الزمن هو بطل كل العصور، الشاهد الحقيقي الذي يغلف الظروف والأحداث والأبطال، وينقلهم من جيل إلى جيل، ومن حقبة إلى أخرى، تعد الدراما أحد أهم سواعد الزمن وشواهده في العصر الحديث خاصة خلال حقبة الثمانينيات والتسعينيات وبداية الألفية الثالثة، وتحديدًا في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك.

شكلت الدراما خلال تلك الفترة، الجزء الأكبر من نمط وشكل الدراما الحالية، فخطت بداية الاهتمام بقضايا الجنوب وصعيد مصر، نما خلال تلك الفترة الاهتمام بفتح قضايا الفساد، وتجارة المخدرات، والتشرد، وأطفال الشوارع، باختصار وضعت الدراما خلال تلك الفترة مؤشرات لشكل المجتمع ومشاكله وتكوينه وما هو عليه الآن.

دراما الصعيد

“قالوا علينا ديابة.. واحنا يا ناس غلابة”.. جملة صغيرة جاءت في مطلع أغنية تتر البداية بمسلسل “ذئاب الجبل”، الذي تم إنتاجه عام 1992، والذي حقق نجاحًا مذهلًا وجذب أنظار الشعب المصري، وكان بداية للثنائي محمد صفاء عامر والمخرج مجدي أبو عميرة، وبطولة النجوم عبد الله غيث، وحمدي غيث، وأحمد عبد العزيز، وسماح أنور، حيث يأخذنا هذا المسلسل لعوالم درامية تشبه أمواج البحر بين الارتفاع والانخفاض، على كل الأصعدة.

وحقق مسلسل “ذئاب الجبل” تحديدًا، نجاحًا ملحوظًا بداية التسعينيات، وكان جزءً كبيرًا من نجاحه قد اعتمد على أغنية تتر المقدمة والنهاية، باللهجة الصعيدية للفنان علي الحجار، ومن هنا بدأت المساحة تتسع لأغاني تترات المسلسلات، وأخذت مساحة في أذهان الجمهور، وبرع “الحجار” بعدها في أغاني تتر المقدمة والنهاية لمسلسلات وأعمال أخرى خلال نفس الحقبة.

يحكي المسلسل عن رجل صعيدي يبحث عن شقيقته بعد أن هروبها منه ومن تسلطه المفرط، ويبحث عنها طوال الحلقات وتتبعه الشرطة.

فتح “ذئاب الجبل” الباب على مصراعيه لتقديم بعض الأعمال الدرامية من صعيد مصر، فقد دمج بمنتهى السلاسة بين قضايا عدة هناك، منها الثأر وانتقال سلطة القبيلة وحكمها من كبير العائلة بالوراثة، وقضايا كثيرة للمرأة مثل إجبارها على الزواج، والتحكم بها وحرمانها من التعليم، والتسلط المُفرط.

ننتقل من تعصب “ذئاب الجبل”، إلى رفيع بيه العزايزي، بطل مسلسل “الضوء الشارد” الذي جسد شخصيته النجم ممدوح عبد العليم.

تميز “الضوء الشارد” بطابع درامي خاص، مزج الحياة القاسية للرجل الصعيدي بالجانب الآخر من شخصيته، فقد دارات أحداث المسلسل حول قصة حب غير معتادة، تنشأ في صعيد مصر بين رفيع بيه وأرملة شقيقه، بعدما جمعتهما الظروف.

المسلسل بطولة النجوم منى زكي وسميحة أيوب ويوسف شعبان، ومن تأليف محمد صفاء عامر وإخراج مجدي أبو عميرة.

صراع الطبقات

 تميزت فترة الثمانينيات والتسعينيات على أرض الواقع، بصراع طبقي قوي، حيث بدأت الطبقة الوسطى في الصراع من أجل الحفاظ على الوجود، وتوسيع رقعة لها ولحقوقها ومتطلباتها، وكان هذا تكوين طبيعي للمجتمع عقب انتهاء حرب 1973، ومرور المجتمع بفترة طويلة ليستعيد ترتيب أوضاعه.

صناع الدراما في هذه الفترة كانوا شديدي الذكاء، أخذوا من صراعات الواقع، ونقشوا خطوطًا واقعية على الأعمال الدرامية.

ومن أبرز الأعمال الدرامية التي تمت إذاعتها خلال تلك الفترة ولازالت تلقى صدى واسعًا عند عرضها، مسلسل (ليالي الحلمية) والذي يعد ملحمة درامية خرافية من 6 أجزاء، 5 منها تمت إذاعتها في حقبة الثمانينيات والتسعينيات، ولاقت نجاحاً كبيراً، والجزء السادس تمت إذاعته مؤخراً، لكنه لم يلق نفس نجاح الأجزاء الخمسة الأولى، حيث العرض الأول كان عام 1987.

والمسلسل من تأليف أسامة أنور عكاشة، وإخراج إسماعيل عبد الحافظ، الثنائي الذي قدم عددًا من المسلسلات والأعمال الدرامية الملهمة خلال تلك الفترة.

ويعد المسلسل تأريخًا لمراحل هامة مرت على مصر في عصرها الحديث، منذ عصر الملك فاروق، وحتى وقت انتهاء المسلسل، وجسد شخصياته مجموعة كبيرة من الفنانين، أبرزهم يحيى الفخراني وصلاح السعدني وصفية العمري وعبلة كامل ومحسنة توفيق، ومجموعة كبيرة أخرى استطاعت ببراعة أن تُظهر اختلاف الشخصيات وتطورها مع مرور الزمن، والصراع بين الطبقات.

 ليست “ليالي الحلمية” وحدها التي شهدت على الصراع الطبقي في مصر وقتها، أيضاً مسلسل “الراية البيضاء” وهو إنتاج نهاية الثمانينيات، من بطولة النجمة سناء جميل، والنجم جميل راتب وهشام سليم وسمية الألفي.

أهم ما ميز “الراية البيضاء” أنه كان البداية نحو البطولة النسائية الشريرة ممثلة في شخصية فضة المعداوي، أسطورة الرأسمالية في المسلسل التي مثلت قوة المال وصراعاته المتعددة، فبالرغم من جشعها وشرها إلا أن هذا لم يمنعها من الوقوع في حب أبو الغار، ولم تخلط أوراقها طوال المسلسل بين رغباتها السلطوية بهزيمته عمليًا، وبين اقتناص حبه، عِراك حقيقي بين القبح والجمال، الخير والشر، الحقيقة والفساد، وحقق المسلسل نجاحًا كبيرًا، وهو من تأليف أسامة أنور عكاشة وإخراج محمد فاضل.

ازدهار المهن الحرفية

نظرة عن بعد تأتي من الثمانينيات لعصرنا الحالي، وتكتشف أهمية التعليم الفني، وجهود قطاعات الدولة جميعها الآن لتغيير وجهة نظر المجتمع عن التعليم الفني، بدأت الدراما منذ ما يقرب من 50 عاما، في الإعداد لتلك المرحلة، وبدأت دعم التعليم الفني بشكل مباشر وغير مباشر من خلال تقديم بعض نماذج الأعمال التي تظهر البطل وهو تاجر أو حرفي صاحب مهنة يؤديها بيديه، فلم يعد البطل هنا هو الشخص الجميل “ناعم الأيدي” الذي يحب الحسناء ويتزوجا في نهاية المسلسل.

صاغ هذا عدد كبير من الأعمال الدرامية، في مقدمتها مسلسل “لن أعيش في جلباب أبي” في منتصف التسعينيات، الذي عرض بشكل سلس صراع الأجيال، بين أب مكافح وعصامي بنى ثروته بنفسه، وصنع لنفسه اسمًا وتاريخًا، وابن لا يريد أن يسير على نهج الأب ويبحث ويتخبط من أجل أن يجد ضالته في عمل أو مهنة أو حياة بعيدًا عن والده، ولكن الحياة تُظهر له الجانب الحقيقي من رغبة والده في ضمه لعمله.

والمسلسل من بطولة نور الشريف وعبلة كامل ومحمد رياض وحنان ترك.

وهو ما حدث أيضاً في مسلسل “أرابيسك” وشخصية حسن النعماني، مالك ورشة الأرابيسك بالقاهرة القديمة، الذي يحاول دوما أن يكون سندًا لأهل منطقته، فتوقعه الأيام في المشكلات، المسلسل من بطولة صلاح السعدني وهدى سلطان وسهير المرشدي وأبو بكر عزت، ومن تأليف أسامة أنور عكاشة وإخراج جمال عبد الحميد.

القناع الأبيض

رغم وجود أنواع عديدة من الدراما، تختلف باختلاف القضية التي يُعالجها العمل، إلا أن حقبة الثمانينيات والتسعينيات، وهي ما يطلق عليه مميزات الفن في عهد مبارك، حملت الأنواع جميعًا إلى مائدة المشاهدين، فهي الحقبة العاقلة الثابتة كما يُطلق عليها، استقرت في نهايتها على نوع ثابت وهو دراما الكوميديا أو القناع الأبيض، وهو تطور طبيعي للحالة الاقتصادية وقتها، فالطبقة المتوسطة التي حاولت طوال الفترات التي تسبقها أن تحافظ على شكلها وملامحها، كادت أن تنهار وقتها بفعل تردي الأحوال الاقتصادية، فجاءت الدراما الكوميدية لتجذب جميع أفراد الأسرة المصرية، وانتشرت بشكل واسع، حيث اعتمد الممثل خلالها على اللجوء للجمل المضحكة أو الحركات الطريفة، وهو ما برع فيه كثيرون في الحقبة المذكورة، مثل علاء ولي الدين ومحمد هنيدي وأشرف عبد الباقي وغيرهم، حتى أن نجوم الأعمال الجادة اتجهوا لتقديم الأعمال الكوميدية في بعض الأوقات، وفي هذا النوع من الدراما، يعتمد الممثلون على الأداء التمثيلي الذي يستهدف إضحاك الجمهور، ويمثل “القناع الأبيض” الذي يعلق على أبواب المسرح أحيانًا رمزًا للضحك.

ومن أبرز تلك الأعمال “صعيدي في الجامعة الأمريكية”، و”جواز بقرار جمهوري” و”همام في أمستردام”، وغيرها من الأعمال التي رسخت لمفهوم الكوميديا كباب رئيس للدخول لقلب المشاهدين.