“الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من وقت واهتمام الفرد”، كانت هذه العبارة الدستور الذي يعمل لأجله مؤسسي “فيسبوك” وهو ما أكده شون باركر الذي حول موقع التواصل الاجتماعي، إلى شركة بعدما كان مجرد موقع تواصل طلابي.

“باركر” أكد على التأثير السلبيّ لـ”فيسبوك”، والسيطرة شبه الكاملة على حياة الأفراد، وأنّ الكثير من المستخدمين يدروكون عيوب هذا الموقع وتأثيره الذي  يصل إلى حد سلبّ الحياة كاملة ولكنّ الرغبة في الترفيه والتواصل تتغلب على هذا الجانب العقلاني من التفكير ، بل أنّ الاستحواذ أكبر من العدول عنه ويصل الأمر كما وصفه علماء النفس إلى حد “الإدمان”، و”التوحد” مع هذا العالم الافتراضي الطاغي على جيل بأكمله ويشكل خطورة على الجيل الناشئ من الأطفال أيضًا.

مجتمع الخُمس الثري “الفاعل”:

وصف هانس بيتر مارتين، وهارالد شومان في  كتابهما: “فخ العولمة”، شكل العالم المنتظر في محاولة لاستعراض المستقبل، مؤكدين أنه خلال مؤتمر عقد في فندق فيرمونت في سان فرانسيسكو، ضم نخبة حكام العالم من كبار أصحاب ومديري الشركات، ومعهم عدد من قادة الدول ومفكري الاقتصاد عام 1995 لبحث مستقبل العالم في الألفية الجدية.

طرح المجتمعون رؤيتهم للعالم الجديد والذي أطلقوا عليه: “مجتمع الخمس”، أي أنّ 20% فقط من البشر سيكون كافيًا، لإنتاج جميع السلع ولسد حاجة الخدمات الرفيعة القيمة التي يحتاج إليها المجتمع العالمي، هي التي ستعمل وتكسب المال وتستهلك.

ولحل مشكلة تواجد 80% آخرين من البشر على وجه الأرض، طرح مستشار الأمن القومي الأمريكي زيجنيو برجنيسكي، الحل الذي اختصره في مصطلح “Tittytainment” وهي كلمة منحوتة من Entertainment بمعنى تسلية وكلمة Titty للإشارة إلى حليب الأم، وفسر “برجنيسكي” مصطلحه الجديد بأنه “بخليط من التسلية المخدرة والتغذية الكافية يمكن تهدئة خواطر باقي سكان الأرض”.

لم يكن “فيسبوك” أو أيًا من وسائل التواصل الاجتماعي، قد خطر علي بال أي من المجتمعين في فيرمونت عام 1995، لكنّ رؤيتهم كانت واضحة تمامًا ومتفق عليها فيها يجب أنّ يصبح عليه العالم في السنوات التالية، بعدها بأقل من 10 سنوات بلغت شهرة “فيسبوك” حدًا جعل الكثيرين يؤمنون بأنه قد غير العالم.

 

 

البداية والانطلاق:

أسس مارك زوكربيرج، أحد طلاب جامعة “هارفارد” “فيسبوك” عام 2004 لتكون وسيلة للتعريف بطلبة الجامعة، انتشرت حتى أصبح نصف سكان الأرض لديهم صفحات عليها، وفتحت الباب واسعًا لما أصبح يسمى مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت تستخدم لوصف عالم الألفية الجديدة.

تطور موقع “الفيسبوك” وتحول اسمه إلى “فيسبوك” باقتراح من شون باركر، المساهم الأكبر في تطوير الموقع وتحويله إلى شركة خاصة والذي استطاع استقدام أول مموليه.

العالم ينقسم حول تقييمه:

مثل كل التغيرات الكبرى التي شهدها العالم في التاريخ انقسم البشر حول تقييمها من النقيض إلى النقيض، البعض يعتقد أن “فيسبوك” أصبح مجتمعًا عالميًا موحدًا يتجاوز الحدود والبلدان والجنسيات، يجمع أصحاب الأفكار المشتركة، يحشد الرأي العام العالمي حول حملات تؤثر في صنع السياسات، بالإضافة إلى آفاق التواصل الغير محدود بين البشر في أي مكان على الارض، فلم يعد الشخص عالمه محدودًا بمن يستطيع لقائهم مباشرة، بل أصبح لدى الجميع الفرصة للوصول إلى أي شخص يريده في أي مكان.

فيما اعتبر آخرون أن هذه المميزات التي تُنسب لـ”فيسبوك” وصانعيه قد دمرت المجتمع الإنساني، وسمح بـ”اختراق خصوصية البشر” بشكلٍ غير مسبوق أصبح في إمكان أي شخص اقتحام المساحات الخاصة للآخر، كما أصبح مجالاً خصبًا لنشر الأفكار الإرهابية والعنصرية والمتطرفة، كما أصبح يشغل مساحات كبيرة من أوقات البشر التي وفرت من العمل لصالح العالم الافتراضي الوهمي الذي يعطي إحساسًا زائفًا بصنع الحدث.

شون باركر أحد مؤسسي “فيسبوك” كشف في حوار له عام 2017، إنّ العملية الفكرية وراء بناء هذه التطبيقات، وعلى رأسها “فيسبوك”، كانت تتمحور حول كيف نستهلك أكبر قدر ممكن من وقتك ووعيك المنتبه؟”.

وأضاف: “يعني هذا أننا بحاجة إلى إعطائك قليلاً من مادة الدوبامين (مادة تتفاعل في المخ وتؤثر وتحفز الأحاسيس والسلوك) من حين لآخر، وتتمثل هذه المادة في شخص يبدى إعجابه أو يعلق على صورة لك أو شيئًا كتبته أو أي شيء فعلته”، مؤكدًا أنّ هذا “سيدفعك إلى المساهمة أكثر ومشاركة المزيد من المحتوى، وهو ما سيجلب لك المزيد من الإعجاب والتعليقات”، على حد قوله.

لم يكن “باركر” أحد المشاركين في مؤتمر فيرمونت، ولم يكتشف هو نفسه هذه الحقيقة إلا عام 2017، حين صرح بأنه لم يعد يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي لأنها  “تستهلك الكثير من الوقت، وهو ما أكدته دراسات حديثة كشفت أننا نقضي في المتوسط ساعتين يوميًا في تصفح هذه المواقع والتفاعل معها”.

ورغم حداثة “فيسبوك” فقد حاولت بعض الدراسات تحليل أداء المستخدمين وتأثيراته على حياتهم وتوازنهم الاجتماعي والنفسي، توصل الكثير منها إلى وجود تأثيرات كبيرة على حياة البشر في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، لعل بعضها يكشف عن خطأ التسمية نفسها، إذ كشفت بعض الدراسات أنها ساهمت في التباعد الاجتماعي بين البشر بل حتى داخل الأسرة نفسها ودمرت التواصل المباشر بين البشر، لصالح تواصل افتراضي وهمي وإحساس زائف بالتأثير والتواجد، ضمن محيط واسع من البشر.

زيادة حدة التوتر

كشفت استطلاع للرأي أجراه مركز “بيو” الأمريكي عام 2015 على 1800 شخص، عن زيادة حدة التوتر لدى مستخدمي “فيسبوك” بعكس الفكرة الشائعة بأن استخدام الموقع يخفف التوتر، كما توصلت دراسة نمساوية عام 2014 أن مستخدمي “فيسبوك” قد أحسوا بتراجع في الحالة المزاجية بعد استخدامهم له لمدة 20 دقيقة، مقارنة بمستخدمين آخرين لمواقع الإنترنت لنفس الفترة الزمنية، وأكدت الدراسة أن انخفاض الحالة المزاجية ناتج عن إحساس مستخدمي “فيسبوك”، بأنهم أهدروا وقتهم في استخدامه.

وتوصل باحثون من جامعة كاليفورنيا عن تأثير المحتوى العاطفي لأكثر من مليار منشور كتبهم حوالي 100 مليون مستخدم لـ”فيسبوك” بين عامي 2009 و2012، أن منشورًا واحدًا سلبيًا ولو عن حالة الطقس السيئ في مكان ما قد أثر على الحالة النفسية لآخرين يعيشون في أماكن أخرى، لم تتعرض لنفس الطقس السيئ.

وتوصلت دراسة في مجلة “الكمبيوتر والسلوك البشري” إلى أن استخدام مواقع التواصل الاجتماعي وأهمها “فسيبوك” يزيد مخاطر التعرض للاكتئاب والقلق ثلاثة مرات أكثر من الطبيعي، وكشفت عن أسباب ذلك بأنه نتيجة أساليب التخويف والتنمر التي يتعرض لها المستخدم، بالإضافة إلى تكوين رؤية مشوهة عن حياة الأخرين، والشعور بالندم لإهدار الوقت.

فقدان الثقة بالنفس

يساهم “فيسبوك” أيضًا في اهتزاز الثقة بالنفس لدى البعض، إذ كشفت دراسة في جامعة “بن ستيت” الأمريكية عام 2016 أن رؤية صور السيلفي للآخرين تقلل من الثقة والرضا عن النفس نتيجة مقارنة الذات بالصور المنشورة والتي تظهر مدى سعادة أصحابها، وأكدت دراسة جامعية أمريكية نفس النتيجة خاصة لدى النساء اللاتي يقارن أنفسهن بصور السيلفي لنساء أخريات وتسبب لهم شعورا سلبيًا.

يؤدي الحضور على موقع “فيسبوك” إلى مقارنة الشخص لنفسه بالآخرين، مما يعرضه لحالة من الإحباط وتناقص الاحترام والثقة بالنفس، كما يؤدي إلى تراجع قدرة الشخص على تذكر أحداث كثيرة، نتيجة اختلاط الحقيقي بالافتراضي، مثل:الانشغال بتصوير مكان جميل أو عمل فني معين، كي تشاركه على صفحة “فيسبوك” ليتفاعل معه الأصدقاء، دون أن تختزن في ذاكرتنا تفاصيل العمل الفني أو المكان الجميل بأعيننا.

تدمير العلاقات العاطفية

كشف باحثون كنديون في دراسة عام 2009 عن تزايد مشاعر الغيرة لدى الشركاء العاطفيين عند إضافة شركائهم أشخاصًا جديدة لا يعرفهم من الجنس الآخر على موقع “فيسبوك”، وأكدت أن النساء تقضي أوقاتًا أطول من الرجال على “فيسبوك” وتختبر مشاعر الغيرة بشكل أكبر، كما أثرت سلبيًا على ثقتهم في قوة العلاقة بالشريك.

الوحدة والعزلة

كشفت دراسة لمجلة الطب الوقائي الأمريكية العام الماضي، شملت 7000 شخص أن مستخدمي “فيسبوك” ومواقع التواصل الاجتماعي أكثر عرضة للعزلة الاجتماعية، وتراجع في التواصل مع الآخرين، والانخراط في علاقات اجتماعية حقيقية.

الإدمان

كشف تقرير نشرته جريدة “الإندبندنت” البريطانية عن تعرض مستخدمي “فيسبوك” ووسائل التواصل إلى حالة من الأرق الدائم نتيجة تصفح الموقع والرد على الرسائل قبل النوم، بالإضافة إلى الاستيقاظ مع كل تنبيه أو إشعار برسالة للرد عليها، وهو ما يصل إلى حد تهديد السلامة العقلية للمستخدم المدمن.

ويؤكد الدكتور تيم بونو، نفس النتيجة في كتابة: “جين لا تكفي شارات الإعجاب” أن تصفح “فيسبوك” أو منصات التواصل قبل النوم يحرك مشاعر التفكير والقلق والغضب من تعليقات ومشاركات الآخرين، مما يجعل العقل متحفزًا ومشغولاً بشكل مستمر، وهي أسوأ حالة يمكن للإنسان الذهاب للنوم بها.

التفكك الأسريّ

لعل من أخطر تأثيرات “فيسبوك” هو تأثيرها على العلاقات داخل الأسرة الواحدة، إذ أصبح من المعتاد التواصل وتجديد العلاقات مع الأصدقاء البعيدين مع قطع الصلات بين أفراد الأسرة نفسها رغم وجودهم في نفس المكان، لكنّ كل منهم مشغول بالتواصل مع الآخرين أو بمتابعة صفحاتهم على “فيسبوك”، تتقلص العلاقات الحقيقية لصالح العلاقات الافتراضية، الباحث الأمريكي “لاري روزين” أن مستخدمي “فيسبوك” يظهرون ميلاً أكبر إلى النرجسية والاعتقاد بأن لهم حضور قوي في العالم الافتراضي، وهو ما يصل بهم لـ “اضطرابات نفسية منها السلوك المعادي للمجتمع والجنوح نحو العدائية”.