“خرج ولم يعد”، عنوان فيلم شهير لـ”محمد خان”، ولكنه يحكي في حبكته أحد القصص المنسية، التي قد تقابلها كل يوم ولكن لا تبصر تفاصيلها، إذا فوجئت “صفية”، 33 عامًا، بخروج زوجها من المنزل غاضبًا ذات يومًا، بسبب ضيق الحال، تاركًا ورائه أم مريضة، و3 أولاد، أكبرهم 5 سنوات، مما دفعها للنزول لسوق العمل و الانضمام لطابور الأمهات المعيلات في مصر، القائمات بعشرات الأدوار دون أن يتوقفن لالتقاط الأنفاس أو يلاحظهن أحد .
وتشير الأرقام الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، إلى أن 3.3 مليون أسرة مصرية تعولها نساء، ما يعني أن ما لا يقل عن 15 مليون مصري تضمن بقاءهم على قيد الحياة نساء، من دون إسهام الرجال، وأغلب الظن أن عددهن أكثر من ذلك بكثير، ذلك إذا وضعنا في الحسبان أن بعض المناطق يصعب الوصول لها وإحصاء تعداد من بها، رغم ذلك تمضي قصصهن وحكاياتهن من دون أن يدركن هن أنفسهن أنهن البطلات المعيلات.
3.3 مليون أسرة مصرية تعولها نساء
ويقصد بالمرأة المعيلة بأنها كل امرأة تعيل نفسها وأطفالها أو أفراد أسرتها لغياب العائل؛ سواء لإعاقة صحية تمنعه عن العمل، أو لوفاته، أو لهجره لها، أو لوجوده في السجن، أو لتعاطي المخدرات، أو لامتناعه عن الإنفاق.
“نعاني في صمت”
وبصوت ثقيل شابه الكثير من الوجع، تسرد “صفية”، اسم مستعار، تفاصيل معاناتها، إذ تزوجت في عمر الـ 18، فوالدها لديه غيرها 3 بنات و4 ولاد، وقضايا التعليم وغيرها رفاهية لأمثالها، لذا تزوجت أول من طرق بابها، متأملة أن تتغير حياتها للأفضل، إلا أن الزوج خيب أملها، فهو أحد عمال البناء، يعمل يومًا ويترك 10 أيام، وبعد 7 سنوات من الزواج، عانت فيها ضيق الحال والإهانات، زهد الزوج في حياته وغادرها وأولادهما.
تحكي “بصرف على أمه وولاده ومش عايزة أطلب الطلاق”، حالها مثل حال النساء المعيلات، تخشى نظرة المجتمع من لقب “مطلقة”: “كلمة متزوجة تحمي النساء في مجتمعٍ قاسٍ عليهن”- على حد تعبيرها.
60% في المئة من نساء مصر المعيلات أميات
ولا تختلف حكاية “أمينة” أو “أم محمود”، كما يناديها النّاس عن “صفية” كثيرًا، فكلاهما عانى من أشباه الرجال وقسوة “لقمة العيش”، إذ تركها زوجها بعد عاميين من الزواج، بولدين، وعشرات الديون، “عرفت أنه سافر في المراكب اللي بتروح إيطاليا، قبل ما يمشي قال ليّ إن اللي شبهنا المفروض ميخلفوش ولا يتزوجوا، وسبني ومشي”، بحسب قولها.
وتستكمل “أم محمود”، أنها عانت في حياتها كثيرًا قبل زواجها، فهي تعمل منذ 15 عامًا مع والديها في مقالب القمامة بالقليوبية، ورغم صغر سنها إلا أن خطوط “الحياة” تركت آثرها عليها، فتبدو أكبر من عمرها الحقيقي: “أصحو من الفجر وبرجع المغرب، واتحصل على ملاليم”، موضحةً أن ما تكسبه من عملها يكفي قوت يومها وأولادها بصعوبة، لكنها مازالت تعمل رغم المخاطر الجسيمة التي تواجهها.
تذهب لعملها بين أكوام القمامة، حيث تجمع المواد البلاستيك والكرتون، لبيعها، مستخدمة يدها للتنقيب، ما يعرضها لمخاطر وأمراض خطيرة، “إيدي بتتجرح تقريبًا كل يوم، غير الأمراض الجلدية والحساسية”.
وتجدر الإشارة إلى أن 60% في المئة من نساء مصر المعيلات أميات، بمعنى آخر، فإن أمية المرأة لها علاقة مباشرة بحظوظها المستقبلية، من حيث الزواج والأسرة واضطرارها إلى القيام بمهمتي الأب والأم في آن، دون شكوى من ذلك..
وتأتي بعد النساء الأميات في تعداد المعيلات الحاصلات على مؤهلات متوسطة بنسبة 17.6 في المئة، ثم الحاصلات على مؤهل جامعي 8.5 في المئة، والنسبة الباقية لصاحبات المؤهلات التعليمية الأعلى.
مؤهلات عالية
ولا يقتصر مصطلح “الأمهات المعيلات”، على أصحاب التعليم المنخفض أو الأميات، فهناك الكثير من خريجات الجامعات و صاحبات المهن المرموقة، يتكفلن بأسرهن ويندرجن تحت مظلة “المعيلات”، حيث تبقي المعاناة واحدة، حتى إذ اختلفت الظروف.
وتقول “سارة أحمد”، أم معيلة من 3 سنوات، لديها طفلة – عامين، حاصلة على بكالوريوس علوم، بعد انفصالها عن زوجها تعلمت تفصيل ملابس الأطفال وأخذت “كورسات” ودورات عبر الإنترنت، وأسست “جروب” لعرض تصميماتها الخاصة على موقع “فيسبوك”، فهي تهوى الأعمال اليدوية، وبعد زواجها توقفت عن ذلك، ثم عادت بعد الطلاق.
أرامل والمطلقات 83% في الحضر، 70% في الريف، من نسبة النساء المعيلات بمصر
“عملت الجروب وكبر وبدأت استلم طلبات من محافظات تانية، وعشان هوايا أنشأت قناة عليىالوتيوب لتعليم التفصيل”، تضيف “سارة”، أنها تعثرت في بداية عملها ولكن مع الصبر وتشجيع أصدقائها، بدأ عملها في التوسع وتوفير أموال تغطي احتياجاتها، وابنتها.
بينما، آية محمد، خريجة دبلوم تجارة، صاحبة الـ 27 عامًا، تعاني كأم معيلة، تتكفل بمصاريف دراسة أختها ونجلها المريض، الذي يُعاني من تأخر في الكلام، ومشاكل في المخ، تحتاج لجلسات تخاطب وعلاج شهري، ذلك بجانب المصاريف اليومية.
وتحكي “إيمان” أنها عملت في مهن عدة بعد انفصاله عن زوجها، لكنّ معظمها داخل المنزل، لظروف ابنها، و مع أزمة فيروس كورونا توقفت معظم الأعمال، لتلجأ للعمل “أون لاين”، لافتةً إلى أن خبرتها في التسويق دفعتها لشراء الملابس من المصانع ومن ثم عرضها على صفحات “فيسبوك” محققة هامش ربح بسيط.
ويمثلن الأرامل والمطلقات 83% في الحضر، 70% في الريف، من نسبة النساء المعيلات بمصر، بحسب الجهاز المركزي للمحاسبات.
نظرة سلبية
وفيما تتكبد تلك النساء معاناة مستمرة، تحملهن النظرة الاجتماعية السلبية تجاههن عبئًا إضافيًا ثقيلاً، بخاصة تلك النساء اللاتي يعشن في بيئات فقيرة، إذ ترى “صفية”، التي تسكن في منطقة الجيزة، أن الانتقادات التي تواجه أمثالها من “النساء المعيلات” تعتبر ضغطًا إضافيًا على معاناتهن اليومية، “بسمع كلام كتير من جيراني لو رجعت في وقت متأخر”، إذ تعمل “خادمة” في بيوت عدة، ما يتطلب أحيانًا التأخر عن مواعيد عملها، ما يسبب لها بعض المضايقات .
أوضاع غالبية تلك النساء لم تتحسن كثيرًا، بسبب تدني الأجور
نفس الأمر، تعاني منه كل من “آية” و”سارة”، إذ يحملا لقب مطلقة، ما يعتبر وصمًا اجتماعيًا، إذ تروي “آية” موقفًا حدث لها بعد انفصالها مباشرة، عندما كانت تقيم في القاهرة، أن اضطرت في أحد الأيام ترك طفلها عند جارتها في الشقة المجاورة لها، للذهاب إلى السوق، وعند عودتها قابلها زوج جارتها وطلب منها بشكل مباشر عدم اللجوء إليهم، أو التعامل مع زوجته بعد الآن: “قال ليّ بالنص إنتي مطلقة ومش عايزين شبهات”.
وعلى الرغم من الجهود الرسميّة والأهلية المبذولة خلال السنوات القليلة الماضية، إلا أن أوضاع غالبية تلك النساء لم تتحسن كثيرًا، فتدني الأجور والمستوى التعليميّ دائمًا ما يقف عقبة أمامهن .