ارتبط موسم جني القطن في مصر، لعقود من السنين، بتراث ثري من أغاني تحمل مشاعر وأحاسيس الفلاحين، من أفراحهم وأحزانهم، وخبراتهم ونصائحهم، استمرت حناجر الفلاحين والفلاحات تصدح بالأغنيات داخل حقول القطن، لعقود طويلة، تتبارى الفتيات لتثبت كل واحدة منهن أنها الأكثر مهارة في جني القطن، والأكثر خفة في خطف لوزاته البيضاء التي تمتزج مع سمار كُفوفهن فيضعنها ندِية في “أعبابهن” ملامسة أجسادهن البضة وأرواحهن اللينة.
تعلقت حياة الفلاحين المصريين، لعقود طويلة، بزراعة القطن، وحدد محصوله مستوى معيشتهم ومنبع سعادتهم أو شقائهم لعام مقبل، وكانت تُحَدد مواعيد الزواج في قرى مصر بعد موسم جني القطن، وما يحمله من خير للأهالي، استمرت بقايا هذا النمط في الزراعة والحياة داخل الريف المصري حتى فترة التسعينيات.
“القطن لَوَّز يا ابا الحاج.. وانا عايزة اتجوز يا ابا الحاج.. والقطن نور يا ابا الحاج.. وانا عايزة اتصور يا ابا الحاج”
لوزات القطن وأحلام البنات
كاد قلب “سعاد” يقفز من صدرها، عندما رأت لوزات القطن الندِية، تميل على جسر “غيط” أبيها، تحسستها، ثم ثنت جذوع أعواد القطن في اتجاه الحقل، حتى لا تتلفها أقدام المارة، وراحت تغني: “القطن لَوَّز يا ابا الحاج.. وانا عايزة اتجوز يا ابا الحاج.. والقطن نور يا ابا الحاج.. وانا عايزة اتصور يا ابا الحاج”، استمرت ترددها حتى قطعت ضحكات أخيها الصغير “أحمد”، صوت غنائها، قائلًا: “مستعجلة على الجواز يا سعاد”، لتجري ورائه إلى أن تمسك به، وتضربه برفق على رأسه ثم تحتضنه مقبلة خديه.
في طريقها إلى البيت، تدون “سعاد” في رأسها الصغير، أعداد وأشكال الأواني والأطباق و”صواني” الشاي التي تحتاجها لشوارها، وألون الأقمشة التي تُحبها، لصُنع ملابس الزفاف، وحجم فتحة الصدر التي ستحددها بنفسها لـ”نوال الخياطة” كي تبرز جمالها، ودستة الإشاربات المطبوع عليها صور شادية وصباح ووردة الجزائرية، متخيلة “كوشة” زفافها، من جريد النخيل مُزينَّةً ببضع وردات يجلبهن أخيها “أحمد” من “جنينة عم مسعود” على أطراف القرية، تفيق سعاد من أحلامها مع اقتراب البيت، ثم تعود لتُغني هذه المرة بصوت هامس: “القطن لَوَّز يا ابا الحاج.. وانا عايزة اتجوز يا ابا الحاج”.
هذه حكاية من آلاف الحكايات التي ارتبطت بالذهب الأبيض، لسنوات طويلة من تاريخ الريف المصري وفلاحينه، حكايات اختفت منذ عقود، ولم يعد يبقى منها سوى الذكريات”.
زرعت فدان جمايل مع المايل ما نفعت ولا نبتة فيه.. قال قولنا يا خسارة تعبنا وشقانا فيه.. وادي الزرع كبر يا احمد ولا جابشي تقاويه”
رزق الشقيانين
“زرعت فدان جمايل مع المايل ما نفعت ولا نبتة فيه.. قال قولنا يا خسارة تعبنا وشقانا فيه.. وادي الزرع كبر يا احمد ولا جابشي تقاويه”، مقطع صغير، هو كل ما يتذكره “أحمد” من أغنية كان يغنيها والده له ولإخوته، أثناء جنيهم لمحصول القطن، قبل أن تستلم جدته “هانم” دفة الغناء بصوتها الشجي: “يا قطن يا حلو يا ابيض من قلب الطيبين، من قلب الطيبين.. يا ابو العود معجباني يا رزق الشقيانين، يا رزق الشقيانين”.
“ماتت جدتي هانم الطيبة، ولم نعد نزرع القطن، وتوقف والدي عن الغناء، حتى أنا لم أذهب إلى الأرض منذ عشرون عامًا، أخي الصغير يزرع الآن، السمسم، أو الثوم، وأحيانًا الذرة الشامية لإطعام الماشية”، هكذا يصف “أحمد” صاحب الـ42 سنة، ما حل بزراعة القطن، واختفاء التراث الغنائي المصاحب له.
استطاع القطن المصري، الذي بدأت زراعته منذ 4 قرون، أن ينافس أنواع القطن في المزارع الأمريكية والهندية
الغناء كترجمة للارتباط
استطاع القطن المصري، الذي بدأت زراعته منذ 4 قرون، أن ينافس أنواع القطن في المزارع الأمريكية والهندية، وطورت مصر بشكل كبير من قدراتها في زراعة القطن وزيادة محصوله، ففي بداية القرن العشرين، تأسست الجمعية الزراعية، وأُنشئ قسم النباتات بوزارة الزراعة في عام 1913، وفي فترة الأربعينيات من القرن العشرين، احتل القطن المكانة الأولى في الإنتاج الزراعي، وانتشرت مصانع الغزل والنسيج، والمحالج، ومع ثورة 1952، سعى نظام ناصر للحفاظ على القطن كزراعة استراتيجية، وسلعة تصديرية هامة، ومغذٍ للصناعات المصرية في مجال النسيج، فتوسع عبد الناصر في مصانع الغزل، وحرص على زيادة إنتاجية القطن من خلال سياسة الدورة الزراعية.
لم يكن التراث الغنائي المصاحب لجني محصول القطن، مقتصرًا على أغنيات الفلاحين في الحقول، والتي انتقلت شفاهيًا من جيل إلى جيل، وتطورت مع تطور فنون الغناء، ومع اختلاف أنماط الزراعة والحياة عامة، كمعبر عن ارتباط حياة الفلاحين بالذهب الأبيض، بل هناك الكثير من الأغنيات، المرتبطة بموسم جني القطن، والتي غناها مطربين محترفين، أو مجموعات غنائية، وكان أغلبها في سياق أعمال سينمائية، في مراحل مختلفة، هذه الأغنيات التي كانت انعكاسًا لمكانة القطن وأهميته الاقتصادية والاجتماعية، أو التي أُنتجت بدعم من الدولة كتعبير عن الأهمية الكبيرة التي أولتها الدولة المصرية لزراعة القطن والتوجه الرسمي لتنمية هذه الزراعة، خاصة بعد ثورة يوليو.
أبيض منور على عوده
تقف كوكب الشرق أم كلثوم، في مشهد من فيلم عايدة عام ١٩٤٢، وسط عدد من الفتيات يجنين لوزات القطن داخل أحد الحقول لتغني من كلمات أحمد رامي وألحان زكريا أحمد: “القطن فتح هنا البال.. والرزق جه وصفالنا البال.. اِجمعوا خيره مالناش غيره، يغني البلد ويهني الحال.. أبيض منور على عوده يحيي الأمل عند وجوده”.
وهو نفس الفيلم الذي غنى فيه محمد الصادق من ألحانه وكلمات حسين حلمى المانسترلي: “نورت يا قطن النيل، ياحلاوة عليك يا جميل، اجمعوا يا بنات النيل يلا، دا مالوهشي مثيل قطن ما شالله، لوزته جميلة، حاسبوا عليها، حلوة أصيلة، والخير فيها”.
“ياقطن سبحان من صور يا ابيض وناعم ومنور، زرعِة إيدينا يا قطن مصر، يا نور عنينا يا قطن مصر، نستنظرك مـ الشتا للصيف، ونكرمك ولا أحسن ضيف”
زرعة إيدينا يا قُطن مصر
وبصوته المصري وخفه دمه التي ليس لها حدود يغني الفنان عمر الجيزاوي، في فيلم “خضرة والسندباد القبلي” عام 1951، أغنية في أحد مشاهد الفيلم والذي يظهر فيه عدد من الفلاحين والفلاحات أثناء جنيهم لمحصول القطن: “ياقطن سبحان من صور يا ابيض وناعم ومنور، زرعِة إيدينا يا قطن مصر، يا نور عنينا يا قطن مصر، نستنظرك مـ الشتا للصيف، ونكرمك ولا أحسن ضيف، وانت ان ما كنتش هاتجينا ما عرفش كنا هنعمل كِيف، دي تبقى أكبر واقعة يا ابويا، وانا كنت اموت مالسقعة يا ابويا، يا بطانيتي يا قطن مصر، يا جلبيتي يا قطن مصر، مرسوم في قلبي ومتصور يا ابيض يا ناعم ومنور”.
نستطيع أن نقول في أسى شديد، أن التراث الغنائي الشعبي، الذي ارتبط بموسم جني القطن، بل وبكافة الزراعات، قد اختفى تمامًا
اختفاء التُراث الغنائي
نستطيع أن نقول في أسى شديد، أن التراث الغنائي الشعبي، الذي ارتبط بموسم جني القطن، بل وبكافة الزراعات، قد اختفى تمامًا، ولم يبقى منه سوى القليل الذي احتفظت به الذاكرة الجمعية للفلاحات والفلاحين الذين عاصروا بعضًا منه، أو سمعوه من آبائهم وأمهاتهم أو من أجدادهم، كما لم يُبذل أي مجهودات في جمعه وتحقيقه، غير أن بعض الدراسات ذكرته على استحياء ضمن حديثها عن تراث الغناء الشعبي.
تراجعت الزراعات التقليدية/الاستراتيجية العتيقة التي كانت تشتهر بها مصر مثل القطن والقمح لصالح زراعات جديدة مثل النباتات العطرية والخضروات من الفصيلة الصليبية
انتزاع الجذور
لم يختفي هذا النوع من التراث الغنائي فجأة، أو دون أسباب، بل هناك عدة أسباب متداخلة يمكن أن نتلمس بعضها في الآتي:
تراجعت الزراعات التقليدية/الاستراتيجية العتيقة التي كانت تشتهر بها مصر مثل القطن والقمح، لصالح زراعات جديدة مثل النباتات العطرية، والخضروات من الفصيلة الصليبية، وغيرها، وبالتالي تقلصت الأراضي المنزرعة بالمحاصيل التقليدية، وضعف الإنتاج، ولم تعد لهذه المحاصيل نفس الأهمية ولا الارتباط بأنماط حياة الفلاحين، ولا باقتصادهم، ومع فقدان أهمية تلك المحاصيل للفلاح المصري وفك الارتباط بينه وبينها، لم يعد استمرار التراث الغنائي المرتبط بها ولا تطويره أمرًا واقعيًا، إذا كيف تبقي شكلًا من أشكال التراث أو تطوره، بعدما فقد حوامله، وانتُزعت جذوره من الأرض ومن أرواح فلاحيها اللينة.
أما الزراعات التي حلت بديلًا للزراعات التقليدية/الاستراتيجية، فهي زراعات ليست لها جذور بعيدة داخل ثقافة الفلاحين في مصر، وبالتالي لم يكن من الممكن أن تُنتج هذه الزراعات أشكال من الغناء، وحتى الزراعات القديمة التي تم تنميتها وزيادة إنتاجيتها مثل العنب والبرتقال والتي ارتبطت أيضًا بتراث غنائي شعبي، فهي تخرج الآن من أراضٍ يملكها مستثمريين مصريين أو أجانب، وهي مزارع تُشغل عمال زراعيين في ظروف صعبة، وهم مغتربون فيها ولا يملكون منها شيئًا، وبالتالي ليسوا مرتبطين بها ولا بإنتاجها، وهذا وضع لا ينتج أي شكل من أشكال الإبداع الشعبي.