أعادت مشاهد استقبال اللبنانيين للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بعد 3 أيام من الانفجار الذي هزّ العاصمة بيروت، وأسفر عن أكثر من 100 قتيل و6 آلاف جريح، ومطالبتهم بعودة الانتداب الفرنسي، للأذهان الاستقبال الحافل الذي استقبل به أكثر من مليون جزائري قبل 17 عامًا الرئيسي الفرنسي الراحل، جاك شيراك، في شوارع العاصمة، مع هتافات: “تحيا فرنسا”، ومن المفارقات بأن في نفس عام زيارة “شيراك” داهمت القوات الأمريكية العراق، وسط ترحيب بعض العراقيين، فهل يعيد لبنان عقارب الساعة إلى الوراء؟!.
ووقع انفجار مرفأ بيروت، بينما يواجه لبنان أسوأ أزمة اقتصادية منذ استقلاله عام 1946، أثارت احتجاجات شعبية، وقالت الحكومة إنه نجم عن 2750 طنًا من مادة نترات الأمونيوم كانت مخزنة في المرفأ.
عودة الانتداب الفرنسي
وتفاجأ الكثيرون بعد انفجار مرفأ بيروت، الذي آلم العالم أجمع، بتوقيع 60 ألف شخص بالفعل، بمن في ذلك بعض المهاجرين اللبنانيين في فرنسا والبالغ عددهم 250 ألف شخص، وآخرين في لبنان، على عريضة تطالب بعودة الانتداب الفرنسي للبنان، جاء فيها أن العريضة وسيلة للتعبير عن يأسهم وعدم ثقتهم بالطبقة السياسية.
وجاء في دعوة العريضة المنشورة على موقع “آفاز” المخصص للعرائض المطلبية، “أظهر المسؤولون اللبنانيون بوضوح عدم القدرة الكاملة على إدارة البلد وضمان أمنه، مع فشل النظام والفساد والإرهاب والميليشيات، ووصلت البلاد إلى أنفاسها الأخيرة، نعتقد أن لبنان يجب أن يعود تحت الانتداب الفرنسي من أجل تكريس نظام حكم نظيف ومستدام”.
وأثارت العريضة، حالة من الانقسام والجدل بين اللبنانيين، فاستنكر بعضهم المطالبات بعودة الاحتلال واصفًا إياها بأنها خيانة للوطن، في حين رأى البعض الآخر أن لبنان “لم يكن بلداً مستقلاً في أي وقت من الأوقات”، مجادلاً بأن ذلك قد يكون حلاً للمشهد المعقد الذي تعيشه البلاد في ظل حالة انعدام الثقة في الطبقة السياسية الحاكمة.
بينما، أشارت وكالة “أسوشيتدبرس” الأمريكية، إلى قول جاك لانج، وزير سابق في الحكومة الفرنسية، بأن “نحن نسير على حافة الهاوية. يجب علينا مساعدة ودعم وتشجيع الشعب اللبناني”، مضيفًا بأنه يجب “عدم إعطاء انطباع بأننا الفرنسيون نريد إنشاء محمية جديدة”، مضيفًا أن “هذا سيكون غبيًا تمامًا علينا إيجاد حلول ذكية جديدة لمساعدة اللبنانيين”.
ويؤكد ياسر سعد، محامي التعاونية القانونية لدعم الوعي العمالي، لا يوجد في القانون والمواثيق الدولية ما يُسمي بتوقيع عريضة لإحضار قوة احتلال للبلاد، فما يفعله اللبنانيون هو أقرب إلى التعبير عن الغضب، ولكن الأقرب للواقع هو تصريحات “ماكرون” بأن إذا استمر الحال على ما هو عليه ففرنسا ستتدخل سياسيًا، وهو ما يقتصر على التدخل في التشكيل الحكومة أو المساهمة في انفتاح مجال للحريات بشكل أوسع، ولكن لن يحدث تغير حقيقي في لبنان في الفترة المقبلة”.
وتابع “سعد”:” بأن توقيع الآلاف على عريضة لعودة الانتداب الفرنسي أو الوثيقة لا يجدر الاعتبار بأنه الوضع الحقيقي التي تعيشه لبنان في أزماتها الأخيرة”، مشيرًا إلى أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أكد على حق تقرير الدول مصيرها، فالحديث عن احتلال دولة لدولة أخرى في الوقت الحاضر أمر صعب للغاية ، ولكن يحدث بطرق أخرى، وفي شكل تدخلات سياسية أو خارجية ليس أكثر”.
وقد جاء تأكيد ميثاق الأمم المتحدة على هذا الحق في المادة 55 بإعلانها رغبة في تهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضروريتين، لقيام علاقات سليمة ودية بين الأمم مؤسسة على احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب، بأن يكون لكل منها تقرير مصيرها”.
كما أكد العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على حق تقرير المصير، إذ أكد ن “لكافة الشعوب الحق في تقرير المصير، ولها إسناد إلى هذا الحق أن تقرر بحرية كيانها السياسي، وأن تواصل بحرية نموها الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي”.
وتعود العلاقات الفرنسية-اللبنانية إلى القرن الـ16 على الأقل، عندما تفاوضت فرنسا مع الحكام العثمانيين لحماية المسيحيين وتأمين نفوذها في المنطقة، ولا تزال حتى الآن يوجد علاقات وطيدة بين فرنسا والساسة اللبنانيين.
طموح ماكرون
“الأم الحنون”، هكذا يطلق على فرنسا في لبنان، فما بين الإشادة والسخرية تبقى العلاقة بين البلدين مسار جدل على مر العقود، وهو ما يفسر وصف زيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، لبيروت بـ”المتوقعة”، لاعتبار فرنسا مع لبنان كأنها “حصتها” في الإقليمي.
لم تقتصر زيارة “ماكرون” على تفقد مكان الانفجار، وتحديدًا شارع الجميزة، بل أصر الرئيس الفرنسي، وفي مشهد خارج عن الأعراف وفق المراقبين، على الوقوف والاستماع لمطالب المواطنين اللبنانيين بعد الانفجار ومُعاناتهم، مستغلاً الغضب الشعبي تجاه الحكومة اللبنانية.
وبحسب المراقبين، لم يأت “ماكرون” إلى لبنان لمواساة اللبنانيين، وإنما لاقتناص فرصة قد لا تتعوض في ترسيخ نفوذ باريس بمستعمرتها القديمة؛ وما يعزز هذه الفرضيات أن الرئيس الفرنسي طرح خلال زيارته، ما وصفه هو بـ”الميثاق الجديد” للبلاد.
بينما علقت وكالة “بلومبرج” بأن زيارة الرئيس الفرنسي للبنان تظهر طموحه في أن يكون قائدًا عالميًا في منطقة حافظت فيها الولايات المتحدة وروسيا على ميزان القوة في السنوات الأخيرة، وتستعرض تركيا عضلاتها فيها.
ويشير محامي التعاونية القانونية لدعم الوعي العمالي، إلى أن زيارة “ماكرون” وإعلانه بما يعرف بـ”الميثاق الجديد”، لا يعتبران تعديًا على السيادة اللبنانية، ولكنه أقرب للسيطرة والهيمنة على المشهد السياسي في المنطقة، ففي النهاية من سيدير الأزمة الراهنة في لبنان هي الحكومة اللبنانية، وبحسب دلالات المشهد العام ففرنسا غير مستهدفة تغير لبنان بالشكل المتعارف عليه، إذ تعيش “بلاد الأرز” حالة ثورة وكل ما يحدث خارج هذا النطاق غير هام على الإطلاق”.
فيما، يرى بشير عبد الفتاح، الباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية و الاستراتيجية، أن العلاقات اللبنانية الفرنسية شبه معقدة، وما تداول حول مطالبة اللبنانيين عودة “الانتداب الفرنسي” شيء شبه متوقع، حيث مازال هناك الكثير في لبنان يعتبروا بأنهم امتداد للثقافة والهوية الفرنسية، وهو ما كان من أحد الأسباب التي أدت إلى صراعات دامية في لبنان، أبرزها الحرب الأهلية عام 1975.
وتابع “عبد الفتاح” بأن زيارة “ماكرون” وما خلفها من زيارة لوفد رسمي تركي، يعبران بشكل صريح عن المخاوف التي تنبأ بها المراقبون من تحويل لبنان إلى منطقة صراع علي مستوى سياسي كسوريا، وليبيا، وهو ما تشير إليه تصريحات وطريقة “ماكرون” في حديثه مع المسئولين اللبنانيين عند زيارته”.
وتجدر الإشارة، إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي يهرع فيها رئيس فرنسي لنجدة لبنان، فبعد التفجير الذي أودى بحياة رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري عام 2005، ركب جاك شيراك طيارته، وحط في بيروت لمواساة العائلة، وعند وفاة “شيراك” العام الماضي، ساد الحداد الإعلام اللبناني المحلي، في استذكار “صديق لبنان الكبير”.
تركة ثقيلة
ويثير ما يحدث في لبنان العديد من علامات الاستفهام حول فكرة احتفاء الشعوب بقوات الاحتلال، كما حدث في الجزائر والعراق، التي تم ذكرهما سابقًا، إذ يرجع الباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية و الاستراتيجية، الأمر لعدة أسباب، منها الظروف الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة، وما تعانيه بعض الشعوب العربية من تضييق وسوء معاملة تحت قيادة حكامهم، معتقدين بأن القوة المحتلة ستخلصهم من بطش حكامهم، ولكن عند التدقيق في التاريخ نكتشف بأن كل من سعي لذلك ذاق “الأمرين”- وفق قوله.