توقفت عقول علماء الدين الإسلامي عن الدوران منذ قرون طويلة، وباتت تدور فقط في فلك الماضي فيما أجازه السلف وأقره الخلف، رافضين خوض معترك أساسي وهو الاجتهاد في استنباط أحكام دينية تتناسب مع العصر الذي يعيشونه، وتدور في فلك التطور الذي أحاط بهم، حتى أصبح الدين الإسلامي يبدو كشيء “صلب”، غير قابل أو قادر على التعامل مع المعطيات الجديدة، محاط بحفنة من أصحاب العمم واللحى الطويلة التي لا تهوى ولا تجيد شيء غير التمسك بالقديم.

القرون الماضية، بينت أن الأصوليين المسلمين كانوا مسيطرين على كافة المؤسسات الدينية، والمنابر التي يتلقى الناس منها العلم، ليتمكنوا من خلال من إطلاق سهام ألسنتهم على كل من يحاول أن يستنبط تفسيرا أو حكما دينيا جديدا، وحتى أولئك الذين تخرجوا من عباءتهم كان نصيبهم من التشكيك والتكفير والتحقير واحد.

الفرض الغائب

الاجتهاد عموما يعد نقيض التقليد، وعرفه علماء الفقه بأنه بذل مجهود علمي، ممن تتوفر فيه شروط الاجتهاد، للبحث والنظر والاستدلال، واستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، أو أنه بذل كل ما في الوسع لاستنباط الأحكام الشرعية للمسائل الرئيسية والفرعية التي تظهر في حياة الناس، أو إعادة النظر في أحكام بعض المسائل الفقهية؛ بحيث تصبح موافقة ومتناسبة مع الزمان والمكان والأحوال.

وورد في القرآن الكريم العديد من الأدلة على ضرورة الاجتهاد، منها قوله الله تعالى: “إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون”، و”كتاب أنزلناه إليك مباركا ليتدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب”، كما روي أن نبي الإسلام محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم، قال: “يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها”.

ومن الأدلة الدينية السابقة، يتبين أن الاجتهاد في استنباط أحكام دينية تتناسب مع العصر الذي يعيشه الناس، أمرا ضروريا وملحا، بل أنه واجب على أهل الدين، ويؤكد حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر”، ما يدل على أن الاجتهاد شيء حميد ومحبب، ويقي الدين شرور كثيرة.

لكن علماء الدين الإسلامي على مدى عقود عديدة، استغنوا عن ذلك، وتوقفوا تقريبا عن الاجتهاد في الأحكام الشرعية عند الفقهاء الأربعة، تاركين ضروريات العصور التي عاشوها، وآخذين القياس دائما على ما مضى، من قبيل “ليس في الإمكانِ أبدعُ ممَّا كانَ”، “ولم يَتركِ الأوَّلُ للآخِر شيئًا”.

 الأمر الذي وصفه الراحل الدكتور محمود حمدى زقزوق، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، بقوله: “التيار الأعظم من علماء المسلمين على مرِّ العصور وقف عقبة في طريق أي تجديد، ناهيك عن أي اجتهاد، ومن هنا تجمّد الفكر الديني، وتجمّد الاجتهاد”.

الحرب على المحاولين

 حراس الدين في العقود الحديثة، لم يقفوا عند اتباع فكرهم فقط، لكنهم أيضا سعوا إلى مهاجمة من يحاول التجديد، معتقدين أن الدين “جماد” غير قابل لتأويلات أخرى غير تلك التي عفا الزمان عليها، فمثلا الإمام محمد عبده، والذي يعد أبرز مفكري تيار حركة الإصلاح والنهضة في القرن التاسع عشر، أثارت فتاواه عداوة المدرسة المحافظة بالأزهر، فعاش في صراعات فكرية ودينية مع هذا التيار الغالب إلى أن وافته المنية في 1905.

الإمام محمد عبده كان حاملا لواء “الحداثة الدينية”، فحملت كتابته ورسائله التأكيد على استحالة التعارض بين الدين الإسلامي والعلم، وأن التوفيق مطلوب لإخراج الأمة من حالة اللبس والتشكيك، معتمدا على التأويل كوسيلة لتأكيد مصداقية الدين والعلم، علاوة على عدم تعارض الإسلام مع الحداثة، وهو ما يستوجب بالضرورة تأكيد مراجعة الخطاب الديني النقلي السائد، وغيرها.

آراء محمد عبده، حملت الأصوليين وأصحاب الفكر القديم المبني على النقل لا إعمال العقل، قادوا هجوما ضاريا ضده، وسعوا باستماته للخلاص منه، لكنه كان يؤمن بضرورة إصلاح الأزهر كمؤسسة دينية هامة، وكان لا يرى طريقاً للإصلاح الديني سوى بإصلاح الأزهر، ليقول جملته الشهيرة إن “بقاء الأزهر متداعياً على حاله محال، فهو إما أن يعمر، أو أن يتم خرابه”.

ويبدو أن الجزء الأخير في مقولة عبده، كان الأرجح، فالأزهر بقي مستمسكا كليا بمنهجه القديم، متخليا عن فريضة هامة في كونه الحارس الأول للدين لما له من مكانة في قلوب المسلمين في الشرق والغرب، لينجح توقعه في أن تنهض أوروبا، وتسبق الدول الإسلامية، مدللا على ذلك جملته الشهيرة خلال زيارته فرنسا: “وجدت هنا إسلاماً ولم أجد مسلمين، وفي ديار الإسلام وجدت المسلمين ولم أجد الإسلام، ويضيف وجدت المبادئ والقيم والمثل العليا، وكلها صفات يطالبنا بها الإسلام ووجدت أمانة وإتقانا وإخلاصا، وكلها سمات يحثنا عليها ديننا، وبذلك فهم مسلمون بلا إسلام”.

الجماعات المتشددة

عزز جمود الأزهر وعلمائه، خلال القرن الماضي، ظهور تيارات دينية أكثر تشددا وتمسكا بالماضي، في مقدمتها التيارات السلفية، والتي تتشبث بكل ما أوتيت من قوة بمظهر البدو القديم، من خلال الجلباب القصير، وشعر الذقن الكثيف الأشعث، وتحريم كل ما هو حديث، ونبذ التطور.

ومن السلفيين إلى أولئك الذين يتمسكون بفكرة الخلافة الإسلامية، والتي لم ترد في نص قرآني، أو حديث نبوي من الأساس، ولكنها ابتدعت بعد موت نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، بسبب ظروف اجتماعية وسياسية دفعت أصحاب الرسول إلى اتخاذ ذلك الموقف، مع عدم إيمانهم نهائيا بمفهوم الأوطان، والحدود، والسيادة.

ضرورة الإصلاح

الدكتور حمدي زقزوق قال في كتابه “الفكر الديني وقضايا العصر”: “لا جدال في أن هناك خللاً ما في الفكر الديني المعاصر، ولكن هذا الخلل ليس وليد اليوم، فهو خلل يمتد لقرون عديدة سابقة شهدت تراجع الحضارة الإسلامية. وقد انعكس هذا التراجع على الفكر الديني إن لم نقل إن تخلف الفكر الديني كان أحد أهم أسباب هذا التراجع”.

وتابع: “يدل على ذلك أن جهود العديد من المصلحين على مدى القرون الماضية قد انصبت على إصلاح الفكر الديني اقتناعاً منهم بأن إصلاح الفكر الديني هو السبيل إلى اصلاح الفكر بصفة عامة، الأمر الذي من شأنه أن ينعكس بدوره على أحوال الأمة في شتى أنحاء العالم الإسلامي، ولأول مرة نجد عالماً من المؤسسة الدينية الرسمية يعترف بحقيقة التراجع والخلل الذي أصاب الفكر الديني على مدار قرون سابقة”.

وأردف: ” لكن التيار الأعظم من علماء المسلمين على مر العصور وقف عقبة في طريق أي تجديد، ناهيك عن أي اجتهاد. ومن هنا تجمد الفكر الديني وتجمد الاجتهاد، ووقف الفكر الديني عند فترات التراجع الحضاري يجتر من تراثها ويعود باستمرار إلى ما أفرزته من جمود فكري متحجر، فالدين في عرف هذا التيار ليس في حاجة إلى تجديد أو اجتهاد جديد، في تحد واضح للمأثور النبوي”.

المشاهد السابقة، تبرز سبب الهجوم الضاري لشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، على رئيس جامعة القاهرة وأستاذ فلسفة الأديان الدكتور محمد عثمان الخشت، خلال مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي، والتي طالب خلاله الأخير بضرورة تجديد التراث الديني بما يتناسب مع مقتضيات العصر الحديث، وهذا لا يتضمن “ترميم بناء قديم” بل “تأسيس بناء جديد بمفاهيم حديثة” لتحقيق “عصر ديني جديد”، ليواجه بعاصفة من النقد من شيخ الأزهر، وسط تهليلات من أبناء الأزهر “الأغلبية الحاضرة في المؤتمر”، ومباركات للمتشددين على مواقع التواصل الاجتماعي.

مناهج الأزهر

الباحث في شؤون الحركات الإسلامية، سامح عيد، قال إن الأزهر يتبع مدرسة النقل، ولم يستطع تقديم خطاب تجديدي “كبير”، لافتا إلى أن المؤسسات الدينية في مصر، وخصوصا الأزهر يحتاج إلى خطة تطوير كبيرة لإحداث النهضة المأمولة، وأنه يجب تجديد مناهج الأزهر بما يتناسب مع العصر الحالي، وظروفه.

وأشار إلى أن أكثر ما قد يؤثر في الأزهر أن يقبل أديان أخرى، وأن تكون الدراسة به “لاهوتية بشكل أكاديمي علمي، بحيث يقبل “مسيحيين وملحدين، وغيرهم، بحيث يتم التدريس بشكل بحثي، متابعًا: “دراسة الأديان من وجهة نظرك فقط خاطئة، وأنه يجب أن تتم الدراسة من خلال المتخصصين في الأديان الأخرى”.