قبل أيام من بدء التصويت في انتخابات مجلس الشيوخ أجرى المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، الذي تترأسه وزيرة التضامن الاجتماعي، نيفين القباج، دراسة حول المجلس وانتخاباته، اعتمد فيها على استطلاع رأي شريحة من المواطنين عبر الهاتف تم اختيارهم وفق القواعد العلمية المتعارف عليها.

نتائج الدراسة كشفت أن أكثر من نصف المصريين لم يكن يعرفوا موعد انتخابات المجلس الجديد، الذي بُعث إلى الحياة مرة أخرى بفعل التعديلات التي أجريت على الدستور في 2019، فـ46.7% من العينة المستطلع رأيها فقط تعلم بقرب تشكيل «الشيوخ»، بينما أكد 64.2% من الشريحة أنهم لا يتابعون أخبار انتخابات المجلس الموقر، وإن 80.1% علموا من وسائل الإعلام أن المجلس دوره استشاري، بينما اعتقد 42.1% أنه مجلس خبراء وحكماء، فيما لم يعلم سوى 21.5% من العينة أنه غرفة ثانية للبرلمان.

وبحسب الدراسة فهناك 83.1% لا يعرفون عدد مَن سيختارون من أعضاء لتمثيل دوائرهم، وكذلك هناك 66.8% من العينة لا يعرفون الفرق بين النظام الفردي ونظام القائمة المطلقة، و71.4% يجهلون أن هناك نسبة الـ10% المخصصة للمرأة على الأقل.

ولم يعرف 68.3% من المستطلع رأيهم إذا كان تشكيل المجلس سيكون بالانتخاب أم التعيين، و26% يعلمون أنه يجمع بين الانتخاب والتعيين، و56.1 من الشريحة لا يعرفون الفارق بين مجلسي النواب والشيوخ، وتفاوتت نسب من يعرفون صلاحيات المجلس من 10.5% إلى 38.5%.

الفئة الأخيرة من العينة لها الحق، فالمجلس الجديد الذي أطلقوا عليه مجازا الغرفة الثانية للبرلمان لا يعدو كونه مجلس لـ«أخذ الرأي» فقط، فليس من حق هؤلاء الشيوخ أن يتدخلوا في أي تشريع بالرفض أو التعديل ولم يمنحهم القانون والدستور الحق في ممارسة أي دور رقابي على السلطة التنفيذية، هم إذا أعضاء في مجلس «ساكت»، حتى لو تحدثوا تحت قبته فكلامهم أيضا من النوع «الساكت»، ليحق فيهم قول الكاتب الساخر الراحل جلال عامر: «كلما رأيت مجلس الشورى، قلت في سري الموت علينا حق».

بعد أيام من الإعلان عن دراسة المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، دقت ساعة الحقيقة، لتتحول النسب إلى واقع لمسه كل من قرر متابعة ما يجري في اللجان، فالناخب الذي هو صاحب «العرس الديمقراطي»، غاب عن الفرح، وانتظرت صناديق الاقتراع على مدار يومين من يؤنس وحدتها ويشاركها فرحتها بـ«العرس»، ألا أن أحد لم يأت، اللهم عدد قليل ممن تم حشدهم بطرق الحشد المصرية المعروفة، حيث ظهرت «الكراتين» في عدد من الدوائر، كما ظهرت «بونات» البضائع في دوائر أخرى.

وفقا لبيان صادر عن المجلس القومي لحقوق الإنسان، فإن الأقبال على التصويت في انتخابات «الشيوخ» كان ضعيفا، كما رصد مراقبو المجلس عدد من المخالفات الانتخابية منها توجيه أنصار حزب «مستقبل وطن» للناخبين أمام عدد من الدوائر واستمرار الدعاية الانتخابية في دوائر أخرى، فضلا عن منع متابعي المجلس من دخول إحدى اللجان من قبل قوات الشرطة.

وبحسب شهادات العديد من الصحفيين والمراقبين الذين تمكنوا من متابعة «العرس»، فإن «العزوف الكبير» كان هو العنوان الذي من المفترض أن يتصدر صفحات الصحف لكنه غاب بفعل فاعل كما نعلم جميعا، وباستثناء عدد من الدوائر التي تتحكم فيها العصبية القبلية في الصعيد والتي شهدت إقبالا ضعيفا، فأن باقي اللجان كانت خاوية على عروشها.

أحد الصحفيين الذين تابعوا العملية الانتخابية، نشر كشفا لتجميع أصوات اللجان الفرعية بدائرة المنيا، مستندا إلى فيديو تم تصويره لرئيس اللجنة العامة بالمحافظة، الأرقام كانت كاشفة، فعدد الناخبين المقيدين في قاعدة بيانات الناخبين 3 مليون ونصف ناخب تقريبا، وعدد من أدلى بأصواتهم نحو 294 ألف ناخب، وبلغت الأصوات الباطلة 59 ألف صوت، والأصوات الصحيحة 234 ألف صوت، أي أن نسبة من توجهوا من الناخبين إلى صناديق الاقتراع لم يزد عن 8.5%، فيما لم تتعدى الأصوات الصحيحة نسبة الـ7%، في محافظة معروفة بتدخل التربيطات والعصبيات القبلية في العملية الانتخابية.

وفي محافظة سوهاج، ووفقا لكشف تجميع أصوات اللجان الفرعية، الذي نشره زميل صحفي آخر، فأن عدد الناخبين المقيدين في قاعدة بيانات الناخبين 3 مليون و61 ألف ناخب، شارك منهم 378132 ناخب، وبلغت عدد الأصوات الصحيحة 302190 ناخب فيما قرر نحو 76 ألف ناخب إبطال أصواتهم، بما يعني أن عدد من شاركوا في العملية الانتخابية ومنحوا أصواتهم للمرشحين يتراوح أيضا حول 10%، وهي مؤشرات لها دلالة في دائرة أكثر عصبية من سابقتها.

المؤشرات التي تم نشرها من دوائر أخرى في الصعيد لا تختلف كثير عن الدائرتين السابقتين، أما في العاصمة والحضر والوجه البحري، فالنسب أقل بحسب ما نقل من لجان قبل أن تصدر الهيئة الوطنية للانتخابات بيانها بحظر الإعلان عن نتائج أو مؤشرات الانتخابات، بالرغم من أن القانون سمح لوسائل الإعلام حضور الفرز وإعلان الحصر العددي للنتائج بما لا يخل بسير العمل بتلك اللجان، وبالرغم من أن معظم الاستحقاقات الانتخابية التي جرت بعد ثورة 25 يناير 2011 كانت وقائع فرزها تجري على الهواء مباشرة كدليل على الشفافية والنزاهة وعدم تدخل أحد في النتائج.

على أي حال، وبغض النظر عن النتائج الرسمية التي من المتوقع أن تعلنها الهيئة الوطنية للانتخابات بعد ساعات من كتابة تلك السطور، فإن كل الدلائل تشير إلى أن المواطن الذي هو صاحب «العرس الديمقراطي»، غاب عن تلك الانتخابات، ليس عن تقصير في أداء الواجب أو قلة وعي، بل عن وعي كامل بعدم جدية ما يجري، ولاقتناعه التام بأن هذا المجلس بلا صلاحيات، وبأن العملية كلها مسرحية عبثية أولى به آلا يشارك فيها.

الانتخابات في الدول الديمقراطية هي: «الإجراء الذي يعبر به المواطنين عن إراداتهم ورغبتهم في اختيار حكامهم ونوابهم البرلمانين، يشارك فيها حزبان على الأقلّ، أو مرشّحان على الأقلّ، ليتسنى للمواطن الاختيار من بين البدائل المعروضة أمامه»، وفي استحقاق «الشيوخ» الأخير، أطمئن المواطن إلى أن ما يجري أمام ليس إجراء ديمقراطي، فالنتيجة حسمت سلفا على ثلث المقاعد لصالح قائمة واحدة لم يشارك في الانتخابات سواها، ويعلم الجميع كيف تم تشكيلها واختيار واعتماد أعضائها.

أما في دوائر الفردي الـ100، لم يقدم المرشحون عليها (787 مرشحا)، للناخب برامج أو أفكار تعبر عنهم وعن توجهاتهم، ولم يتنافسوا سوى في تأييد السلطة الحاكمة، فلم يستمع المواطن في أي منصة إعلامية لوجهة نظر السادة المرشحين في المشاكل التي تقلقه مثل سد النهضة أو ارتفاع الأسعار أو مخالفات البناء أو غيرها، ولم يلحظ أي تباين بينهم حتى في الشعارات التي تصدرت لافتاتهم، وبدا أن هؤلاء المرشحين لم يحاولوا بذل أي جهد لإقناع الناخب بهم، فهم يعلمون تماما أن هذا المواطن هو الحلقة الأضعف في طريق وصولهم إلى قاعة المجلس، لذا سعى معظمهم مبكرا إلى جهة الاعتماد الأصيلة «مجلس تشخيص النظام المصري» الذي يسمح ويمنع ويهندس المشهد بالكامل.

وكشف ما جرى أن مهندس العملية الانتخابية لم يكن معنيا في الاستحقاق الأخير بإخراج صورة «تبهر العالم» كما اعتدنا في المرات السابقة، فالعالم انبهر بما يكفي، لذا قررنا التوقف عن إبهاره قبل أن يصاب بالتخمة، أصر الرجل أن تمر الانتخابات «ساكتة»، بلا مشاحنات أو منافسات أو معارك مصنوعة، وهدفه أن ينسى الناس مع الوقت زخم الانتخابات ويرضون بالواقع الجديد، الذي ستحل فيه الأجهزة محل الناخبين، ويصبح الأصل هو اختيار النواب بدلا من «وجع دماغ» الانتخاب.

ما جرى في انتخابات مجلس الشيوخ الموقر، هو بروفة لما سيجري في انتخابات جاره الموقر أيضا نهاية العام الجاري، فمن أدار العملية الانتخابية الحالية هو من سيدير انتخابات مجلس النواب، والمعطيات كما هي، فلا يتوقع أحد أي نتائج مختلفة، وستكون المحصلة «مجلس آخر على مقاس السلطة، ونواب تفصيل يمررون ما يحال إليهم من تشريعات، ويبصمون على برنامج الحكومة والموازنة العامة وغيرها من أمور»، لينتهي الأمر إلى موت كل مظهر يحمل شبة سياسة في هذا البلد.