“إذ مثل هذه الأمة المشتملة على أمم وعوالم ملأت جانب الأرض، لا تكون منتقلة، من جانب آخر وقطر محصور، البربر معروفون في بلادهم وأقاليمهم، متحيزون بشعارهم من الأمم منذ الأحقاب المتطاولة قبل الإسلام، فما الذي يحوجنا إلى التعليق بهذه الترهات في شأن أوليتهم.. والحق الذي لا ينبغي التعويل على غيره في شأنهم، أنهم من ولد كنعان بن حام بن نوح وأن اسم أبيهم أمازيغ”.
هكذا، دحض ابن خلدون في كتابه: “العبر وديوان المبتدأ والخبر”، دعاوى انتساب “الأمازيغ” للعرب، ومحاولات إرجاع أصولهم إلى إبراهيم الخليل، أو أنهم من أبناء جالوت، أو نقلوا من الشام، أو من حمير من ولد النعمان، أو من مضر من ولد قيس بن عيلان، إلى غير ذلك من الإدعاءات، واصفًا كل هذه الإدعاءات بأنها ساقطة ومن منكر القول، وحديث من الخرافات.
تصورات متعددة عن أصول الأمازيغ
تعددت التصورات حول أصول الأمازيغ، لكنّ أضعفها التي أرادت نسبِهم للعرب، والذي فند ابن خلدون، مبكرًا، تلك التصورات ونقدها بشكل موضوعي، وكان تصور ابن خلدون عن انتسابهم لولد كنعان، أحد تصورين، كانا أقربا إلى نتائج الأبحاث الجينية والاجتماعية، وثانيهما، التصور الذي يتبناه باحثين من الأمازيغ، يعتبرون أن الأمازيغ من أصول محلية إفريقية، استوطنوا شمال إفريقيا منذ قديم الزمن، ويصفون مسألة البحث عن أصول الأمازيغ، بأنها شكل من أشكال العبث.
أماكن انتشارهم
وينتشر الأمازيغ في المغرب، شمالي البلاد وفي منطقة الريف وجبال أطلس، وفي الجزائر، بمنطقة القبائل وشرق البلاد وشمال الصحراء الكبرى، وفي تونس بـ”جربة وتطاوين وقفصة” وفي ليبيا، بجبل نفوسة وزوارة، وفي مصر بواحة سيوة، وفي مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، وموريتانيا.
وتَعتبر مجموعة العمل الدولية لشؤون السكان الأصليين، الأمازيغ هم: السكان الأصليون في الجزائر، وتونس، وتؤكد على أنه رغم الاعتراف بلغتهم ” تامازيغت” كلغة وطنية ورسمية في الدستور الجزائري، ولكنهم ما زالوا يعانون من الإهمال والطمس الثقافي، وفي تونس يصل عدد الأمازيغ لنصف مليون شخص يتحدثون لغة التامازيغت، يتعرضون أيضًا إلى تهميش كبير، رغم احتفاظهم بهويتهم الثقافية واللغوية المستقلة، في البلدين، بحسب المجموعة الدولية.
أمازيغ الجزائر
الجزائر هي ثاني الدول بعد المغرب، من حيث عدد الأمازيغ، حيث يعيش فيها أكثر من 10 ملايين شخص أصولهم أمازيغية، لكنها كانت المسرح الأكثر اشتعالًا لفصول مقاومة الأمازيغ ونضالهم ضد محاولات تعريبهم وطمس هويتهم.
والأمازيغ في الجزائر ينقسمون إلى عدة مجموعات متباعدة جغرافيًا وهي: مجموعة القبائل شرق العاصمة، والشاوية في منطقة الأوراس جنوب شرق العاصمة، والمزاب في منطقة غرداية على بعد 500 كلم جنوب العاصمة، وهي المجموعة الأمازيغية الوحيدة التي تعتقد في المذهب الإباضي، والطوارق في أقصى جنوب البلاد، والشناوة في منطقة شرشال على بعد90 كلم غرب العاصمة، إضافة لمجموعة أمازيغية أخرى قرب مدينة ندرومة على الحدود مع المغرب، ويتحدث الأمازيغ في هذه المناطق العديد من لهجات لغة الـ” تامازيغت”.
صراع الهوية والإقصاء
الدكتورة عبير شليغم، أستاذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر تقول: إن القضية الأمازيغية برزت خلال الستينيات من القرن الماضي، وذلك في سياق التحولات الجذرية التي عرفتها البلدان المغاربية في القرن العشرين، ونشوء الدولة الحديثة في المنطقة نتيجة التدخل الاستعماري، مع ما رافق ذلك من تحوّلات عميقة على مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وهو ما أدى إلى بروز سؤال الهوية أول مرة في المنطقة كتعبير عن المخاض العسير لتلك التحوّلات، وكردّة فعل على الخطاب الهوياتي المتبنَّى من طرف دولة الاستقلال في البلدان المغاربية، حيث يوجد نسبة مهمة من الناطقين باللغات الأمازيغية، وخاصة في المغرب والجزائر”.
عقب استقلال الجزائر مباشرة، شرعت السلطات الجزائرية، في تهميش الأمازيغ، وتعمدت إقصاء الثقافة الأمازيغية، فرفض الرئيس أحمد بن بله، الوجود الرسمي للثقافة الأمازيغية، ولغتها، لصالح الثقافة واللغة العربية، وأعلنها بصراحة شديدة، بعد ستة أشهر فقد من توليه الحكم، قائلًا: “التعريب ضروري، ولا اشتراكية بدون تعريب، ولا مستقبل لهذا البلد إلا في العروبة”.
واصل هواري بو مدين، بعد توليه الحكم في انقلاب عسكري على بن بله عام 1965، بشكل أعنف سياسات التعريب وإقصاء الثقافة واللغة الأمازيغية، فأصدر في 1968 قانونًا يلزم جميع الموظفين الجزائريين بأن يكونوا على معرفة كافية باللغة الوطنية العربية عند توظيفهم، وأصدر في سنة 1971 قرارًا ينص على أن تكون الرسائل الرسمية السياسية والاقتصادية والثقافية، وجميع الاتصالات والمباحثات باللغة العربية، كما قامت الحكومة بتعريب أسماء المدن الأمازيغية، ومنعت ما بين عامي 1974 و1975 تسمي الأشخاص بأسماء غير عربية.
“الربيع الأمازيغي”
كان عام 1980 منطلقًا لتحويل الصراع الثقافي الأمازيغي، إلى حركة احتجاجية واسعة، بعد اندلاع مظاهرات طلابية ما لبثت أن تحولت إلى مظاهرات شعبية، فيما عرف بـ”الربيع الأمازيغي”، احتجاجًا على منع السلطات الجزائرية، الكاتب مولود معمري المفكر الأمازيغي، من إلقاء محاضرة بعنوان “الشعر القبائلي القديم” في جامعة تيزي وزو، وحفل موسيقي لفرقة “أمازيغن إيمولا”، ورغم أن السلطات الجزائرية قمعت الاحتجاجات بوحشية شديدة، لكنها كانت محطة محورية في تاريخ نضال أمازيغ الجزائر ضد الإقصاء الثقافي، وسياسات التهميش.
وترى الدكتورة “شليغم” أن احتجاجات “الربيع الأمازيغي”، كانت ذات أبعاد ثقافية فقد، ترتبط بالاعتراف باللغة والثقافة الأمازيغية كجزء من الهوية الوطنية، ولم تأخذ أبعاد إيديولوجية وسياسية مرتبطة بالتعددية السياسية والحريات وحرية التعبير وغيرها، لكون هذه المطالب لم تكن قد نضجت بعد، لكن الاحتجاجات أظهرت ما تتمتع به الحركة الأمازيغية من نشاط وتنظيم، مستفيدة من جملة من العوامل تتعلق بالحراك المدني وحركة التنقل الكبيرة للكوادر الأمازيغية في الخارج.
تحقيق بعض المطالب
وفي منتصف التسعينيات، نظم الأمازيغ في منطقة القبائل، إضرابًا مدرسيا احتجاجًا على قانون تعميم استخدام اللغة العربية، في استمرار لنضالهم، وفي عام 1998 اغتالت السلطات الجزائرية المغني الأمازيغي معطوب لوناس بسبب مواقفة المناهضة للسلطة ومطالباته بالحقوق الأمازيغية، وفي أبريل من عام 201، اندلعت أحداث ما أطلق عليه “الربيع الأسود” بعد مصرع طالب داخل مقر الدرك الوطني، بعد اعتقاله على خلفية مشاركته في مظاهرات إحياء ذكرى “الربيع الأمازيغي”، وكان حصيلة أحداث “الربيع الأسود” حيث عمت الاحتجاجات منطقة القبائل، 123 شهيدًا ومئات المعتقلين والجرحى، كما انسحب على أثر الأحداث، حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، ذو الشعبية الأمازيغية، من الحكومة.
بعدها دخل الأمازيغ في مفاوضات مع الحكومة، حصلوا بموجبها على بعض المطالب، حيث أصدر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، مرسومًا، يعترف باللغة الأمازيغية كلغة وطنية.
البعد الاقتصادي لحراك الأمازيغ
رغم أن مناطق الأمازيغ لم تشهد تنمية اقتصادية كبيرة، وظلت تعاني من أزمات اقتصادية، كانت أحد محركات الاحتجاجات الشعبية، إلا أن المشكلات الاقتصادية والاجتماعية لم تتصدر احتجاجات الأمازيغ في أي من الفترات التاريخية، “أو هكذا صور الأمر”، وظلت المطالب الثقافية المتمثلة في تمكين اللغة، ومجابهة محاولات التعريب، والحفاظ على الهوية الأمازيغية، هي المهيمنة على الاحتجاجات طيلة كل تلك العقود.
استمرار النضال
في عام 2016، أُجري تعديل دستوري، أقر اللغة الأمازيغية، لغة وطنية ورسمية، إلى جانب اللغة العربية، إلى أن ناشطين أمازيغ، يرون أنه بعد أربع سنوات من إقرار التعديل الدستوري، لم تتخذ الدولة إجراءات فاعلة لتمكينها، وضرورة أن تأخذ اللغة الأمازيغية، نفس مسار اللغة العربية في التمكين، وتعميمها في كافة المرافق الحكومية وأجهزة الدولة، والبرلمان، والإعلام، واستخدامها في تحرير الخطابات الرسمية والوثائق، وهو ما يجعل نضال الأمازيغ، الذي حافظ على نمط حياتهم، وثقافتهم ولغتهم وأشعارهم، وموسيقاهم وأغنياتهم، لعقود طويلة، لا يزال مستمرًا، وهو ما تجسد في المظاهرات الغاضبة للأمازيغ في أبريل من العام الحالي في ذكرى، “الربيع الأمازيغي”، مطالبين بـ”رد الاعتبار للهوية والثقافة واللغة الأمازيغية”.