“يا فتّاح يا عليم يا رزّاق يا كريم”.. تسمعها وأنت مارٍ أمام مقهى “الجحش” الشعبيّ في منطقة الوراق شمال الجيزة، من عشرات العمال الذين تكتظ بهم المقهى الأشهر لكل أفراد العمالة اليوميّة، يرددونها في انتظار رزق يومٍ جديد.
فى الـ6 صباحًا- يجلس العمال على المقهى، وأحيانًا على رصيفه، أمامهم أدواتهم “العتلة، والمطرقة”.
ما أن يلمح أحدهم سيارة ملاكي أو شخصٍ يتوقف أمام المقهى، حتى ينقضوا عليه في مشهدٍ يدعو للرثاء إلى حالهم.
يشكو بعض الزبائن من ارتفاع أجرة العمال
معارك أحيانًا تصل للاشتباك بالأيدي، حتى يفوز أحدهم بـ”الزبون” ويعرض كل منهم عليه أسعارٍ أقل من زميله.
يُمكنّك رصد فتح عاملاً لباب سيارة، ويطلب من سائقها “الزبون” الانطلاق سريعًا إلى الوحدة السكنية المطلوب تكسير أحد جوانب الحوائط بها، أو حمل رمال وطوب وأسمنت إليها، مشيرًا إلى “الزبون”: “سيبك منهم متضيعش وقت معاهم”.
ينطلق السائق- وسط سُبّاب العمال لزميلهم الفائز بـ”الشغلانة”: “أصلك ندل وقليل الأصل”.
أحيانًا تُحل هذه الخلافات بين العمال، بتنظيم أدوار لهم بحيث يأت “الزبون” إليهم، ويأخذ عاملاً وقع عليه ترتيب الانطلاق إلى العمل.
يشكو بعض الزبائن- من هذه الحالة “ساعتها العامل بيفرض الأجرة اللي هو عاوزها.. لأنه ضامن إنّ غيره مش هينفاسه”.
من الفيوم إلى الجيزة
هاشم العمروسى، رجل ستيني، منحي الظهر، لم تجد الراحة سبيلها إليه يومًا ما، قبل ما يزيد عن الـ40 عامًا، وهو من رواد مقهى الجحش، وأصبح وجهًا مألوفًا لكل الزبائن، وأصحاب شركات المقاولات الذين ينادوونه بـ”عم هاشم”، ويطلبونه في معظم الأعمال حتى وأنّ لم يقو عليها، من باب الرأفه إلى حاله، وسنه الكبيرة.
يتقاضى “العمروسي” يوميّة من 100 لـ500 جنيه
“العمروسي”- الأب لـ6 أولاد- بينهم 3 فتيات، يحكي أنّ الفيوم “مفيش فيها شغل”، واضُطر للحضور إلى مقهى الجحش، ذاع الصيّت، بعدما سمع عنه من قبل صديق له بلدياته، إذ قال له: “في قهوة بالوراق، تقعد عليها والشغل هيجي لحد عنك”.
منذ سماع الرجل لهذه الكلمات، وهو من عمال اليوميّة دائمي الجلوس على المقهى، لم يغادرها سوى لإجازة أسبوعين كل 6 أشهر، أو لظروف قهرية، أو زواج أحد من أبنائه.
أضحى المقهى جزءًا لا يتجزأ من حياة “العمروسي”، يقول لـ”مصر 360”: “كل يوم أصحو من نومي 6 صباحًا، وآتي المقهى وأطلب الإفطار (فول وفلافل)- وكوبًا من الشاي”.
هكذا يبدأ الرجل يومه- وينتظر رزقه حين يجيئه “ساعات بقعد على القهوة لحد الساعة 8 بالليل، لحد ما زبون يجيي يطلبني”.
حتى لو ذهب “العمروسي” مع “زبون” يعاود إلى المقهى، بعد انتهاء مهمة العمل “بروح البيت على النوم، أصليّ مليش أهل هنا، ولا أصدقاء أو أقرباء أتحدث إليهم”.
ليس للرجل صاحب الـ60 ربيعًا- عملاً محددًا “بشيل رمل طوب أسمنت، بمعنى أدق بشتغل أي شغلانة، أحيانًا بيطلب منيّ أكسر حيطان، ودي شغلانة صعبة قوي”.
لم يرض الرجل لأحد من أولاده الذكور، الحضور إلى الجيزة، ليخلفه في المهنّة الشاقة “دي شغلانة هده حيل”.
يأبى “العمروسي” أن يرى أولاده ما عاناه “عاوزهم أحسنّ منيّ في كل حاجة”، يأمل أن يصبح أحدهم طبيبًا، والثاني مهندسًا، والثالث ضابطًا، مشيرًا إلى أن أكبرهم في السنة الثانية بالثانوية العامة.
أحيانًا يواجه الأب الستينيّ، بطالة تجعله يستدان من زملائه على المقهى، وهم على حد قوله “عاوزين اللي يسلفهم”.
وخلال فترة حظر التجوال، وإغلاق المقاهي، بسبب فيروس كورونا، كان الرجل يفترش رصيف المقهى في انتظار الزبائن، لكن لأول مرة – لم يجد زبونًا بالأسابيع.
“النّاس كلها كانت خايفة تنزل من بيتها أصلاً”.. يشير إلى الأيام الماضية، مؤكدًا تحسن الأحوال في الوقت الراهن “بعد انخفاض حالات كورونا حركة الشغل بدأت ترجع”.
يتقاضى “العمروسي” يوميّة من 100 لـ500 جنيه- حسب “الشغلانة” التي يؤديها، ورغم ارتفاع الأجرة أحيانًا إلا أنه “بشتغل يوم و10 لأ”.
وأحيانًا يرأف بحال شاب يُريد حمل الأثاث إلى شقته “يعني ممكن أخذ 100 جنيه على الشغلانة”، مستدركًا “الشاب بيكون جايب كذا عامل، وبالتالي هيدفع فلوس لكل منهم، مش بكون عاوز أكسر وسطه”.
تاريخ المقهى
أنشأ المقهى قبل 60 عامًا على الأقل، بدايته كانت “دكتين” يجلس عليهما العمال والفلاحون، للاستراحة، بفسحة أمام منزل إبراهيم إسماعيل الجحش، وريدًا رويدًا عرف النّاس طريقهم إلى جلسة العمال، حين يطلبوا أحدًا لحمل أشياء أو دهان منازلهم، وما إلى ذلك.
عمال أصبحوا أصحاب عقارات ومطاعم وكافيهات
يقول عمر الجحش، حفيد مؤسس المقهى، إن العائلة قررت تأسيس المقهى بعدما ذاع صيته، لدرجة أن النّاس عرفته بمحافظات قبلي وبحري، وبدأ يتوافد عليه العمال من خارج الوراق ومحافظة الجيزة، لاسيما من محافظات الصعيد.
يضيف “الجحش” أّنّ هناك عمالاً بدأوا من هنا رحلة كفاحهم، وأصبحوا الآن أصحاب مطاعم، ومقاهٍ، ومنهم “سماسرة” بنوا أبراجًا، ولا يزالون إلى الآن زبائن للمقهى.
40 بالمئة من العاملين يمثلون العمالة غير المنتظمة
يحكي عن ارتباط العمال بالمقهى، فيقول إنّهم أحيانًا لا يدفعون حساب المشروبات والشيشة غير بالأسبوع أو الشهر، أو “لما يفرجها ربنا”- حسب حركة الشغل معهم، بمعنى أدق يعتبرون المقهى بيتهم.
عمالة غير منتظمة
هؤلاء العمال- لا يندرجون تحت أي مظلة تأمينية أو اجتماعية، وقدر الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، عدد العمالة غير المنتظمة في مصر، بنحو 40 بالمئة من العاملين في البلاد، البالغ عددهم 30 مليون.
كورونا وتدهور الحال
بعد انخفاض إصابات فيروس كورونا، وقرار الحكومة بإعادة فتح المقاهي، عاود مصطفى عمر، وهو شاب ثلاثيني، يعول 3 أبناء، الجلوس على مقهى الجحش، وظل يؤكد أن “جيبي مدخلشه جنيه واحد”، مشيرًا إلى أن أحدًا لم يطلبه إلى عمل طيلة الآونة الأخيرة، ولم يستطع خلالها إرسال المصروف الشهري لأسرته التي تقطن محافظة سوهاج، ويلفت إلى أنه لم يكن يستطيع شراء وجبة غذاء لنفسه.
منحة الـ500 جنيه حديث المقهى
“مش عارف أحصل على المنحة، أروح لمين”.. هكذا يسئل معظم العمال على المقهى، بعضهم البعض، منذ قرار الحكومة بصرف منحة قدرها 500 جنيه، لكل العمالة غير المنتظمة، أصبح عدم وجود قاعدة بيانات للعمال، مشكلة مؤرقة.
لذا أصبح على العمال تسجيل أنفسهم أولاً- بحسب عامر عيد، “الموضوع دا بيأخذ وقت، وقدمنا مرة واتنين، ومفيش جديد”.
وفي تصريحات صحفية، قال محمد سعفان، وزير القوى العاملة، إن نصف مليون عامل غير منتظم سجّلوا بياناتهم بالفعل، وصرفوا منحة الـ500 جنيه.
تأثير أزمة “كوفيد-19” على رواد “الجحش”
خبراء الاقتصاد يرون أن تأثير أزمة الفيروس التاجي “كوفيد-19″، لا يظهر تأثيرها على العمالة غير المنتظمة- في المستقبل القريب، وأن التأثير سيكون جليًا بعد انتهاء الأزمة، لمعرفة ما إذا كان الفيروس موسميًا أم مؤقتًا- الأمر الذي يحكي عنه أصحاب مقهى الجحش، أن العمال حالهم يرثى له، معظهم اقتراض أموالاً، ومنهم من باع أثاث منزله، أو “ريح دماغه” وعاد إلى مسقط رأسه سواء في قبلي أو بحري.
السيسي يخصص 100 مليار جنيه، لتمويل خطة الدولة “الشاملة” للتعامل مع الوباء
تجمعات كبيرة
رغم تحذير وزارة الصحة والسكان، من التجمعات وضرورة البُعد مسافة لا تقل متر، إلا التكدس سيد الموقف داخل مقهى الجحش.
يتحدث حامد أبوزيد، أحد العمال عن ذلك، بغضبٍ “يعني إحنا هنموت من الجوع، هنفكر في صحتنا”.
وعاود معظم المقاولين، لاصطحاب العمال ومن بينهم “أبوزيد” إلى مواقع العمل.
وكان الرئيس عبد الفتاح السيسي، خصص 100 مليار جنيه، لتمويل خطة الدولة “الشاملة” للتعامل مع الوباء.