يرفض الكثير من المصريين العائدين من الدول العربية البقاء في الوطن، فغالبيتهم يرون أن أزمة كورونا فرصة لالتقاط الأنفاس، ومحطة لإعادة الانطلاق للخارج من جديد سواء في البلدان التي عادوا منها أو دول أخرى حتى التي تعاني مشكلات أمنية، وتوشك على الاستقرار.
يقول أحمد محمود، مدرس عائد من الكويت، إنه رغم الأزمة التي واجهها في سبيل العودة في ظل أزمة كورونا، لكنّه سيعود حال سماح السلطات السعودية فالراتب الشهري الذي يحصل عليه في الخارج، يعادل دخل عام كامل في مصر.
وكان عددًا كبيرًا من المعلمين المصريين، قد دخلوا قبل شهور في احتجاج بعد التحفظ عليهم في مراكز إيواء ودخلوا في إضراب عن الطعام، بسبب تجاهل الحكومة المصرية مطالبهم بالعودة إلى بلدهم في وقت استقبلت فيه باقي الدول رعاياها، على حد قولهم حينها.
المعلم المصري لا يتجاوز راتبه بعد 15 عامًا من الخدمة 3 آلاف جنيه
يضيف “محمود” أن أسرته التي تعيش في مصر اعتادت على دخل معين وألحق أبنائه في جامعات أجنبية، وبالتالي لن يتحملوا تغيير واقعهم، وحال رفض السلطات الكويتية العودة، فسيبحث عن فرصة في أي مكان آخر حتى لو كانت ليبيا.
ضعف الرواتب مشكلة أمام العمالة المصرية
تظل الرواتب الضعيفة مشكلة أساسية أمام العمالة المصرية والتي كانت سببًا في هجرة الكثير منهم للخارج، والسبب أيضًا في رفضهم البقاء، فالمعلم المصري لا يتجاوز راتبه بعد 15 عامًا من الخدمة 3 آلاف جنيه، ويصل من يعادله في العمر ببعض الدول الخليجية إلى 35 ألفًا.
تتكرر المشكلة ذاتها مع الأطباء خاصة العاملين بالمراكز الريفية عدم وجود حافز قوى يدفعهم للاستمرار في العمل داخل مصر، وعدم تقديم بدل عدوى مناسب، وتزايد حالات الاعتداء عليهم بالمستشفيات وبيئة العمل غير المؤهلة.
الأكاديميين الذين هاجروا للخارج 86 ألفًا
تقول هدى صلاح، أخصائية حديثي الولادة، إن الطبيب بمصر يتخرج على عمر 24 عامًا ويبدأ العمل فعليا في عمر 30 عامًا بعد الدراسات العليا ذات التكاليف المرتفعة، وحال رغبته في تحسين دخله بصورة مؤتقة والسًفر ترفض الوزارة حصوله على إجازة دون مرتب، فيضطر للسفر للخارج حتى ينبي نفسه ويتزوج.
تضيف “هدى” التي سافرت مع زوجها بالإمارات، إن العمل في مصر محفوف بالمخاطر فتعرضت أكثر من مرة للخطر، بسبب اقتحام أهالي المرضي الذين يفارقوا الحياة المستشفيات وتدميرهم أبوابها الزجاجية والاعتداء على العالمين كما لو كانوا السبب دائمًا في الوفاة، والحكومة لم تستجب لمطالبهم بتوفير تأمين من وزارة الداخلية أسوة بالبنوك وفروعها التي تتضمن حارس أمني لا يفارقها ليل نهار.
معاناة الأكاديميين
ويتكرر الأمر ذاتهم مع الأكاديميين الذين يبلغ من هاجر منهم للخارج حاليًا نحو 86 ألفًا، طبقًا لبيانات اتحاد المصريين بالخارج ليتجاوز عدد من يعمل بالداخل بنحو 71 ألفًا، طبقا لإحصائية صدرت عن وزارة التعليم العالي، ويعانون ضعفًا شديدًا في الرواتب، وغياب البيئة التي تشجعهم على العمل.
يضطر الباحثون في الكليات العملية إلى شراء الكثير من المواد الخام والكيماويات على حسابهم الخاص في ظل ضعف المخصصات المالية الموجهة لذلك الغرض، بجانب معاناتهم من غياب بعض الأجهزة المعملية وتقادم أخرى، ما يحول دون إتمام مشاريعهم البحثية ويدفع بهم للخارج.
وتكشف روابط أعضاء هيئة تدريس الجامعات عن واقع مذرًا، مع تدني الرواتب لأعضاء هيئة التدريس والهيئة المعاونة، والتي وضع جدولها منذ عام 1972 وتحتوي على قيم محاسبية بالقرش، ولا تزال كما هي حتى الآن، حتى أن معاش الأستاذ الجامعي في بعض الجامعات الإقليمية لا يتجاوز 2000 جنيه رغم قضائه في الخدمة قرابة 40 عامًا.
ارتفاع تكلفة المعيشة في مصر يجعل من الصعب على الأكاديميين العيش بمرتباتهم
ويقول الدكتور “م. ع”، العائد لتوه من هولندا، إن كثير من الباحثين المصريين يضطرون للعودة بعد حصولهم على درجة الماجستير في الخارج فأبحاثهم لا يمكن تطبيقها محليًا لضعف الإمكانيات وحقد وسيطرة الأكبر سنًا الذين يعرقلون التطوير، ويكون أمامه خيارا من اثنين إما البقاء في الداخل والإنفاق من جيبه الخاص أو مخاطبة زملائه في الخارج ليبحثوا له عن فرصة دائمة والهجرة.
علماء مصر غاضبون
وقبل عام، أطلق أساتذة جامعيون في مصر هاشتاج بعنوان “علماء مصر غاضبون”، بتعديل اللوائح القانونية وبزيادة أجورهم بشكل يتناسب مع دورهم العلمي، ومكانتهم الاجتماعية.
ويقول “م.ع” إنه لا يفكر في البقاء بمصر فالخارجي يمثل له الحلم والأمل في مستقبل علمي وتحقيق الذات، ومساحات أوسع للنشر في مجلات علمية ذات تصنيف مرتفع وخدمة الهدف الأساسي لأي باحث وهو خدمة العلم والبشرية في المقام الأول، ولو توفرت تلك المتطلبات في مصر فلن يفكر دقيقة في مغادرتها.
وتمثل قصة الدكتور أحمد إبراهيم، بمركز البحوث الزراعية، مثالاً لما يعانونه وبالفرص الواعدة الذي يمثله الخارج، فالباحث تعرض لعدوى بكتيرية في المعلم خلال محاولته عزلها، وترك أسرة مكونة من 3 أشخاص بمعاش يقل عن ألف جنيه، لا تكفيهم لمواجهة أعباء الحياة.
وأكد الدكتور مصطفى كامل السيد، أستاذ العلوم السياسية، في تصريحات أخيرًا، أن ارتفاع تكلفة المعيشة في مصر يجعل من الصعب على الأكاديميين العيش بمرتباتهم فمرتبات أعضاء هيئة التدريس تتراوح من ثلاثة آلاف إلى تسعة آلاف، بدءًا من المعيدين مرورًا بالمدرسين والأساتذة المساعدين ما يجعل التدريس في الجامعة بمصر مهنة لا تجتذب الكثيرين من الخريجين النابهين.
ويضيف أن الهجرة إلى بلاد النفط فرصة للتعويض عن ضآلة المرتبات في مصر، ووسيلة لتكوين المدخرات التي تساعد في شراء شقة لائقة أو تحمل نفقات تعليم الأولاد والبنات، ولكن تتطاير هذه المدخرات بعد شهور أو سنوات قليلة من العودة للوطن، وتثور الحاجة للهجرة من جديد، أو يتحايل عضو هيئة التدريس الجامعي المصري لإطالة فترة تواجده في بلاد المهجر، ولكنه في الغالب يدفع ثمنا غاليا لذلك، من العيش بعيدًا عن الأسرة، أو تحوله إلى إنسان همه الأساسي هو اكتناز المال.