الجميع يحن إلى الماضي، والبعض يحن إلى الجلاد، لكن هناك من يحن إلى زمن الاحتلال، حينما كانت بلاده يديرها مندوبون ولوردات، يُصدرون الفرمانات ويعتقلون المُناضلين، ويضعون اقتصادها تحت إمرتهم، ربما يبدو هذا مختلفًا في زمننا، لكن قطاعًا من اللبنانيين يرون أن بلادهم تحت إمرة الاحتلال الفرنسي ستكون أفضل كثيرًا من حُكم المذهب أو الطائف، كما يُطلقون عليه، وذلك على خلفية تفجيرات مرفأ بيروت.

دافع بعض اللبنانيين، من خلال العريضة التي وقع عليها حوالي 50 ألف مواطنًا لعودة الانتداب الفرنسي، على هامش زيارة الرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون للعاصمة بيروت، عن طرحهم باعتبار أن بلادهم لن تنجو من الطائفية والفساد بدون قوى خارجية تعلم القاصي والداني عن الطبيعة اللبنانية، وعزا آخرون شرعية مطلبهم إلى أن بلادهم كانت أفضل على مستوى الاقتصاد في عشرينيات القرن الماضي حينما كانت لبنان تحت سيطرة فرنسا.

لبنان في عهد الاحتلال الفرنسي

بحسب دراسة “المجتمع اللبناني في ظل الانتداب الفرنسي” للباحثتين أسماء كتروسي وسناء عمران، بجامعة الجيلالي الجزائرية، فإن فرنسا سعت لتقوية لبنان وإضعاف سوريا نظرًا للتكتل المسيحي الأكبر في لبنان بالمقارنة مع الأعداد المسيحية في سوريا، ما دفعها لاعتبار الطائفة الدينية في لبنان وحدة اجتماعية ذات شخصية قانونية.

إعلان الجنرال غوروا مرسوم عام 1920 أكسب لبنان مكاسب عديدة أبرزها زيادة مساحتها لتصبح 10452 كيلو مترا مربعا، ما تبعها من مساحات زراعية ومرافئ بحرية كبرى ومواقع آثرية هامة، ناهيك عن ارتفاع تعداد سكانها من 414 ألف مواطن إلى 628 ألف مواطن.

عاشت لبنان خلال هذه الفترة، نظام الحكم يتصدره مفوض سامي فرنسي يمثل لبنان خارجيًا وله صلاحيات كبرى، بينما كانوا معاونيه فرنسيين أيضًا، بالإضافة إلى المجالس التمثيلية التي مرت بعدة مراحل بدأت بالتعيين ثم توزيع المقاعد وفقًا للنسبة الطائفية، وفي عام 1925 شهدت لبنان أول مجلس منتخب وهو ما عرف بعد ذلك باسم مجلس الشعب، الذي هيأ الطريق إعلان الدستور عام 1926 والذي حول دولة لبنان إلى جمهورية برلمانية يقوم على سلطات ثلاثة قبل ان يتم إلغاء مجلس الشيوخ في 1927 وبقيت السلطة التشريعية في يد مجلس الشعب.

الحياة في عهد الاحتلال، لم تكن وردية كما يظن أصحاب الدعوات، فالموظفون الفرنسيون تولوا إدارة الحُكم المحلي من خلال 15 ألف فرنسيًا، بينما عانى اللبنانيون حاملوا الشهادات العُليا من البطالة خلال هذه الفترة، كما لم يخل هذا العهد من الطائفية، حيث أن التعليم العالي اقتصر على جامعتي اليسوعية والأمريكية وهم لأبناء الأغنياء، بينما اقتصرت المدارس التكميلية على 3 مدارس فقط، وأصبحت نسبة التعليم الرسمي أقل من ثلث الشعب، بينما بلغت نسبة الأمية 40%.

نجحت فرنسا، في تطوير لبنان على المستوى الاقتصادي، فنمى الاقتصاد اللبناني في تلك الفترة، وارتفعت قيمة الصادرات من 7 مليون فرنك عام 1921 إلى 892 مليون فرنك عام 1938، فيما ارتفعت الواردات من 600 مليون فرنك 1687 مليون فرنك عام 1938، كما عرفت الفترة ما بين 1931 إلى 1937 تحقيق أكبر قدر من الاكتفاء الذاتي في السلة المصنعة وتصدير كميات منها، وهو ما يعكس التطور التي حل على لبنان رغم من السياسات التي كانت يرفضها البعض.

يتمسك البعض، الآن، بأن الانتداب الفرنسي كان وسيلة لتقدم لبنان، من حيث الاقتصاد ووضع دستور ورؤية لإدارة البلاد وتحسن الخدمات العامة والصحة والأمن والعدالة، لذا ترى اللبنانية إليان حكيم أن “حكم الاستعمار أرحم بكثير من الاستحمار”، في إشارة إلى الطريقة التي تُدار بها بلادها تحت حكم الرئيس ميشيل عون والتقسيمة المذهبية التي تتحكم في مقاليد الحكم منذ عقود طويلة.

ماكرون في لبنان
ماكرون في لبنان

استطلاع.. أيهما أفضل العودة إلى المحتل أم مكافحة الفساد؟

تضيف “حكيم”، أن حكم الاستعمار رغم قساوته في انتهاك ثروات الشعوب وغل إرادتها السياسية، لكن ضربته بالنسبة لها ستكون أهون من السياسيين الذين يتنازعون على دماء الشعب، فالمستعمر سيعامل اللبنانيين بشكل أثر رحمة وإنسانية من الطريقة التي يعاملون بها الآن تحت حكم المذهب.

توضح “حكيم”، وهي امرأة أربعينية تعيش في بيروت: “الاستعمار لن يفرق في المعاملة ولن يركز في اسمك أو مذهبك ولن ينسبوك لحزب معين فأنت بالنسبة لهم لبناني ولا مكان للطائفية في وطن يحكمه مستعمر عادل”.

تبدو وجهة نظرها صادمة لكنها رائجة بين قطاع من اللبنانيين، الذي فقدوا ثقتهم في الحكومات السنية- الشيعية، وهو ما يتبناه أيضا المدون اللبناني جين إلياس، الذي يرى أن فرنسا تعلب دور الأم الحنون مع لبنان في أزماتها.

يوضح إلياس بقوله: “لمواقف فرنسا نقدر قدوم الرئيس ماكرون إلى لبنان، فرنسا أعظم دولة وهي الوحيدة تحب لبنان نحن كشعب لبناني نتمنى عودة فرنسا إلى لبنان لتخلصه من الاحتلال المذهبي الطائفي”.

دعوات خيالية

لكن الصحافية اللبنانية، باسكال صوما، لا تأخذ دعوات الانتداب الفرنسي على محمل الجد، وتراها ليست جدية أو قائمة على فكر معين بل خيالية وصعبة الحدوث، ففرنسا لا تريد انتداب لبنان ولا لبنان يريد العودة للوراء.

تقول صوما، أن اللبنانيين استقبلوا ماكرون بحرارة للتعبير عن غياب دولتهم والاستغاثة به من ظلم وفساد حكامهم، مستبعدة تفكير فرنسا ماكرون في تبني أفكار ممن وقعوا على عراض عودة الاحتلال الفرنسي إلى لبنان من جديد، فهي تسعى منذ عشرات السنين إلى الحفاظ على دورها الهام والتاريخي في لبنان والشرق الأوسط، ومصالحها المستمرة في المتوسط من ليبيا إلى لبنان، فهي فقط تريد أن يبقى لها مكانة متفردة في السياسة والقرار السياسي لبيروت باعتبارها أهم مدينة كوزموبوليتانية في الشرق الأوسط.

وذكرت أنه يوجد حاليًا توجه إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية مستقلة بعد استقالة حكومة حسان دياب استجابة إلى مطالب ماكرون، لكن لا نعرف من سيطبق ذلك، لأن أمريكا لا تريد حزب الله في الحكومة الموحدة، كما أن الاستقالات مستمرة من جميع جهات الدولة، مؤكدة أن حكومة الوحدة الوطنية محاولة لملمة كارثة الانفجار وغضب الشارع.

ماكرون في بيروت
ماكرون في بيروت

فساد الحكومات واستدعاء الاحتلال

يُفسر الكاتب اللبناني أحمد عيساوي حنين قطاع من أبناء بلده إلى عودة الانتداب الفرنسي من جديد بسبب طفحهم الكيل من فساد الحكومات، حيث وصف زيارة ماكرون الأخيرة بأنها زيارة فاضحةً لكل العطب الذي تعاني منه الدولة في لبنان، وكانت كاشفة لحجم السفالة التي يتمتع بها الحكام.

ويشير إلى أن دعوات اللبنانيين ما هي إلا استجابة أو انحياز عاطفي مؤقت تجاه الرئيس الفرنسي، بعدما تُرك الشعب اللبناني وحيدا في عاصمته المدمرة ولم يجد إلا مسؤولا غربيا يربت على كتفه ويمسح دموعه، لكن الكل يعلم أن لبنان عصية على الاحتلال في هذا التوقيت.

ويضيف عيساوي: “ماكرون وجد نفسه رئيسا لشعب من دون رئيس ولا حكومة ولا نواب ولا جمهورية. شعب يبحث عن ممكنات دولة وجد ضالته في رئيس يخوض معارك شرسة سياسية واقتصادية مع خصومه في فرنسا وأوروبا”.