يعد اللبنانيون أكثر شعوب الارض هجرة وشتاتا في بقاع المعمورة، وتشير الأرقام إلى أن الشعب اللبناني ينتشر في بلدان العالم شتي بل إن بعض المناطق تضم لبنانيون أكثر من الموجودين في لبنان نفسها، ويبدو أن ما تبقى من اللبنانيون على موعد جديد مع الهجرة، حيث تلقي الأزمة الأخيرة بظلالها وتدفع الكثير منهم إلى اتباع طريق السلف في ترك لبنان إلى مكان آخر على وجه الأرض.
ويشير آخر إحصاء أجرته السلطات اللبنانية في أواخر العام الماضي إلى وجود 4.8 مليون نسمة في لبنان منهم 80% من اللبنانيين بإجمالي 3.8 مليون لبناني، و20% من جنسيات أخرى أغلبهم من الفلسطينيين والسوريين بما يقارب مليون إنسان.
كان الفينيقيون القدماء أجداد اللبنانيين، أقدم أمة تُجارية في التاريخ
الهجرة اللبنانية تضرب بجذورها في التاريخ
لبنان وشرق المتوسط، أقدم منطقة تجارية في التاريخ الإنساني والتي شملت مصر القديمة، وبلاد الشام، ومن ورائها العراق مع سواحل البحر المتوسط الشمالية في روما واليونان، كان الفينيقيون القدماء أجداد اللبنانيين، أقدم أمة تُجارية في التاريخ، حملوا لواء نقل التجارية بين حضارات المنطقة القديمة، وأنشأوا الأساطيل البحرية والمُستعمرات في كل بقعة حطوا الرحال فيها أو نقلوا التجارة إليها.
قرطاجة القديمة، كانت درة التاج التي أنشأها الفينيقيون، على الساحل الجنوبي الغربي للمتوسط في مكان تونس الحالية، والتي استمرت حتى قبل الميلاد بسنوات وكادت أن تكون سيدة البحار وتكون إمبراطورية تحتل ساحل المتوسط بأكمله، ودخلت في صراع عنيف على السيطرة مع روما حتى خسرت الحرب وحلت روما مكانها كإمبراطورية متوسطية.
كانت أولى الهجرات الكبرى للبنانيين في العصر الحديث باتجاه القارة المُكتشفة حديثًا ومُلتقي المُهاجرين من الأمريكتين
الموجة الأولى
كانت أولى الهجرات الكبرى للبنانيين في العصر الحديث باتجاه القارة المُكتشفة حديثًا ومُلتقي المُهاجرين من الأمريكتين، حيث ازدهرت الهجرة اللبنانية إليها في الفترة من 1860 وحتى 1920، خاصة من طائفة الموارنة، ويعزو بعض المؤرخين ازدهار هجرتهم إلى الاضطهاد الذي تعرضوا له في ذلك الوقت علي يد الدروز والفتنة الكبرى بين المسلمين والمسيحيين في لبنان عام 1860، لكن يتفق الغالبية منهم على أن الأسباب الحقيقية كانت الظروف الاقتصادية المأساوية التي تعرض لها لبنان في ذلك الوقت تحت الاحتلال العثماني.
وكانت أمريكا في ذلك الوقت، قِبلة المهاجرين من كل العالم، وطموح للثروة والذهب، لكن اللبنانيون اشتهروا في الأمريكتين بـ “تجارة الشنطة” وأطلق عليهم وقتها “الكشة” وهي كلمة برتغالية تعني الصندوق الذي يبيع حاملة كل شيء من السجائر إلى الأمشاط والأبر والخيوط والصابون والجوارب والعطور والملابس.
اشتهر اللبنانيون بالتجارة، خاصة أن أغلبهم لم يكن يملك المال للبدء في أنشطة تُجارية كبيرة، لكن تلك المنتجات البسيطة كونت ثروات هائلة بلغت أن أغني رجل في العالم حتى سنوات قليلة مضت كان من أصول لبنانية وهو المكسيكي “كارلوس سليم”، والذي ظل لسنوات خلال العقد الماضي يحمل لقب أغنى رجل في العالم.
الهجرة الكبرى
تسببت الحرب الأهلية اللبنانية، والتي بدأت عام 1975 واستمرت حتى بداية التسعينات، في نزوح الكثيرين من لبنان، لكن الغريب هو استمرار الهجرة في التزايد بعد انتهاء الحرب، وهو ما يعزوه الكثير من اللبنانيين إلى صعود الليبرالية والتي فتحت آفاقًا للتجارة التي يتميز بها اللبنانيون في العقد الأخير من القرن العشرين، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وسيادة منهج التجارة الحرة للعالم.
التعداد السكاني ممنوع في لبنان حتى لا تُثير الأوزان الطائفية مُشكلات بين اللبنانيين
تقديرات متفاوتة
التعداد السكاني ممنوع في لبنان، حتى لا تُثير الأوزان الطائفية مُشكلات بين اللبنانيين في حالة وجود تقدير رسمي لأعداد السكان المنتمين لكل طائفة، لكن آخر إحصاء رسمي في العام الماضي للسكان دون إعلان الوزن الطائفي والذي تم بتمويل من الاتحاد الأوروبي كشف عن إقامة 3.84 مليون لبناني فقط في لبنان.
أما تقدير أعداد المهاجرين فيتفاوت من تقديرات تصل من 7 إلى 15 مليون مهاجر لبناني في الخارج حسب كتاب “هجرة اللبنانيين 1850 – 2018” للباحث اللبناني “بطرس لبكي”، والذي يؤكد أن عدد المهاجرين اللبنانيين يبلغ 7 ملايين فقط، منهم 2.35 مليون هاجروا بعد الحرب الأهلية أغلبهم من المسلمين، بعد أن سبقهم المسيحيون في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، إذ بلغت نسبة المهاجرين المسلمين بعد الحرب أكثر من 75%، بينما اقتصرت الهجرة المسيحية علي 23% من إجمالي أعداد المهاجرين.
بلغت ذروة تحويلات اللبنانيون في الخارج ما يقارب عشرة مليارات دولار عام 2014
تحويلات اللبنانيون في الخارج
اعتاد اللبنانيون، على الحياة في مستوى تتطلع إليها شعوب كثيرة في المنطقة تقترب من مستويات الحياة في بعض البلدان الاوروبية والبلدان الخليجية الغنية بالنفط، ليس بسبب الانتاجية الكبرى وقوة الاقتصاد اللبناني، بل اعتماد أغلب المُقيمين على التحويلات النقدية من المُهاجرين اللبنانيين في الخارج، حيث يستطيع كل مقيم أن يعتمد على تحويلات شخصين علي الأقل من أسرته يعيشون خارج لبنان في أقل التقديرات، وهو ما جعل لبنان أحد أغلى دول المنطقة في أسعار السلع والخدمات أيضًا.
بلغت ذروة تحويلات اللبنانيون في الخارج ما يقارب عشرة مليارات دولار عام 2014، قبل أن تلوح بوادر الأزمة الحالية والتي تراجعت خلالها التحويلات إلى 7.1 مليار دولار عام 2018، قبل أن تنخفض مجددًا، وفقًا لتقديرات البنك الدولي إلى 7.3 مليار دولار عام 2019، ويتوقع أن تصل الي 6.5 مليار دولار هذا العام.
ووفقًا لبيانات البنك الدولي السابقة، يأتي لبنان في الترتيب الـ 22 بين أكثر البلدان التي تتلقى تحويلات نقدية في العالم، لكن بسبب قلة عدد السكان والتي لا تتجاوز 4 ملايين نسمة، يصبح اللبنانيين أكثر شعوب العالم تلقيًا للأموال من الخارج بعد قسمتها على عدد السكان.
ونتيجة اعتماد اللبنانيون على التدفقات النقدية الخارجية، فأثرت عليهم الأزمة الاقتصادية الحالية، والتي بدأت بوادرها من سنوات بانخفاض تحويلات اللبنانيين في الخارج، خاصة بعد تراجع أسعار البترول والتي أدت لانخفاض كبير في تحويلات مئات الآلاف من اللبنانيين المقيمين في الخليج العربي.
كما أعلن الشارع اللبناني في مظاهراته منذ العام الماضي، الفساد الكبير الذي تُعاني منه البلاد والذي تمثل في تهريب كميات كبيرة من النقد الأجنبي للخارج، والذي يتهم اللبنانيين الطبقة السياسية الحاكمة والتي لم تتغير وجوهها منذ سنوات طويلة، بالمشاركة فيه وإدارته بشكل منظم.