عبر “أهوار” جنوب العراق، صارع “جلجامش” ملك “أورك” السومرية، المياه في طريقه للحكيم “اتنابشتم”، في أعالي النهر، بحثًا عن الخلود، قبل نحو ستة آلاف عام، مستقلًا قاربًا بناه من قصب البردي وطلاه بالقار.

قارب “جلجامش”، المصنوع من قصب البردي، والذي خلدتها الآثار السومرية، بتصميمه التراثي هو نفس الزورق الذي لا يزال سكان الأهوار، السكان الأصليين لجنوب العراق، والذين يطلق عليهم اسم “المعدان”، يستخدمونه حتى اليوم ويسمونه “المشحوف”، كما أن بيوتهم المبنية من القصب، والمتناثرة على سطح مسطحات الأهوار، كأعمال فنية من البردي، في مشهد جمالي يندر أن تراه عين، هي ذاتها البيوت التي سجلتها منحوتات السومريين منذ ما يقرب من 6 آلاف عام.

تشويه سكان الأهوار

تاريخ، حاولت السلطات العراقية، طمسه، معاقبة لسكان الأهوار على تمردهم ضد حكم صدام حسين في بداية التسعينيات، ضمن ما عرف بـ”الانتفاضة الشعبانية” العراقية، من خلال حملة شنها الإعلام، في الجرائد والقنوات العراقية، قالت إن “المعدان” ليسوا من سكان العراق، بل هاجروا إليه من الهند وراء قطعان من الجاموس وأنهم أُناس همجيون لا يعرفون شيئًا عن المدنية، في محاولة لقتلهم معنويًا، قبل أن يشن صدام  حملة عسكرية على الأهوار، المعقل الأخير للمنتفضين، قُتل فيها الآلاف، تبعها بخطة هندسية لبناء السدود، وحرق القصب، بغرض  تجفيف المستنقعات المائية، بحجة الأمن القومي، ما أدى للهجرة القسرية للآلاف من السكان، إلى إيران خوفًا من البطش.

والأهوار مجموعة من المسطحات المائية تغطي الأراضي المنخفضة الواقعة في جنوبي السهل الرسوبي العراقي، وتقع مدن العمارة والناصرية والبصرة على رؤوس المثلث الذي يشكله السهل، وتكونت مسطحات أو مستنقعات الأهوار والتي تغطيها نباتات قصب البردي، بالقرب من مصب نهري دجلة والفرات، نتيجة لفيضانات دجلة في شهر أيار/ مايو والفرات في شهر حزيران/ يونيو.

“المعيدي” وجواميسه الوديعة

  عاش سكان الأهوار لقرون طويلة على صيد الأسماك وزراعة الأرز، وتربية الجاموس، والذي يرعى في نباتات المستنقعات، ويعبر الروائي العراقي، والباحث في الميثولوجيا السومرية نعيم عبد مهلهل، عن عمق علاقة “المعيدي/ة” بـ”جواميسه” الوديعة، وما يحيط بهما من مخاطر، من هول الجفاف والحروب، من خلال حديث أمٍ من سكان الأهوار لابنها قائلة: “ولدي، الحرب ليس لنا معها سوى ما يهجعنا، وما يفزع جواميسنا ويحرق بيوت القصب، اذهب إليها بعصاك الغليظة، وأجبرها لتذهب عنا بعيدًا”.

لم تستطع عصا الولد الغليظة، أن تجبر الحرب على الابتعاد، ولم يستطع هو أن يحمي “جوامسيه” من الفزع ولا بيوت القصب من الاحتراق، لتُقر الأم في حزن وشموخ: “لقد انتصرت الحرب علينا حينًا من الزمن، ولكن ليس إلى الأبد”.

انتفاضات سكان الأهوار

 هكذا أراد “المعيدي” حياته هادئة، باحثًا عن الاستقرار، بالقرب من مصب النهر، راعيًا “جواميسه” على نبات المستنقعات، وممتدًا في الليل على سرير من سباط القصب، وسط المياه، مطلًا عبر شباك بيته على 6 آلاف عام من الحضارة السومرية، لكنه لم يكن مستكينًا ولا جبانًا.

 ثار سكان الأهوار على مر التاريخ الحديث، مرات عديدة، ضد السلطة، والإنجليز، وكانت الأهوار دائمًا ملجئًا للثوار، وقاعدة لانطلاق الانتفاضات الشعبية، واحتضن سكانها الثوار الهاربين، من بطش السلطات العراقية المتعاقبة، وكانت الأهوار مقصد الآلاف من العراقيين بعد انتفاضة الجنوب بعد “حرب تحرير الكويت”.

محاولات المحو

رغبة الأنظمة العرقية في محو الأهوار، قديمة، فحاول النظامي الملكي والإنجليز وغيرهما، مرات عديدة، تجفيف مستنقعات الأهوار لأسباب مختلفة، لكنهم فشلوا، الوحيد الذي كاد أن يحقق هذه الرغبة كان نظام صدام حسين، بعد الانتفاضة العراقية في الجنوب عام 1991، عقابًا لسكان الأهوار على التمرد ضده واحتضان الثوار، فقام بحفر قنوات لتصريف المياه وبنى سدود ترابية، لمنع نهري دجلة والفرات من الصب في مسطحات الأهوار، وقام المهندسون بحرق آلاف الكيلو مترات من قصب البردي، لإنشاء مشروع النهر الثالث، ولم يبقى بحسب تقديرات جهات دولية غير 5% من مساحة مسطحات الأهوار.

الأهمية البيئية والاقتصادية

والأهوار لها أهمية كبرى، للتنوع البيولوجي، كونها موطن للكثير من الحيوانات والكائنات الحية النادرة، ومركز لدعم هجرة الطيور القارية إلى المنطقة، فأهواز الحمار، والحويزة، يمكنهما تزويد الشرق الأوسط من الطيور البرية الشتوية كالإوز والبط، كما تدعم تنوع طيور الهجرة المائية بين أراضي التناسل والتكاثر في سيبريا ووسط أسيا، والربع الشتائي الأفريقي، وموطن هام للكثير من الأسماك، وتستطيع توفير بيئة جيدة للإنتاج الزراعي التقليدي الدخن، والأرز، والخضراوات، ومصادر دائمة لصيد الأسماك ورعي الماشية.

عودة محفوفة بالمخاطر

في عام 2003 بدأت الحياة تعود للأهوار مرة أخرى، وبدأ المهاجرون “المعدان” يعودون بعد عودة المياه، وبحسب منظمات دولية فإن الأهوار استعادت نحو نصف المساحة التي فقدتها، لكن العودة والاستعادة، ظلتا محفوفتان بالمخاطر بسبب زيادة الملوحة في المستنقعات، والخوف من الجفاف نتيجة للانخفاض الشديد في منسوب نهري دجلة والفرات، وضعف خطط التنمية من الحكومات العراقية التي جاءت بعد سقوط نظام صدام حسين.

وفي عام 2016 أدرجت منظمة اليونسكو منطقة الأهوار، في قائمة التراث العالمي، ووصفتها بأنها: “ملاذ تنوع بيولوجي وموقع تاريخي لمدن حضارة ما بين النهرين”، لكن هذا في حد ذاته لا يمكن أن يضمن حماية الأهوار وسكانها ـ سكان العراق الأصليين ـ من مخاطر الجفاف، والشتات.

فكما يقول الباحث في الميثولوجيا السومرية نعيم عبد مهلهل: “إن الدعوة إلى إبقاء خصوصية المكان وروحه المصبوغة بالبساطة ورغبة الانتماء في الطبيعة البسيطة الهادئة ينبغي أن يوازيها الرغبة في إنعاش المكان وإيجاد الحلول لبقائه مكانًا مائيًا يحتضن من سكنه من دهور بعيدة، ويوفر لهم ما تعودوه من الحياة منذ أزمنة أجدادهم أهل سومر وحتى اليوم، وهو أهم ما يفترض أن يشغل بال الدولة”.

سكان الأهوار يقهرون الزمن

على مر التاريخ تعرض سكان أهوار جنوب العراق الأصليين، أبناء السومريين، للمحو، سواء بشكل متعمد، أو من جراء الجفاف، وهاجر الآلاف بحثًا عن الحياة في مدن العراق المختلفة، ولكنهم لم يستطيعوا العيش بعيدًا عن المياه، وعن أعواد القصب وأسماك مستنقعاتهم ومراعي جواميسهم، بينما هرب آخرون عام 1991، إلى إيران خوفًا من بطش صدام حسين.

ظن الباحثون في كل مرة أنهم هالكون لا محالة، أو أنهم لن يتمكنوا من العودة مرة أخرى، لكنهم عادوا يشيدون بيوت القصب، متناثرة على تلال منفصلة وسط المستنقعات، ويرعون جواميسهم الوديعة، عادوا يتمددون على أسرتهم المصنوعة من سباط قصب البردي، ناظرين إلى ماضي أجدادهم، بعد أن قهروا الزمن، ليعيشوا حياتهم من جديد داخل وطنهم، تلك الحياة التي لن تخلو حتمًا من الخطر.