دُور للعرض السينمائي.
هدم وتغيير نشاط
بحسب آخر تقرير للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، فقد خلت محافظات البحيرة، وبني سويف، والفيوم، والمنيا، وأسيوط، وسوهاج، وقنا، ومطروح، وشمال سيناء، من السينمات، فيما لم يتجاوز عدد دُور العرض في 9 محافظات أخرى عن دار عرض واحدة.
دور العرض التي أُغلقت أو هُدمت، خلال السنوات العشرين الماضية، تحولت إلى أنشطة أخرى، مُخالفة للقانون، ففي الفيوم تحولت السينما الأكثر شعبية “عبد الحميد” إلى مخزن للملابس الجاهزة، وفي المنيل تحولت إحدى السينمات إلى مزرعة لتربية الطيور، وتحولت سينما “أورينتال” العريقة “الشروق” بحي المنشية بالإسكندرية إلى جراج.
التأثير على البناء الثقافي للمجتمع
أسباب متراكمة أدت إلى إغلاق النسبة الأكبر من دُور العرض السينمائي، فمع كل أزمة مرت بها السينما منذ السبعينيات، كانت تُطيح بالعشرات وربما بالمئات، دون أن تستطيع فترات الانتعاش أن تعيد ما التهمته الأزمة، سواء من سينمات أو من جمهورها الذي خسرته.
إن هذه “الخسارات” كانت ولا تزال صاحبة تأثير كبير على البناء الثقافي لأفراد المجتمع، وأحد أسباب التشوه الفكري والاجتماعي، كونها رافدًا هامًا من روافد الثقافة والبناء الفكري، كما غيب التوجه الإنتاجي الحالي وجمهوره المستهدف، قضايا الطبقات الشعبية من أغلب الأعمال، وأضعف سينما المقاومة والرفض، وفصل السينما عن قضايا المجتمع وطبقاته وعن واقعهم السياسي والاجتماعي.
مقاومة منتقصة
ليس المقصود هنا تسطيح الأمور، فليس توجه الإنتاج مسألة مزاجية صادرة عن هوى أصحاب شركات الإنتاج، إنما هي مسألة مرتبطة بالواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولكن ما نعنيه هو المساحة التي يمكن خلقها على هامش هذا الواقع، هذه المساحة صنعتها بالفعل شركات إنتاج صاحبة رؤوس أموال صغيرة، إضافة إلى شركة أو اثنتين من الشركات الكبيرة، فقدمت أعمالًا تماست مع مشكلات ثقافية واجتماعية وفكرية هامة، وإن كان القليل جدًا من هذه الأعمال هو ما توجه إلى الطبقات الشعبية وناقش قضاياها، وحتى هذا القليل يستلزم دور عرض ترتبط مناطقيًا بهذه الطبقات، حتى لا تصبح المقاومة منتقصة.
فحتى التجربة الوحيدة الفريدة المتمثلة في دار عرض “زاوية”، توجهت من حيث موقعها الجغرافي، إلى جمهور من الطبقة الوسطى و”الانتلجنسيا” المصرية، حتى وهي تعرض الأعمال السينمائية القليلة التي ترتبط بالطبقات الشعبية.