ظل الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية، يعتمد على ثالوث مقدس، أضلاعه قناة السويس، والسياحة، وتحويلات العاملين في الخارج، وظلت الأخيرة لعقود تحافظ على وتيرة نمو متسارعة دون تأثر بالاختلالات التي تتعرض لها بقية العناصر الأخرى.
ولا تزال الحشود الغفيرة للعمالة العائدة من الخارج تتدفق منذ تفشي فيروس كورونا في المنطقة العربية قبل ستة أشهر، فشركة “مصر للطيران”، تنقل يوميًا مئات المصريين، ولا تبدو الآمال معقودة كثيرًا على عودتهم في ظل تداعيات الجائحة على النشاط الاقتصادي، وتنامي نداءات استبدال العمالة الأجنبية بالمحلية لمواجهة تداعيات أعباء البطالة بأسواق الخليج، والحفاظ على التركيبة السكانية داخلها من الاختلال.
ووفقًا لبيانات البنك المركزي، فقد بلغت تحويلات المصريين في الخارج 26.8 مليار دولار نهاية العام الماضي، مقابل 25.5 مليار دولار في العام السابق، ما يخلق نوعًا من عدم التفاؤل بشأن حدوث عجز كبير في الحساب الجاري في ميزان المدفوعات، يضاف إلى العجز القائم في الميزان التجاري.
وبفضل تحويلات المغتربين، سجل عجز الحساب التجاري تراجعا ملحوظا ليسجل خلال الفترة من يوليو وحتى مارس من العام المالي 2019/2020 تراجعًا بنسبة 25.2% ليصل إلى 7.3 مليار دولار، مقارنة بنحو 9.8 مليار دولار في الفترة ذاتها من العام المالي السابق.
انخفاض ملحوظ
وتوقعت دراسة حديثة لمعهد التخطيط القومي، أن تقل تحويلات المصريين في الخارج إلى 21.5 مليار دولار عام 2020، حال عدم رجوع العمالة العالقة والاستغناء عن المزيد والتوقف عن قبول عقود جديدة للمرة الأولى، ما يرفع معدل البطالة إلى 15% مع ضعف بنية سوق العمل، ما دفع لجنة القوى العاملة بمجلس النواب، إلى تخصيص جلسة لمناقشة تداعيات عودة العمالة العربية من الشقين الاقتصادي والأمني.
لا بديل أمام الاقتصاد المصري حاليًا إلا التركيز على التصدير للخارج لتدعيم الاحتياطيات النقدية، وفي الوقت ذاته يتيح مجالات أمام العمالة الوافدة من الخارج، خاصة في ظل مرونة الصادرات، التي تبتعد عن هزات العرض والطلب وتجد لها أسواقًا جديدة باستمرار، على عكس الأنشطة الريعية التي تتأثر بالأزمات الأمنية والسياسية وتحكمات القرار السياسي.
ويرى خبراء، أن المصريين العائدين من الخارج بعضهم لديه خبرة طويلة في الاستثمار بأسواق المال، ما يساهم في ضخ شرايين جديدة في الاستثمار المحلي بشكل غير مباشر، عبر شراء أسهم الشركات المحلية، ومساعدتها في توفير سيولة مالية تؤهلها للتوسع وفتح خطوط إنتاجية جديدة، بما يحقق فائضًا في المنتجات يصلح للتصدير.
وترتبط مصر بعشرات الاتفاقيات مع الدول العربية والإفريقية، التي يمكنها التصدير بدون رسوم جمركية وضرائب كـ”الكوميسا”، التي تمكنها من تصدير منتجاتها إلى 18 دولة إفريقية بدون جمارك وبدون ضرائب، بجانب اتفاقيات شبيهة مع العديد من الدول الأوروبية والآسيوية.
خبرة طويلة
ويؤكد أحمد الزيات، الخبير المالي وعضو جمعية رجال الأعمال، أن العمالة المصرية العائدة تتضمن قطاعًا لديه رؤوس أموال وخبرة طويلة في كيفية الاستثمار، ويمكنها البدء في نشاطها بتمويل خاص أو مشترك أو حتى الاستفادة من اهتمام الدولة بقطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة، ما يؤدي لتنشيط قطاع الإنتاج والتصدير للخارج وتعويض هبوط التحويلات.
ويقول “الزيات” إن مصر تمتلك 22 منطقة صناعية يشكو المستثمرون داخلها من حاجتهم إلى عمالة مدربة ومؤهلة لديها القدرة على الالتزام بتكليفات العمل وإخراج المنتج النهائي في صورة جيدة، واستحداث أفكار جديدة للتسويق الذي يمثل معضلة أساسية للمنتج المصري، الذي يعتبر مشكلة أساسية أمام نفاذية الصادرات المصرية عالميًا.
وبحسب بيانات البنك المركزي، فقد بلغت قيمة الصادرات المصرية خلال عام 2019 نحو 28.5 مليار دولار مقابل نحو 28 مليار في عام 2018، بنسبة زيادة 1.5%، لكن الرقم لا يمكن أخذه على عواهنه في ظل ضمه صادرات بترولية بقيمة 16.2 مليار دولار، بجانب 5 مليارات دولار صادرات زراعية، و2.5 مليار دولار مواد أولية، ما يجعل حصة المنتجات الصناعية تقل عن 5 مليارات دولار.
ووضعت الحكومة خطة لتحقيق زيادة الصادرات إلى نحو 100 مليار دولار، تتضمن ثلاثة محاور رئيسية، أولها كيفية مضاعفة المعدلات الحالية لصادرات كل قطاع، والثاني رصد المشكلات الداخلية التي تواجه القطاعات وكيفية حلها، والثالث سبل زيادة الإنتاجية لتوفير احتياجات السوقين الداخلية والخارجية.
كما تستهدف التوسع فــي إنشــاء المناطــق الحرة، وإنشاء 12 منطقة استثمارية جديدة، والتوسع في المجمعات الصناعية المتكاملة، بإنشاء 13 منها.
يحتاج استقطاب العائدين ذوي الملاءة المالية، إلى جهود كبيرة من الحكومة، لإقناعهم بتغيير أفكارهم المعتادة حول الاستثمار، فطوال تاريخهم ظلوا يفضلون المضاربة في القطاع العقاري والعملات والذهب، والتي تحقق عائدًا سريعًا دون مخاطرة باعتبارها وسيطا لحفظ القيمة.
ويعاني العائدون من الخارج من عدة مشكلات تتعلق بأوضاعهم المالية، وأخرى تتعلق بالصادرات المصرية بوجه عام، فكثير منهم على مدار السنوات المالية وجهوا جزءً كبيرًا من مدخراتهم بالفعل للاستثمار طويل الأجل في مشروعات عقارية أسستها الدولة مثل “بيت الوطن”.
كما يعاني التصدير بمصر من معوقات تتعلق بعدم الإلمام بقوانين الدول المصدر إليها، ومشكلات النقل المتمثلة في عدم التزام السائقين بالقواعد والقوانين وعدم نقل البضائع بكفاءة ما يعرضها للتلف أو تأخر مواعيد الشحن، وعدم توافر نوعيات بعينها من الحاويات، وكذلك غياب مراكب حمولة ألفي طن، وعدم قدرة كثير من الموانئ التي لا تدخلها السفن الأصلية “مازر فيسيل”.
التصنيع والتصدير
يقول نادي عزام، الخبير المالي، إن التصنيع والتصدير هو القطاع الأساسي الذي يجب على المصريين التركيز عليه مستقبلاً، مع سعي الكثير من المستثمرين حاليًا إلى تنويع استثماراتهم في أكثر من دولة، وعدم التركيز على الصين فقط، التي بمجرد ظهور الوباء داخلها عانى العالم كله نقصَا في السلع.
ويضيف أن الحكومة تبنت خطة لتحسين بيئة الأعمال المشجعة لدفع الاستثمارات الخاصة بالقطاع الصناعي خلال العامين القادمين، لزيادة معدل النمو الصناعي من 6,3% خلال عام 2019 إلى ما يزيد على 10,7% بحلول عام 2022، ويمكن لمصريين الداخل والخارج المساهمة فيها عبر الدخول بقوة لنشاط المشروعات المتوسطة والصغيرة.