كان الحدث المأسوي في نهاية القرن التاسع عشر يشبه كثيرًا ما حدث في نهاية القرن الثامن عشر، إذ تمكن البريطانيون من فعل ما لم يستطع عليه الفرنسيون، فتمكنوا من احتلال مصر في العام 1882 عقب معارك سياسية وعسكرية تمكن الإنجليز بعدها من السيطرة على القاهرة، وهو ما جعل المجتمع المصري يسير في مسارات متفرقة ومتباينة فما بين السيطرة الشكلية من الخليفة العثماني، والحكم المنقوص من أبناء محمد علي، والتدخل السافر من قبل مندوبي الإنجليز في مصر تتداخل النضالات، وتتوزع الاهتمامات الفكرية والثقافية، غير أن البناء الذي تباطأ كثيرًا عن ذي قبل مازال مستمرًا بطريقة ما.

وتطفو قضية الهوية/القومية على سطح الأفكار بضراوة من مطلع القرن العشرين، ويطرح المفكرون المصريون قضايا الاستقلال والتحرر الوطني في إطار معرفي/تنويري، يراجع الماضي القريب والبعيد، ويسائل التراث الفكري في إطار فلسفي مستعينا بمفكري عصر التنوير، من الأوروبيين وخاصة الفرنسيين، وتتعاظم حركة الترجمة، ومازالت البعثات العلمية مستمرة، وعلى الرغم من القلق والتوتر السياسي المسيطر على الواقع المصري كان هناك أطروحات فكرية شديدة الأهمية على يد مفكرين عظام ومن بينهم مصطفى عبدالرازق صاحب كتاب “الإسلام وأصول الحكم”، وكذلك أحد الرواد الهامين وهو الدكتور طه حسين، في كتابه ” في الشعر الجاهلي” وهو كتاب ذا دلالة معرفية ناهيك عن أهمية وخطورة النتائج التي توصل إليها، فقد استخدم “المنهج الديكارتي” الذي يقوم على مبادئ منطقية تعلي من شأن الرؤية النقدية، فمعنى التنوير عند طه حسين هو إعمال العقل واستخدام النهج النقدي وتوسيع دائرته، وإتاحة الحرية له، فالنقد يحتل مكانة مركزية عند “طه حسين” التنويري، لما له من أثر في “إصلاح العقل وتنظيم حركته” “وهو الطرح الذي تبناه “إيمانويل كانط” في تعريفه للأنوار، بوصفه الجسارة الفكرية والخروج من القصور الفكري في إطار من الحرية الشخصية.

هوجم “طه حسين” بضراوة لاستخدامه المنهج الشكي/النقدي، ويقول المبلغين ضده: “أن المؤلف أهان الدين الإسلامي بتكذيب القرآن الكريم في أخباره عن إبراهيم وإسماعيل حيث ذكر في ص 26 من كتابه ” للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها، ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الإسلام واليهود والقرآن من جهة أخرى” إلى آخر ما جاء في هذا الصدد”، وما تعرض له المؤلف في شأن القراءات السبع المجمع عليها والثابتة لدى المسلمين جميعا وأنه في كلامه عنها يزعم عدم إنزالها من عند الله، وأن هذه القراءات إنما قرأتها العرب حسب ما استطاعت لا كما أوحى الله بها إلى نبيه مع أن معاشر المسلمين يعتقدون أن كل هذه القراءات مروية عن الله تعالى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.

وأنه طعن في كتابه عن النبي صلى الله عليه وسلم طعنا فاحشا من حيث نسبه فقال في ص 72 من كتابه: “ونوع آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه إلى قريش، فلأمر ما اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف وأن يكون عبد مناف صفوة بني قصي وأن يكون قصي صفوة قريش وقريش صفوة مضر ومضر صفوة عدنان وعدنان صفوة العرب  والعرب صفوة الإنسانية كلها”. وأسهبوا: إن تعدي المؤلف بالتعريض بنسب النبي صلى الله عليه وسلم والتحقير من قدره تعدّ على الدين وجرم عظيم يسيء إلى المسلمين والإسلام فهو قد اجترأ على أمر لم يسبقه إله كافر ولا مشرك.

وأن الأستاذ المؤلف أنكر أن للإسلام أولية في بلاد العرب وأنه دين إبراهيم إذ يقول في ص80 : “أما المسلمون فقد أرادوا أن للإسلام أولية في بلاد العرب كانت قبل أن يبعث النبي وأن خلاصة الدين الإسلامي وصفوته هي خلاصة الدين الحق الذي أوحاه الله إلى الأنبياء من قبل” .. إلى أن يقول في ص81 : “وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام وبعده فكرة أن الإسلام يجدد دين إبراهيم ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب في عصر من العصور ثم أعرضت عنه لما أضلها به المضلون وانصرفت عنه إلى عبادة الأوثان.

انتصر الأصوليون في حربهم ضد “طه حسين”، على الرغم من عدم تمكنهم من سجنه بتهمة “ازدراء الأديان”، وهي التهمة التي يلوح بها الأصوليون المتشددون من المحافظين في وجه المجددين على طول التاريخ، منذ محاكمة سقراط وحتى اللحظة الراهنة. إذ يرى البعض أن إنكار “الحقيقة المطلقة” هو صنو “اللاأدرية” وهو الأمر الذي  يعني إنكار العالم، والتشكيك في امكانية بناء (المعرفة) ظنا منهم أن غياب مفهوم “الحقيقة المطلقة” من شأنه أن ينفي وجود (حقيقة) ومن ثم الوقوع في براثن التشكك، والانزلاق إلى حالة من التخبط، ونكران الخبرة المتراكمة. وهو أمر يبدو مستغربا على “خطاب” معرفي يتم طرحه في الوقت الذي تمكن فيه العلم من الوصول إلى (حقائق) هامة حول أمور كانت تبدو في الماضي القريب غامضة وملتبسة.

وفي ظني أن مناط الوصول إلى حكم من هذا النوع يؤشر إلى نقص في الوعي، وربما قصور في الإدراك، ينبعان من نقصان في المعرفة بأسس العلم وأدوات المنهج العلمي، التي باتت مادة يتدارسها كل مبتدئ، والفارق الجلي بين المفهومين لا يدع مجالا لالتباس، حيث يعني مفهوم (الحقيقة المطلقة) في أبسط صوره نهاية التاريخ، والوصول إلى موقف معرفي لا يمكن أن تتغير عناصره، أوتتبدل معطياته، ومن ثم الاهتداء إلى اليقين الذي لا ينبغي على فرد انتقاده، او الإتيان بمعرفة تخالفه، وأفضل ما يمكن تقديمه من جهد علمي في ظل هذا الخطاب هو عمليات الشرح والتوصيف لمتون الكتب التي تحويها، ولا يجوز بأي حال من الأحوال انتقادها أو التشكك في مكوناتها وعناصرها. بينما تتأسس المعارف العلمية التي تمتلك حزمة من (الحقائق) الثابتة والمؤكدة، سمة رئيسة مفادها (أن هذا ما توصلنا إليه وفقا للمعلومات المتوفرة، وفي ضوء الأدوات والمنهج العلمي المتاح) ما يعني أننا إزاء دعوة مفتوحة للبحث والاستقصاء، والتأسيس لمزيد من الإبداع، وهو فارق جوهري يتخذ من “التطور” ركيزة أساسية تمكن البشر من إضافة مزيد من الخبرات، وابتكار رؤى ومعارف قادرة على تقديم بدائل إبداعية من شانها تعظيم قدرة الإنسان ودعم تقدمه.

إننا جميعا نبحث عن المعرفة، ونتمنى الوصول إلى (الحقيقة)، قد (يعتقد) بعضنا أنه قد وصل إليها، والبعض الآخر يرى أنه يسعى للوصول إليها، لعله يعتقد أنها (أكبر) أو (أضخم) أو (أصعب) من الوصول إليها، فيتواضع قليلا عند الحديث عن هذا الجزء الذي (امتلكه) من (الحقيقة) ويمنح مساحات معرفية لمن يعتقد أنه قد حاز جزءا آخرا منها. يظنها البعض منحة مقدسة توهب للمصطفين من البشر، ويراها البعض الآخر نتيجة يحصل عليها من يعمل، ويكد، ويشقى (كثيرون منا يعلمون قصة الفيل ومجموعة العميان والتي وصف (عرف) فيها كل منهم الفيل وفقا للمنطقة التي لمسها من الفيل).

ويميز منظروا المعرفة بين الحقيقة (الميتافيزيقية) بمعنى الحقيقة المجردة غير المادية (العقلية)، والحقيقة العلمية (الحسية)، ويرونها إما كامنة في الأشياء كما يراها (أرسطو)، أو مستقلة عن الأشياء في عالم مواز، كما قال (أفلاطون)، وكل منهما يرى أن الحقيقة هي (ماهية الشيء). في حين يرى البعض أن الحقيقة الوحيدة التي تحكمنا هي (النتائج المباشرة)، فالــ(حقيقية) هي تلك التي تمنحنا نتائجا مفيدة، أو نافعة، أو عملية، على المستوى المادي أو المعنوي (البرجماتية الأمريكية)، وهناك أيضا من ينكر وجود (الحقيقة) بوصفها (وجودا) مستقلا، مكتملا يقبع في مكان ما، وعلى الإنسان أن يبحث عنها، بينما يراها مجرد نتائج وتصورات إنسانية، لعمليات عقلية وخبرات إنسانية، وإدراكات حسية، ومن ثم يمكن للإنسان/الفرد أن يتوصل لــ (حقائق) وليس (الحقيقة)، إذ ينفي عنها صفة الثبات أو التقديس، ويعتبرها اجتهادات إنسانية، يقدمها الإنسان لتسهيل وتنظيم حياته على هذا الكوكب، وبينما الوضع على هذا الحال يكتفي بما يمكنه أن يحقق له هدفه، وهو في هذا لا يؤمن بوجود (الحقيقة) مستقلة، لكنه يؤمن بوجود (حقائق) معرفية/علمية.

نستطيع إذن أن نتوصل إلى مجموعة من النتائج عندما نمتلك ما نظن أنه (الحقيقة)، فإذا كنت تظن أن الحقيقة في عالم آخر غير عالمنا، يمكنك أن تنظٌــم علاقات بينية بين العالمين، وترى في كلا منهما منظومة الحقيقة، وإذا كنت تتصور أنك تمتلك بعضا/جزءا من الحقيقة ستتمكن أيضا من تقديم مفهوما متكاملا للعالم، مثلما يمكنك فعل هذا إذا تركت التصورات العقلية جانبا، وذهبت نحو النتائج العملية المباشرة، وفي كل الأحوال يسعى الإنسان إلى الإجابة عن مجموعة من التساؤلات التي من شأنها أن تمنحه تصورا/تفسيرا متكاملا للعالم، ويقوم العقل الإنساني باستكمال هذه المنظومة ذاتيا وفق ما يمكن أن يدركه بوصفه مجموعة التصورات المبدئية حول (الله ـــــ العالم ــــ الإنسان) ومن ثم يبني الإنسان منظومته الخاصة. فلا أحد ينكر أن هناك أفكار مجردة ينبغي أن نعي بها عندما نتوسل طريقا إلى المعرفة، وهذه الأفكار لا يمكننا أن نرى لها تمثلات عينية، أو تعبيرات مادية في الواقع، مثلا عندما نتحدث عن (الحق ـــــ الخير ــــــ الجمال ـــــ الحب ـــــ الحرية …ألخ) فنحن لا نستطيع أن نضع، أو نتخيل هذه الأفكار في جسد مادي ما، مثلما نستطيع أن نفعل هذا، عندما نتحدث عن شيء مثل (الحصان ـــــ الماء ــــ كوكب الأرض ـــــــ النار ــــ الذرة … ألخ )، فبينما ندرك الأولى عن طريق (العقل) ندرك الثانية عن طريق (الحواس)، وربما عن طريق امتداداتها مثل الميكروسكوب أو التليسكوب أو غيرها من الأدوات المعينة للحواس، ونستطيع أن نصدق، أو نكذب الشخص عندما يتحدث عن الثانية، بينما لا يمكننا أن نتهم أحدهم بالكذب، أو ننعت أحدهم بالصادق، عندما يدلي بدلوه في الأولى.

ربما تكون اللحظة الفاصلة فيما يتعلق بهذا المفهوم ــــــ الحقيقة ــــــ هي تلك (اللحظة) التي أعلن فيها (أينشتاين) نظريته في النسبية، ففي الوقت الذي سيطر فيه (نيوتن) على القرن التاسع عشر بقوانينه عن (الحتمية)، وعن (المادة/الكتلة)، والتي أدت بدورها لتأثيرات فكرية على مضمون ما طرحه المفكرون والفلاسفة، بل وعلماء الاجتماع والاقتصاد أيضا، فأصبحت الأحاديث في العلوم الإنسانية تشي باعتبارات )يقينية( عبر قوانين تبدو (صارمة) مثلها مثل قوانين نيوتن الفيزيائية، وبدا الحال وكأنه (نهاية التاريخ)، وبدا العصر وكأنه عصر انتصار العلم (العقل( – إذ تمكن العلم من تفسير ووضع القوانين لكافة الظواهر التي كانت تبدو مربكة في منظومة العلم الفيزيائي ما قبل نيوتن – وعلى العلوم الإنسانية أن تلحق بركبها إذا أرادت أن يتم الاعتراف بها بوصفها (علما).

وبينما الحال على هذا النحو، أتت بدايات القرن العشرين بوصفها حقبة تعبر عن تشكك علمي في التيار الحتمي/اليقيني الذي أطلقته قوانين نيوتن، إذ إن نظرية النسبية لحظة طرحها قد حسمت هذه المسألة لصالح نسبية المعارف ومن ثم نسبية (الحقيقة)، وهو الأمر الذي استدعى مراجعات كبيرة على كافة المستويات العلمية والإنسانية، حيث لم يعد الوصول لليقين مطلبا علميا أو فكريا يسعى إليه أحدهم، ولم يعد مفهوم (الحقيقة) يشكل جزءا من المنظومة المعرفية التي تنظم رؤية الإنسان للعالم، فالتغيرات التي طرأت على منظومة المعرفة الإنسانية، والمراجعات التي تمت، قد أدت إلى تغييرات جذرية في بنية (العقل الإنساني) ــــ أقصد هنا طرائق التفكير ــــ إذ لم يعد هناك أحاديث عن حتمية أو مادة/كتلة، بل أصبح الحديث عن مسارات نظنها هكذا، وعن المادة/الطاقة، وعن موقف مكاني زماني يجعلنا نرى المشهد من جانب من الجوانب، وعن تغيرات وتبدلات قد تطيح بمنظومتنا المعرفية في أية لحظة، لصالح (تفسيرات) معرفية جديدة تبدو أكثر إقناعا ومنهجية، وأصبح هذا الوضع هو الوضع السائد على المستوى العلمي.

 نستطيع إذن أن نكتشف أن لكل منا تفسيراته الخاصة، والتي يمكننا أن نطلق عليها (الحقيقة)، غير عابئين بتصورات الآخرين حول المفهوم ذاته، وعادة ما نكون مستندين في حكمنا هذا إلى مجموعة من العناصر المعرفية المنهجية، والمقدمات والمصادرات المعرفية، التي تجعلنا نزهو بقدراتنا على اكتشاف واستنباط (الحقيقة)، وكلنا ثقة في ما توصلنا إليه، ويقوم كل منا بفعل مماثل أو مشابه، يجعل التساؤل حول أي من هذه التصورات/التفسيرات يمثل مفهوم (الحقيقة) مصدرا للإزعاج بالنسبة للبعض منا، وخاصة هؤلاء الذين يظنون أن (هناك) تقبع (الحقيقة)، وأنهم بمساعدة بعض النصوص التي يرونها (مقدسة)، أو قطعية، أو عابرة للزمان والمكان، قد تمكنوا من الوصول إليها، ومن ثم تصبح (الفرق الأخرى) ـــــــ التي تظن بنفس الثقة أنها تمتلك الحقيقة ـــــــ (مخطئة)، وينبغي على الفئة التي تمتلك (الحقيقة) إما هدايتها للطريق الحق، أو مقاتلتها حتى تعود إلى صوابها.

 في واقع الأمر أن الاختلافات المنهجية والمعرفية في رؤية العالم، والتي أنتجها الإنسان على مر عصوره لم تنته، بل تتواجد جنبا إلى جنب في كل المجتمعات الإنسانية، وأحيانا ما تتصارع، حيث تمثل هذه الرؤى القاعدة المعرفية/المنطقية، التي تتيح لثقافة ما أن تقنع مؤيديها بجدوى استمرارها، ولا تكمن المشكلة في وجود تصورات متباينة للعالم أيا كانت هذه التصورات، بقدر ما تكمن في أساليبنا في التعامل معها، ففي الوقت الذي تتطور العلوم الطبيعية والإنسانية، وتزداد قدرة الفرد على التعامل مع الطبيعة، لا تقدم هذه العلوم الإجابات النهائية عن بعض الأسئلة التي طرحها الإنسان منذ وجوده وحتى هذه الحظة الراهنة، وإن كان يراها البعض أسئلة لا يمكن الإجابة عليها، يقدم البعض (إجابات)، ومن ثم فالانتصار لإجابة ما لا يمثل جوهر المشكلة المجتمعية، بينما تكمن المشكلة في رغبة البعض في تسييد (رؤية) ما و(إجابات) بعينها.