في عام 2007، نظمت جمهورية الكونغو مهرجانًا للموسيقى الإفريقية في العاصمة “برازافيل”، شارك فيه 22 فنانًا من الأقزام، حجزت الشركة المُنظمة للحفل غرف لإقامة المشاركين في المهرجان، في عدد من فنادق المدينة، بينما أقامت عدد من الخيام في حديقة الحيوانات المحلية لمبيت الفنانين الأقزام، هكذا يحكي الكاتب “المغامر” الأسترالي “بول رافاييل”، مؤلف كتاب “بين آكلي لحوم البشر”، عن قصةٍ ربما نراها شديدة القسوة، لكنها في الحقيقة ليست إلا جزء ضئيل مما يتعرض له شعب الـ”بيغمي” السكان الأصليين للكونغو، من مآسٍ.
رأى “رافاييل” بنفسه بعض منها، بل ورأى أفظعها، خلال رحلته في غابات جمهورية الكونغو، ثاني أكبر الغابات الاستوائية بعد غابات الأمازون، كإحدى مغامراته المثيرة في دول إفريقيا لاستكشاف ثقافات سكان القارة السمراء.
“نحن نعاني من اكتئاب العبودية بما يكفي، فلا داعي لإظهار واحد منا مع القردة”.. جيمس جوردون، المشرف على دار اليتامى في بوركلين
ذاكرة الماضي القاسية
تعيدنا حكاية الفنانين الأقزام في الكونغو، إلى واقعة عنصرية قاسية، وقعت عام 1904، ارتكبها أبناء المستعمرين البيض لأمريكا، في حق قزم كونغولي، يدعى “أوتا بينغا”، كان قد اشتراه مستكشف أمريكي، من سوق للعبيد، بالكونغو بعد مذبحة دبرتها مجموعة مسلحة تابعة لملك بلجيكا، ضد قبيلة “أوتا”، حيث قامت سلطات الولايات المتحدة الأمريكية بعرض “أوتا” داخل قفص حديدي بحديقة الحيوان بـ “برونكس” بعدما أنهوا تجاربهم عليه في المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي في مدينة نيويورك.
هذه المأساة، التي انتهت بحسب عدة مصادر بإطلاق “أوتا” النار على نفسه، بعدما تم تحريره، عقب انتشار خبر الفضيحة العنصرية، وتوسع الاحتجاجات وسط الرجال الدين السود، والذين رأوا أنها إهانة لعرقهم، حيث قال جيمس جوردون، المشرف على دار اليتامى في بوركلين: “نحن نعاني من اكتئاب العبودية بما يكفي، فلا داعي لإظهار واحد منا مع القردة”.
“عصور العبودية” ليس تعبيرًا مجازيًا، إنها الحقيقة التي يحياها أقزام الكونغو بعد أن سلبتهم الحكومة غاباتهم
عصر جديد من العبودية
الـ “البيغمي” أقدم شعوب الكونغو، وسكانها الأصليين، والذين عاشوا لآلاف السنيين، داخل غاباتهم الاستوائية، على الصيد وجمع الثمار، محافظين على ثقافاتهم وطقوسهم، وأرواحهم اللينة، باتوا يعانون الآن أهوال، لا تضاهيها إلا عصور العبودية.
“عصور العبودية”، ليس تعبيرًا مجازيًا، إنها الحقيقة التي يحياها أقزام الكونغو، بعد أن سلبتهم الحكومة غاباتهم وأصبحوا يعيشون في مناطق بالقرب من قبائل “البانتو”، الأطول قامة، والذين استعبدوهم للعمل في بيوتهم، مقابل الطعام، فيما يسمى “عبيد البيت”، وهم يقضون كل يوم على ما تبقى لـ “البيغميين” من غابات، بل ولا يسمحون لهم بولوجها إلا بإذن من رجال البانتو.
“أنا أملككم.. لا تنسوا ذلك”
يروي “بول رافاييل”، عن أفظع ما رآه داخل غابات الكونغو الاستوائية: “كان عددٍ من أعضاء عشيرة باكا إحدى عشائر الـ “بيغمي” يعملون في نشاط، في صنع أكواخ من فروع الأشجار، فيقطعون الشتلات من بين الأشجار ويدفعون النهايات إلى الأرض، ويثنونها لتشكل إطار لكل كوخ، ثم ينسجون حزمًا متشابكة من الأوراق الخضراء لخلق جسم مقاوم للمطر، وبينما كنت وصديقي “يسومبي”، عالم الأنثروبولوجيا الكاميروني والخبير في ثقافة الأقزام، نقيم خيمتنا الصغيرة، لمحنا ثلاثة مناجل تتلألئي، يحملها ثلاثة رجال من البانتو، فأقبل أحدهم، وهو رجل سمين ذو مظهر غاضب، ليخبرني بصوت منخفض أنه جوزيف بيكونو، رئيس قرية Bantu ثم توجه مخاطبًا أعضاء “باكا”: “أنتم الأقزام ملك لي، تعلمون ذلك، ويجب أن تفعلوا دائمًا ما أقوله، وليس ما تريدون أنا أملككم لا تنسوا ذلك أبدًا”.
يكمل رافاييل: “ حَنَى الأقزام رؤوسهم، عدا شاب تقدم إلى الأمام، كان واحدًا من أقزام “باكا” القلائل الذين التحقوا بالمدرسة الثانوية، توجه الشاب ناحية “جوزيف بيكونو” وصرخ فيه: “باكا أطاعتك دائمًا وغادروا دائمًا الغابة إلى القرية عندما أمرتهم بذلك لكن ليس الآن، ليس مرة أخرى أبدًا، من الآن فصاعدًا، سنفعل ما نريد”، صرخ نصف الأقزام في وجه “بيكونو”، لكن النصف الآخر بقي صامتًا”.
الموسيقى هي الخيط الذي يصل أرواح أقزام الكونغو بغاباتهم الاستوائية
الـ “بيغميون” والموسيقى
الموسيقى هي الخيط الذي يصل أرواح أقزام الكونغو بغاباتهم الاستوائية، وهم يمتلكون تعبيرات جسدية راقصة للرجال والنساء، تتكامل مع غنائهم المتعدد الأصوات، بإيقاعات متنوعة، فالرقص والموسيقى والغناء جزءًا من تكوين عوالم الـ “بيغمي” المسائية، حيث يتواصل من خلالها بالروح العظيمة، روح الغابة المعبودة.
يخبرنا “بول رافاييل” والذي حضر بعض الأمسيات الموسيقية، عندما كان ضيفًا على قبيلة باكا، وعاش معهم سحر موسيقاهم، إن لويس سارنو، عالم الموسيقى الأمريكي الذي عاش مع باكا لأكثر من عقد من الزمان، قال له: “إن موسيقى باكا هي واحدة من أمجاد البشرية الخفية، إنه شكل معقد للغاية من الغناء الكامل الغني بالصوت المبني على التناغم الخماسي المكون من خمسة أجزاء، لكن هذا شيء يمكن أن تتوقعه، لأن الموسيقى هي جوهر حياة باكا”.
والـ “بيغميون” يمدون من خلال مساءاتهم الموسيقية صلات قوية بين أجيال من الصبية والأطفال وبين تراثهم الثقافي، مع ما تبقى من غابات، طردوا من معظمها، حيث تحولت لمحميات حرم عليهم دخولها، بينما واصلت قبائل “البانتو” التي استعبدتهم، تقطيع الأشجار من الجزء المتبقي من الغابات.
نحو وضع أسوأ
عندما عاد “رافاييل” إلى وسط أفريقيا، بعد عشرة سنوات، وجد ثقافة “البيغميين” شارفت على الانقراض، ووجد الرجال قد أدمنوا شرب الكحول، والكثيرون منهم باعوا شباك الصيد والأقواس والسهام، وأصبحوا “نادرا ما يأكلون اللحوم “، وعندما سأل رافاييل أحدهم عن الصيد قال له: “عندما كنت هنا من قبل، كانت الغابة مليئة بالحيوانات، لكن صيادو البانتو نهبوا الغابة”.
كما وجد الظروف الاجتماعية والاقتصادية للأقزام، مروعة، وأصيب أطفالهم بأمراض سوء التغذية، فقد طردوا من غاباتهم وأجبروا على دخول المستوطنات في أراضي البانتو، والذين يرونهم كائنات أدنى من البشر، ليستمر فصلًا مرعبًا من فصول العبودية، في أبشع صورها ماثلًا بين أعين العالم.