رغم مرور مئات السنين، نكتشف في كل مرة ندقق النطر بها في تاريخ البشرية وصراعها، أن الثورات – سواء نجحت أو أخفقت- في تحقيق أهدافها أو حادت عنها، لازالت تلعب دورًا فعالا في بناء المجتمعات وتشكيل بنيتها الثقافية والسياسية حتى وقتنا هذا.

ويرى المؤرخون أن معنى “الثورة” أعمق من مجرد تغيير شكل النظام السياسي أو الاقتصادي، ورغم كثرة الأحداث الأخيرة التي شهدتها المنطقة العربية والعالم وصنفت على أنها “ثورات”، إلا أنها قليلة تلك الأحداث التي ينطبق عليها وصف الثورة بالمعنى العلمي والتاريخي.

الثورة الفرنسية وتغيير وجه العالم

وبالحديث عن الثورة الفرنسية، فقد “غيرت وجه كل شيء”، حيث قسمت التاريخ إلى قسمين ما قبلها وما بعدها، فلا يزال شعار الثورة “الحرية، المساواة، الأخوة”، يستخدم للدفاع عن الليبرالية حتى اليوم، بحسب موقع “ليست فيرس” الأمريكي.

وبدأت شرارة الثورة في 1789، بمهاجمة الثوار لسجن الباسيتل، للحصول على الخبز، وهو ما دفع البعض ليرى أن مملكة دامت قرونا أنهاها الجوع، ودامت الثورة الفرنسية عشرة أعوام، حين أنهى نابليون بونابرت الثورة بانقلاب على رفاق دربه وحصل على منصب القنصل الأول، ليصبح لاحقا الإمبراطور الذي احتل معظم أوروبا، وأعادت الثورة تشكيل المشهد السياسي في البلاد، وقضت على الإقطاعية والملكية.

ورغم مرور قرنين على الثورة الفرنسية، ولأن عمر الثورات يفوق عمر الأفراد، يذكر هنري كسينجر، وزيرُ الخارجية الأمريكي السابق، أنه في حديث له مع رئيس الوزراء الصيني، شو إن لاي، سأله عن تقديره لتأثير الثورة الفرنسية في التاريخ الحديث، وبعد برهة من التأمل أجابه بأن الوقت ما زال مبكرًا للتقييم، لأن أفكار الثورة الفرنسية ما زالت تتفاعل مع مجريات الأحداث.

وفسر المراقبون حينها تردد رئيس الوزراء الصيني في تقييم دور الثورة الفرنسية، إلى فهمه العميق لمعني “الثورة”، حيث تخلق شرعية الثورات من ظروف البيئة الاجتماعية “المتردية” في الأغلب، حيث تنبع أهميتها من كونها تحولات مفصلية في

مسارات الشعوب، وذلك لما لها من تأثيرات داخلية وخارجية، فالثورات هي علامات فارقة على التحول من حال إلى آخر.

خريطة العالم الحديث

وينطبق الحديث السابق، على “الثورة الفرنسية”، التي يُستشهد بها كواحدة من أهم الأحداث في تاريخ البشرية، حيث يرى جمال يوسف، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن “الثورة الفرنسية، على وجه الخصوص شكلت خريطة العالم الحديث، فهي أسقطت أنظمة وخلقت أنظمة أخرى، موضحًا أنها دفعت بشكل مباشر لسقوط الأنظمة الملكية المطلقة وأسست للنظام الجمهوري، وهو ما جعلها ملهمًا للثورات الأوروبية فيما مضى”.

وتابع “أن تأثير الثورة الفرنسية مازال ملموسًا حتى يومنا هذا، وكذلك في المنطقة والشرق الأوسط، فهي تعتبر نموذجًا ومرجعًا لكثير من الدول والأنظمة السياسية، كما أن الثقافة الفرنسية لازالت هي هوية الكثير من العرب، على سبيل المثال، في منطقة الشام والمغرب العربي، حيث عرف العالم الإسلامي مبادئ الثورة الفرنسية عند دخول حملة بونابرت لمصر، وبحسب المؤرخين وأساتذة التاريخ تعتبر هي اللبنة الأولى للفكر العلماني في المنطقة، كذلك مفهوم الصهيونية”.

على جانب آخر، كشفت بعض الأعمال الوحشية التي وقعت إبان الثورة الفرنسية، الوجه الآخر للثورة، ويصف بعض المؤرخين الفرنسيين والبريطانيين، الثورة بـ”الحركة المعادية”، حيث ارتكبت مجازر تاريخية وقتل على إثرها آلاف الفرنسيين، ما يجعلها منبعًا لظاهرة الإرهاب في العالم.

البلشفية والقوميات

ولا يختلف الأمر مع الثورة الروسية، التي لم تكن مجرد ثورة، بل كانت لحظة ميلاد لبعض الأمم الحديثة، وانطلقت ثورة البلاشفة في الخامس والعشرين من شهر أكتوبر من عام 1917، وأسقطت حكم قيصر الإمبراطورية الأخير نيقولاي الثاني، ودشنت لمرحلة جديدة في التاريخ الروسي انتصرت فيها الشيوعية واستمرت طيلة 70 عاماً.

ورغم إرجاع المؤرخين انطلاق الثورة الروسية إلى الحرب العالمية الأولى، لكنها لم تكن العامل الوحيد، حيث يستحيل أن تقع الثورة دون توافر الحالة الثورية وعجز الطبقة الحاكمة لإدارة شئون البلاد، لذا فالحرب هنا عجلت من الثورة، التي شارك بها آلاف العمال، واشتعل بسببها الصراع بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي حتى وقتنا هذا.

ولمدة سبعين عامًا حكم الشيوعيون روسيا وأوروبا الشرقية ودول وسط آسيا، ورغم انتهاجهم بعض السياسيات “الغاشمة” تجاه معارضيهم، لكن لم يستمروا في حكم البلاد، حيث سقطوا مع سقوط جدار برلين عام 1989، واختفى الاتحاد السوفييتي من الخريطة السياسية، إلا أن معظم القوميات التي نواجهها في المنطقة اليوم هي إلى حد كبير نتيجة لهذه الدولة السوفييتية المتناقضة.

ويشير أستاذ العلوم السياسية، إلى أن الثورة الروسية رغم المآخذ عليها إلا أن أفكارها وأيديولوجياتها مازالت حاضرة وبقوة إلى وقتنا هذا، فالحرب الباردة بين الرأسمالية والاشتراكية لم تنتهي بعد إبعاد الشيوعيين عن حكم روسيا والبلاد المسيطرة عليها.

كما أن الثورة الروسية طافت جميع دول العالم من خلال الأحزاب الاشتراكية والأفكار اليسارية، ما دفعها لترك آثار بالغة على صياغة الأنظمة السياسية والاجتماعية لبعض الدول إلى الآن.

 إيران والإسلام السياسي

وبين الأول والحادي عشر من فبراير، تحتفل إيران كل عام بذكرى الثورة الإسلامية، التي انطلقت عام 1979، وتعتبر أيضًا أحد أكبر التحولات ليس في تاريخ إيران فحسب بل كان لها نتائج بعيدة المدى على العالم أجمع، حيث رسمت الجغرافيا السياسية على مدى العقود الثلاثة الماضية، وما زالت حتى يومنا هذا، كما غيرت سياسات الشرق الأوسط جملة وتفصيلاً.

ويرى مراقبون أن الثورة الإيرانية مازالت مشتعلة، إلا أن فهم أسبابها يرجعنا إلى الصراع المستمر والدائر إلى الآن بين مؤيدي العلمانية ونماذج الحكومات الإسلامية، فمع بداية القرن العشرين كان العالم الإسلامي بأكمله مستعمرًا من القوى الأوروبية، وهو ما دفع الشعوب المسلمة للكفاح لاستعادة استقلالها بقيادة النخب العلمانية الغربية في البداية.

ومع تسارع الأحداث بعد حرب الخليج وظهور تنظيم القاعدة، بجانب اشتعال الحرب الأيدلوجية والدينية الباردة بين إيران والمملكة العربية السعودية، ومشاركتهما في الصراعين السوري واليمني، يمكننا اعتبار 1979 عام حدوث الثورة الإيرانية بمثابة عام التحول الحقيقي للخريطة السياسية في المنطقة، بحسب موقع “History Extra البريطاني.

أما التأثير الآخر للثورة هو “إنعاش الإسلام السياسي في إطار شيعي” في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فأظهر النجاح الإيراني أن تأسيس دولة إسلامية ليس مجرد حلم، فقد كانت السيطرة على الغرب وملوكهم المتعاونين والديكتاتوريين والفوز ممكنًا.

خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي انتشرت أحزاب الإسلام السياسي في المنطقة، بهدف أسلمة المجتمعات باستخدام أدوات الدولة، فأعلنوا أن النموذج العلماني فشل في تحقيق التقدم والاستقلال التام، وأن البديل الوحيد هو النموذج الإسلامي، ورأوا أن الثورة الإيرانية هي دليل على إمكانية تحقيق الحلم”، بحسب “يوسف”.

بينما داخليًا، فقد حافظت إيران منذ ثورتها على الدولة وبقاءها ضمن حدودها الجغرافية، ما يعد أحد أهم مكتسباتها، بينما فشلت داخليًا في الوصول بالمجتمع إلى “الأسلمة المنشودة”، وإضفاء صبغة أهداف الثورة تعليميًا واقتصاديًا واجتماعيًا، بحسب مراقبين.