سياسة تحريك أسعار الخدمة لمواجهة خسائر ومديونيات الهيئات الخدمية، تُعد سلاحًا ذو حدين، فقد تؤدي في خضم السعي لتعويض تكاليف التشغيل وتجحيم ملف المديونية، إلى انخفاض عدد العُملاء المتعاملين مع الخدمة وبحثهم عن البديل، ما يتطلب اتخاذ القرار في سياق متكامل يُراعي بين التخطيط الاقتصادي والاجتماعي.
لا تؤتي فكرة زيادة تكلفة الخدمة ثمارها على طول الخط، فهي مرهونة في المقام الأول بما يسمى اقتصاديًا بتكلفة الفُرصة البديلة أو الخدمة المُنافسة، والتي يُمكنها استقطاب المتضررين من الزيادات إلى قائمة عُملائها بحفاظها على المستوى السعري ذاته.
رفعت السكك الحديدية، تعريفة الركوب بنسبة تتراوح بين 25% على القطارات الفاخرة و100% على الدرجة الثانية المُكيفة
رفعت السكك الحديدية، تعريفة الركوب بنسبة تتراوح بين 25% على القطارات الفاخرة و100% على الدرجة الثانية المُكيفة، حيث أعلنت رفع أسعار تذاكر قطاراتها الجديدة المُوردة من روسيا فقط، إلا أن الزيادة شملت جميع القطارات المُكيفة لتتضاعف على الخطوط المتوسطة التي تقل عن 100 كيلو متر، ما ساهم في تحقيق سائقي ميكروباص المحافظات أزهي عصورهم بزيادة كبيرة في أعداد الرحلات التي تقطعها سياراتهم يوميًا على الضعف.
ورفعت السكك الحديدية، تعريفة الركوب في كثير من القطارات التي يستقلها جمهور الطبقة المتوسطة، ما أفقدها عددًا لا بأس به من جمهورها التقليدي لصالح المواصلات التقليدية، التي حافظت على سعر تعريفتها كما هي دون تغيير.
لا يخلو شباك التذاكر في المحافظات حالياً من مشادات بين متلقي الخدمة الذين يفاجئون بالأسعار الجديدة ويتخذ بعضهم قرارًا بالتوجه لمواقف الميكروباص، أو الخضوع مع جعل الرحلة هي الأخيرة، فسعر التذكرة من طنطا إلى القاهرة 95 كيلو مترًا، ارتفع من 20 جنيها للدرجة “ثانية مُكيف” إلى 40 جنيهًا دفعة واحدة مقابل 23 جنيهًا للميكروباص، الذي يبدأ رحلته من ميدان رمسيس أيضًا مع تميزه بميزة إضافية في مروره على ثلاثة مواقف للخطوط الداخلية.
لا تتماشي التعريفة الجديدة مع تأكيد وزارة النقل أنها راعت في تعريفة الركوب سعر الخدمة الموازية لحافلات النقل والميكروباص
“الميكروباص” أوفر
يقول “محمد عبدالهادي”، الذي يعيش في طنطا ويعمل بالقاهرة، إنه توقف عن استقلال القطارات المُكيفة منذ رفع أسعارها، فميزانيته الشهرية للقطارات كانت 800 جنيه ولا يستطيع مضاعفتها، واتخذ قرارًا بالاستقرار في القاهرة بعدما بات تأجير وحدة سكنية أفضل.
وفضل “أحمد حجازي”، من بنها ويعمل بالقاهرة، الاعتماد على وسائل النقل العادية التي وفرت عليه نصف تكلفة القطارات، فيقول: “لماذا أدفع 30 جنيهًا طالما يمكنني دفع 13 جنيهًا فقط في خدمة لم تتحسن”.
لا تتماشي التعريفة الجديدة مع تأكيد وزارة النقل، أنها راعت في تعريفة الركوب سعر الخدمة الموازية لحافلات النقل والميكروباص، وسعر التذكرة في السوق السوداء والأخيرة لا يُمكن وضعها في حسبة اقتصادية صرفة فهي لا تُوجد إلا في أوقات الأعياد والإجازات الطويلة فقط.
وصلت ديون السكك الحديدية إلى 111 مليار جنيه منها 35 مليارًا للبنك المركزي
يقول مصدر بالسكك الحديدية، إن اختيار توقيت القرار سيمنحه نجاحًا ولو مؤقتًا، لكن لن يحقق أهدافه على المدى البعيد، فوزارة النقل حركت التعريفة صبيحة العيد، وهي تعرف أن ملايين المصريين خاصة في الصعيد مُجبرون على العودة بالقطارات.
ووصلت ديون السكك الحديدية، إلى 111 مليار جنيه منها 35 مليارًا للبنك المركزي، نتيجة السحب على المكشوف لدفع مرتبات العاملين، و35 مليارًا لبنك الاستثمار القومي، وباقي الديون لوزارتي البترول والمالية.
وتوجد بعض القطارات في السكك الحديدية، لم تتحرك أسعارها منذ أعوام طويلة، لكن الأزمة تكمن في زيادتها بوتيرة مُتسارعة وبنسب مُتضاعفة في نوعية المتعاملين معها الذين ينتمون لوظائف حكومية في المقام الأول، ورواتبهم بالكاد تكفي حياتهم اليومية ولا تتحمل أعباء زيادة في الانتقال.
ويضيف المصدر، أن القرار جاء أيضًا قبل موسم الاصطياف الذي تُفضل فيه العائلات القطارات للتوجه إلى الشقق الساحلية، ولن يفرق كثيرًا مع المواطنين، الذين يقومون بتلك الرحلة مرة واحدة سنويًا أن تتضاعف عليهم أسعار السفر.
السكة الحديد بحجمها الضخم لا تنقل سوى 5 ملايين طن من البضائع رغم قدرتها على نقل 25 مليون منها
تطوير الفكر أولًا
ويقول خبراء اقتصاديون، إن سياسة رفع التكلفة من أجل تعويض الخسائر لا يُمكن تطبيقها في جميع الخدمات، فالمواطن مُجبر على تحمل تكاليف الكهرباء والمياه والغاز وأنابيب البوتاجاز لغياب البديل، لكن في خدمات كالاتصالات والقطارات، لا يوجد ما يلزمه باستخدامها بعد الزيادة.
يتطلب تحريك الخدمات، الإلمام الكامل بالتخطيط الاجتماعي، ودراسة نفسية المتلقين، فالتسعير يحتاج إلى سلسلة حسابات مُعقدة من الحسابات والبحث، تراعي حجم الطلب من طرف المستهلكين، وسمات المنتج، والقدرة على الدفع، وظروف السوق، تكاليف المدخلات، وأسعار المنافسين.
المصرية للاتصالات
وتُمثل الشركة المصرية للاتصالات، نموذجًا حكوميًا على ذلك، فعندما قررت الشركة تخفيض رسوم تركيب الهواتف الأرضية التي وصلت لمستويات متدنية للغاية بسبب الاعتماد على الهواتف المحمولة، سجلت الاشتراكات الجديدة ارتفاعًا بنسبة 18% دفعة واحدة، وتم تعويض مبالغ الاشتراكات من قيمة الفواتير على مدى زمني قصير.
يبدو الحل الأمثل لمشكلات خسائر السكك الحديدية، حاليًا في تطوير الفكر وليس القطار ذاته فالهيئة بحجمها الضخم لا تنقل سوى 5 ملايين طن من البضائع رغم قدرتها على نقل 25 مليون، وحال تحقيق ذلك الرقم ستقفز إيرادات البضائع فقط من 400 مليون جنيه إلى 2 مليار.
العديد من الدراسات التي أعدت لتطوير السكك الحديدية تدور في فلك خصخصة الإدارة وليس الهيئة
خصخصة الإدارة
الدكتور أحمد عبد المؤمن، خبير النقل، يؤمن بضرورة الاعتماد على نقل البضائع التي يُمكنها توفير مبالغ مالية هائلة، يتم استخدامها في تطوير شبكة السكك الحديدية التي تعتمد على مصادر تمويل قادمة من الحكومة، ولا يمكن أن تتحمل الدولة كل هذه المبالغ بمفردها.
يطالب “عبدالمؤمن” بحلول خارج الصندوق، لتطوير شبكات السكك الحديدية باستثمار المحطات، وتحويلها لمكان تجاري استثماري، وتغطية المنطقة التي تقع بها المحطة بالخدمات والمحال التجارية والفنادق جيدة الخدمة، بما يعزز من مواردها في النهاية.
ويبلغ طول السكك الحديدية في مصر، 9700 كيلو مترًا يمكن استغلالها على شاكلة نوادي كرة القدم بتأجيرها في مشروعات تُجارية تُدر دخلًا للهيئة، وتساهم في تطويرها.
العديد من الدراسات، التي أعدت لتطوير السكك الحديدية، تدور في فلك خصخصة الإدارة وليس الهيئة، بمعنى استقدام شركة متخصصة تتولى تشغيل المرفق على أن يظل مملوكًا للدولة وتحصل على نسبة من الإيرادات، في ظل تأكيد الكثيرين على وقوف الجانب البشري وراء الخسائر خلال الفترة التي سبقت تولي الفريق كامل الوزير المسئولية.