“بيبه عمي حمادة، بيبه.. بيبه جبلي طبج، بيبه.. بيبه مليان نبج، بيبه.. بيبه جالِي كُلي، بيبه.. بيبه جولتله ما اكولشي، بيبه.. بيبه اديه لامك، بيبه.. بيبه أمي بعيد، بيبه.. بيبه آخر الصعيد، بيبه.. بيبه والصعيد مات بيبه.. بيبه خلف بنات، بيبه”
إذا كان بمقدورنا أن نصف عملًا فنيًا، بأنه عملًا من الصعيد وإلى الصعيد، فلن نجد سوى فيلم “عرق البلح”، إحدى ثلاث روائع هي كل ما قدمه المخرج المبدع رضوان الكاشف، من الأعمال الروائية الطويلة، إضافة لأربعة أفلام تسجيلية، تُمثل جميعها مشروعًا فنيًا محوره المهمشين.
الصعيد المحاصر
“عرق البلح”، هو فيلم الكاشف الثاني، بعد فيلم “ليه يا بنفسج”، لكنه الحلم الذي ظل يحلم به ويراه مجسدًا أمامه، كان شريانًا ممتدًا من قلب “الصعيد المحاصر”، إلى وجدان وعقل الكاشف، وكلما طال الوقت وبَعِدت المسافات، كلما تعلق بحلمه، الذي طاف به لسنوات على مُنتجي السينما، وقرأته شريهان وعبلة كامل وتلبستهما روح “الصعيد المحاصر”، قبل سنوات من إنتاجه، إلى أن تحمست ماريان خوري لإنتاجه عام 1999.
“الصعيد المُحاصر”، هو المصطلح الذي استخدمه رضوان الكاشف، لوصف عوالم فيلمه “عرق البلح” في لقائه مع الإعلامية هالة سرحان، في برنامج “الليلة” على فضائية “art” عام 1999، عقب حصول الفيلم على الجائزة الفضية في مهرجان “قرطاج” الدولي بتونس، قبل عرضه جماهيريًا.
تكشف أحداث فيلم عرق البلح، عن عمق فلسفة الكاشف وانحيازاته، إذ يروي معاناة ابن الصعيد المهمش
سقوط النخلات وانكشاف الرعب
يتناول الكاشف في “عرق البلح”، والذي ألفه قبل سنوات من إنتاجه، الحياة داخل قرية نائية بجنوب الصعيد، يعيش أهلها في حالة شديدة من التهميش والفقر، تحت وطأة العوز، يستجيب جميع رجال القرية لصوت الغريب الذي حط على القرية ليفتح لهم باب “الهجرة المؤقتة”، إلى دول الخليج، للعمل، تاركين النساء وحدهن، مع شيخ عجوز، وصبي لم يبلغ بعد، في “قريةٍ رحل عنها الظل حين سقطت نخلاتها العاليات، وانكشف رعب الشمس”.
تكشف أحداث “عرق البلح”، عن عمق فلسفة الكاشف وانحيازاته، إذ يروي معاناة ابن الصعيد المهمش تحديدًا، في منتصف السبعينيات، حيث يهاجر حازمًا أمتعته راحلًا نحو مستقبل مجهول، على أمل انتشال أهله من الفقر، ليعود بخيباته، باحثًا عن روحه المُهدمة، في محاولة لترميمها، ويُمثل “أحمد” ذلك الصبي المُقبل على الحياة المستقبل، الذي يرى سقوط النخلات العاليات ويشاهد انكشاف رعب الشمس.
المهمشون حاضرون في سينما الكاشف، منذ البداية ففي فيلمه الروائي الأول “ليه يا بنفسج” عام 1993
المهمشون وسؤال البهجة
المهمشون حاضرون في سينما الكاشف، منذ البداية ففي فيلمه الروائي الأول “ليه يا بنفسج” عام 1993، الحاصل على جائزة أحسن فيلم، من مهرجان السينما العربية بباريس، وجسد شخصياته، ببراعة، فاروق الفيشاوي ولوسي وحسن حسني وأشرف عبد الباقي ونجاح الموجي، الذي قدم دورًا استثنائيًا في تاريخ مسيرته الفنية، وشارك الكاشف في كتابة السيناريو والحوار له، مع كاتب القصة سامي السيوي، والمستوحاة من رواية “باهيا” للبرازيلي “جورج أمادوا”.
يتناول الكاشف قضية التهميش، الاجتماعي، في تلك الحارة الفقيرة المنسية، التي تقع خارج اهتمام السلطة، لكن الحارة تبقى تحت أعين السلطة، فتحضر بعنجهيتها الجاهلة، لحفظ النظام، عندما يسرق نجاح الموجي، “ديكًا” فيأتي المخبر، لاسترجاعها، لكن بعضٍ من الحارة ليس مستكينًا، فهو قادر على مواجهة السلطة التي همشتهم، حتى ولو بالسخرية.
“ليه يا بنفسج”، فيلمًا مهزومًا ومنتصرًا في أبطاله، يعيدهم حلم الهروب من الحارة إلى المهرب إليها، عاديًا لدرجة الأسطورة، رتيبًا إلى حد النضارة، فيلمًا هزم رمز النجاح عند ثلاثي أبطاله “أحمد وسيد وعباس” المتمثل في صديقهم “علي بوبي”، الذي يعود قتيلًا إلى الحارة، لكي يهزم الوهم بداخلهم، فيلمًا يجعل من الهامش مهما بلغ بؤسه وخيباته، منطلقًا للابتهاج، للتبشير بالأمل، ليجعلنا نعود متسائلين: “ليه يا بنفسج بتبهج وانت زهر حزين”.
الكاشف أحد رموز مدرسة “الواقعية السحرية” في السينما المصرية، كما سماها الناقد كمال رمزي
سحرية عوالم المهمشين
يعود الكاشف، في فيلمه الثالث والأخير، “الساحر”، عام 2001، ليرسم صورة أخيرة عن سحرية عالم المهمشين، هذا العالم الغارق في الواقعية، بحلول سحرية، يبتكرها “منصور بهجت” بطل العمل الذي جسد شخصيته بعبقرية شديدة الفنان محمود عبد العزيز، فالكاشف أحد رموز مدرسة “الواقعية السحرية” في السينما المصرية، كما سماها الناقد كمال رمزي.
“الساحر”، محاولة أخيرة من الكاشف، ليُثبت أركان مشروعه السينمائي والفني، مشروع المهمشين، هذه التجربة الاستثنائية في تاريخ السينما والفن المصري، والتي بدأها عام 1984 بالفيلم القصير “الجنوبية” مشروع تخرجه من المعهد العالي للسينما، والحاصل على جائزة العمل الأول من وزارة الثقافة عام 1988، وتلاه بأفلامه التسجيلية الثلاثة، الورشة، ونساء من الزمن الصعب، والحياة اليومية لبائع متجول.
كانت أعماله من أهم المحطات في تاريخ نجوم كبار مثل الفنان محمود عبد العزيز في فيلم “الساحر”، ونجاح الموجي في “ليه يا بنفسج”، وعبلة كامل في “عرق البلح”
سلامًا إلى الجنوبي المطارد بخبيئته
رسم الكاشف، والذي تحل ذكرى ميلاده هذه الأيام، صورة مُعبرة عن حياة المُهمشين مع اختلاف القصص والمُجتمعات التي تناولها في مجمل أفلامه، كما نجح في أن يلمس داخل الفنانين الذين عملوا معه، مُنطلقات إبداعهم، للدرجة التي ستظل تبحث لممثلة مثل شريهان، عن دور يضاهي الروعة التي أدت بها دور “سلمى”، أو الفنانة منال عفيفي في دور “شفا”، ورقصتها المُلتهبة، وحتى الوجه الجديد آنذاك محمد نجاتي، ستبحث كثيرًا في أعماله اللاحقة لمدة ثلاثين عامًا، حتى تجد أداءً يكافئ دور “أحمد” الذي أداه في “عرق البلح”، كما كانت أعماله من أهم المحطات في تاريخ نجوم كبار مثل الفنان محمود عبد العزيز في فيلم “الساحر”، ونجاح الموجي في “ليه يا بنفسج”، وعبلة كامل في “عرق البلح”.
وبالطبع لن نستطيع التحدث عن “كادرات” رضوان الكاشف، فهو ينحت مشاهده كتماثيل خالدة، يصنع بيديه كل تعبير في وجوه أبطاله، وكل حركة لأجسادهم، ويستعرض حتى أنفاسهم المكتومة، على وجه الصورة، إنه سر الخبيئة التي حملها الكاشف بين ضلوعه، فسلام إلى من حرمنا الموت من استكمال مشروعه الفني، مشروع أهل الهامش، سلامًا: “إلى الجنوبي المطارد بخبيئته”.