مابين الرجولة والجدعنة والتمسك بالعادات والتقاليد، وبين الغباء والتعصب والرجعية والتخلف، كان مجتمع الصعيد في عقول الكثيرون غير المنتمين له، ممن كونوا صورته إما عبر الأعمال الدرامية، أو من خلال المهاجرين من الصعيد للمحافظات الأخرى سواء بدافع العلم أو بحثًا عن الرزق.

رغم كل المحاولات للوصول إلى حقيقة هذا المجتمع الشيق، المليء بالأسرار والألغاز التي يدركها أبنائه وحدهم، إلا أن أيًا من تلك الصور لا تقترب من حقيقة “الصعايدة” التي تختلف كليًا عما رُسم عنهم.

يمتلك “الصعايدة”، وحدهم أسرار وخبايا مجتمعهم الذي مثل لغزًا كبيرًا لما له من تفاصيل لا تنتهي.

الصورة الخاطئة عن الصعيد

على مدار عقود طويلة، مثل مجتمع الصعيد تحديًا كبيرًا، للباحثين عن تفاصيله والمحاولين فهمه والتقرب منه، لكونه مجتمع له أدبياته وقانونه الخاص، الذي يفرضها أبناء هذا المجتمع أينما ذهبوا، ذلك القانون الذي خلق العديد من المحاولات لرسم صورة صحيحة عن الصعيد، مبنية في الأساس على فكرة القيم والتقاليد.

بدأ تكوين الصورة العامة للصعيد، من خلال الأعمال الفنية التي قدمت الصعيدي في صورة الشخص “الغبي” الذي لا يفقه شيئًا، ويمكن الضحك عليه بسهولة، وهو ما نراه جليًا في شخصية “العمدة عبد الرحيم كبير الرحمانية قبلي ونجله”، اللذان ظهرا في الأفلام “الأبيض واسود”، مُعبرين عن شخصية “الصعايدة” بالغباء والاستهانة وعدم القدرة على تقدير الأمو.

وكانت تلك الصورة، من أكثر الصور التي ارتبطت بالشخص الصعيدي في أذهان الكثيرون لعقود استمرت حتى الآن، وبات الشخص الغبي يرمز له بـ”الصعيدي” واستخدمت عبارات مثل “ماتبقاش صعيدي”، أو ” انت صعيدى” كناية عن عدم الفهم، بخلاف ارتباط اسم الصعايدة بالعديد من النكات، الأمر الذي استاء منه أبناء هذا المجتمع لأنه لا يعبر عنهم، حيث أن شخصية “كبير الرحمانية” لم تكن موجودة في الصعيد من الأساس ولا تعبر عن الصعايدة من قريب أو بعيد.

ومع زيادة أعداد الوافدين من محافظات الصعيد للقاهرة، بدأ التقرب من مجتمع الصعيد أكثر، وانتقلت صورة “الصعايدة” من الشخص الأضحوكة إلى الشخص المتشدد للتقاليد والعادات، القاسي في مشاعره، وهو ما ظهر في شخصية “معلي قانون” التي تم تقديمها بمسلسل “غوايش”، ورغم وجود هذ النموذج في الصعيد في تلك حتى حقبة الثمانينات، إلا ان استمرار ارتباطها بمجتمع الصعيد ليس في محله، لان القسوة والجمود في المشاعر وإخضاع الأخرين لأمر شخص واحد، نموذجًا لم يعد موجودًا في الصعيد، الذي بات كل شخص فيه يحدد مصيره، دون تدخل من الأخرين، وبات كل فرد في أي عائلة صاحب كلمة ولا يخضع لاحد تحت سيف القوة او سيف العادات، وإنما إن جاء الخضوع كان برغبته وليس غصبًا.

صورة هامة عن مجتمع الصعيد رسمها الكاتب محمد صفاء عامر، خلال مسلسل “ذئاب الجبل” الذي قدم الشخصية الصعيدية بصورة أكثر تقاربًا، ظلت موجود في أذهان الكثيرين عن تصورهم لمجتمع الصعايدة، ولكن الحقيقة أن تلك الصورة لم تعد موجودة، وغابت واندثرت بمرور السنين، ولم يعد البدرى الأخ الشديد القوى الذي قد يقتل أخته إذا ما خرجت عن طوعه موجودة، ولم تعد وردة مضطرة للهرب لكى تعيش مع الشخص الذي تختاره أو جعلها ملزمة بالزواج من العائلة، ولم يعد هناك اقتتال على تولى منصب كبير العائلة لأن فكرة “الكبير” أصبحت اختيارية وغير ملزمة لأحد، فإن وجد كبير فهو برغبة الجميع، ويكون دوره ناصح وليس حاكمًا.

الصعايدة
الصعايدة

القيم والتقاليد أكذوبة الصعيد 

لا يختلف أحد عن ارتباط الصعيد بالقيم والعادات لسنوات طويلة وحتى الآن، فهو أيقونة التقاليد ومنبر الأعراف، تلك الصورة التي حافظ “الصعايدة” أنفسهم على استمرارها في أذهان غيرهم حفاظاً على هيبتهم، مع العلم أنها لم تعد موجودة كما كان، بل إن ارتباطها بهذا المجتمع تحديدًا، كان السبب فيه غياب الاهتمام به، وتركه لعقود طويلة دون تنمية، ما جعله يصنع عالمًا خاص به وبأفراده، وهو نفس العالم الذي غاب الآن.

مثلا خروج البنت بشعرها أو كشف وجهها أو الذهاب للعمل أو ارتداء الملابس الضيقة أو الخروج وحيدة أو عدم استكمال تعليمها أو الزواج دون رغبتها أو الزواج لأكثر من مرة، كانت من الأمور المرفوضة بالصعيد حفاظًا على العادات والتقاليد، الأمر الذي تغير الان، فأصبحت الفتاة حرة في ارتداء ما تشاء، كما أنها تعمل في أي مهنة، مثل البائعة في المحلات والتي انتشرت مؤخرًأ لأي صعيدي، بل إن بعض الأسر تلزم الفتاة على العمل لمساعدتهم.

كما كانت الفتاة غير مسموح لها باستخدام الهاتف، والآن بات من حقها عمل فيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي، وظهرت العديد من فتيات الصعيد في السوشيال ميديا باحثات عن الشهرة كغيرهم من الفتيات.

خروج الشاب بمظهر مدني، مثل تطويل الشعر أو ارتداء “شورت” أو ارتداء سلسلة، أيضًا كان من الأمور التى تتنافى مع التقاليد والعادات الصعيدية، ولكنها باتت متاحة الأن، وتغيرت معانى المسئولية والرجولة التي طالما ارتبطت بالرجل الصعيدى، فلم يعد الشاب مقيدًا بأنه المسئول عن اسرته، أو المجبر على حمايتها أو الإنفاق عليها، أو السماح لزوجته بالعمل، أو ألخروج من المنزل.

أيضًا الانفراد بصفات الشهامة والجدعنة والتضحية من اجل الأخرين حتى وإن كان ثمنه الموت، لم يعد أمرًا يتسم به الصعايدة، شأنهم شأن أي مجتمع أخر، فالرجل فى الصعيد يتحرك بما يحقق مصالحه وليس مصالح الأخرين، ويفعل ما يرضى رغباته وليس ما تقتضيه العادات والتقاليد، ويمارس الشهامة ليس كونه صعيديًا ولكن كونه شخص عادي.

ذئاب الجبل
ذئاب الجبل

المرأة في الصعيد.. “القوة أسفل أنياب الضعف”

ارتسمت صورة المرأة الصعيدية على مدار عقود، باعتبارها الكائن المضطهد، الذي يستكين ويخضع لرغبات غيره، والذي لا يملك اتخاذ قرار، بل ولا يمكنه الخروج عن السياق المرسوم له منذ الولادة وحتى الموت، لا حقوق لها ولا ميراث ولا تعليم ولا عمل، فهى خلقت للزواج والإنجاب والاستماع للأوامر وطاعتها فقط

وحقيقة الأمر، أن هذا النموذج لا يمثل 1% من حقيقة المرأة الصعيدية، التي تعد المحرك للكثير من القرارات التي تتخذ في أسرتها، وتعد الحاكم الخفى واللاعب من خلف الستار في كل ما يخص عائلتها.

بداية من الزواج، فالمرأة في الصعيد ليست مُجبرة على الزواج من ابن عمها كما يشاع، وإن كان هذا الأمر قاصرًا على قبيلة “الهوارة”ـ أكثر القبائل الصعيدية تشددًاـ، ولكنه تغير الآن، وبات من حق الفتاة أن تختار شريك حياتها دون تدخل من أسرتها، بل ويمكنها معارضتهم في الرأي، وينتهي الأمر لتنفيذ ما تريد، حتى وإن كان القرار عدم الزواج.

كذلك لم يعد إنجاب الفتيات أزمة لدى المرأة الصعيدية، التي أدركت أن نوع الجنين يعود للرجل، كما ان ظاهرة تطليق المرأة بسبب عدم الإنجاب اختفت من الصعيد، وباتت حالات فريدة فقط، وليس سمة حياة تميز الصعايدة.

تمتلك المرأة في الصعيد الحق في التعليم، وبزيارة سريعة لجامعات الصعيد أو حتى عدد المغتربات بالجامعات الحضرية، نجد أن الفتيات يمثلن العدد الأكبر، ومعظمهم من محافظات الصعيد، وهو نفس الحق في العمل والسفر والخروج عن الإطار المرسوم لها في العائلة، وإن كان يخضع لحسابات التربية الأسرية، وليس حسابات كونها صعيدية.

تتحكم المرأة الصعيدية في مجريات الأسرة، فهي التي تحكم وتحدد مصير كل شخص فيها، وتدير الشئون المالية للأسرة، وإن لم يكن بصورة مباشرة، فهي في ذلك قريبة من النموذج الذي قدمته الفنانة هدى سلطان بمسلسل “الوتد”، وشخصية فاطمة تعلبة التي كانت تفرض كلمتها على الرجال، في أعتى القضايا حتى في الثأر هي التي تحدد تحركاته وكيفية تنفيذه.

منذ سنوات مضت كان هناك حادث أليم في الصعيد تحديدًأ بمحافظة قنا، شهد مقتل أربعيني على يد نجل أخيه، وكان السبب الظاهر هو “خناقة” بين الولد ونجل أخيه، ولكن السبب الحقيقى هو كراهية والدة الطفل الذي لم يكن قد أكمل عامه ال16 وقت ارتكابه للجريمة، لزوجة العم، فقررت ان يقتل نجلها عمه انتقامًا منها ليس أكثر

كذلك لم تعد المرأة محرومة من الميراث كما يشاع عن نساء الصعيد، فالمرأة تحصل على ميراثها كاملًا، وفى حال رفض منحها إياه تتوجه للمحكمة دون النظر لأى اعتبارات أو الخوف من العواقب، وإذا تركت الميراث يكون برغبتها، وفى بعض الأحيان تلزم الاسرة المرأة بالحصول على أموال بدلأ من الأرض في الميراث، وهو الأمر الذي يتاح لها رفضه أو قبوله.

وترفض المرأة الصعيدية، أن تعيش مع زوجها دون رغبتها، وقد ارتفعت نسبة الطلاق في السنين العشر الأخيرة بين نساء الصعيد، عكس ما يشاع أنها تعيش مجبرة، بل وارتفعت نسبة قضايا الخلع التي تقيمها النساء في الصعيد ضد أزواجهم، وبات لجوء المرأى الصعيدية للقضاء يقترب من نسبته بين نساء الحضر.

فاطمة تعلبة

قوانين الصعيد عفا عليها الزمن

لم يعد الصعيد كما كان في السباق، فقد تغير شكلًا ومضمونًا منذ عشرات السنين، وظهرت عليه ملامح التمدن، حتى في معماره الذي ابتعد عن البساطة وتسللت إليه مظاهر الثراء الكاذب، التي يقصد منها التباهي ليس أكثر

وفى مجتمع الصعيد، غابت العديد من القوانين التي كانت تتحكم فيه، مثل “الثأر” فلم يعد الثأر كما كان، واجبًا وإلزامًا، بل تقلص إلى حالات فردية نادرًا ما تحدث، وغاب لقب “ابن القتيل” الذي كان يمنح لنجل من يقتل، حتى يأخذ بثأر ابيه، الامر الذي تلاشى مع ارتفاع نسب التعليم والسفر للخارج.

ايضًا الزواج المبكر، لم يعد من الأمور التي تميز الصعيد، بل أن الفتاة لا يطرح لها أمر الزواج قبل استكمال دراستها، والتحاقها بالعمل في أحيان كثيرة.

كذلك الأمر بالنسبة لاستخدام السلاح، والذي كان يشتهر به أهل الصعيد، فقد بات الأمر أقل بكثير عما كان عليه، وباتت القوة الأمنية الرسمية هي التي تنظيم الحياة بمحافظات الصعيد.

إجبار الشخص على الزواج من زوجة أخيه، من الأمور التي يشتهر بها الصعيد، لكنها لم تعد موجودة، فمن حق زوجة الأخ أن تظل على ذكرى زوجها أو تتزوج أي شخص أخر، دون الالتزام بتزويجها من أخو الزوج، وايضًا بيت العائلة تغيرت ملامحه، فلم يعد الشاب ملزمًا بالزواج مع اسرته، بل كل شخص يقيم حياته الخاصة بعيدًا عن إطار العائلة، ويمكنه الزواج في محافظة أخرى، دون التقيد بعائلته.

كل تلك الأمور التي ارتبطت بالصعيد، ما هي إلا وهم لم يعد له وجود الآن، وارتفعت نسب التعليم التي قضت على العديد من المظاهر، كما غابت سمة الشهامة بالمجتمع الصعيدى كما غابت بأغلب المجتمعات، ولم يعد للصعيد سمة يختص بها، كما كان في السابق.