بعد مرور 20 عامًا عليها، استرجع صحافيًا، قصة كان شاهدً عليها، وتدور أحداثها حول حلم إثيوبيا ببناء سد النهضة، ليكشف كواليس حديث دار بينه وبين رئيس الوزراء الإثيوبي الأسبق ميليس زيناوي، والذي أكد له حلم إثيوبيا ببناء سد عملاق على نهر النيل، وكيف كانت ردة فعل الرئيس المصري الراحل حسني مبارك على ذلك وماذا فعل بعدها.

قبل أكثر من 20 عامًا، التقى أنور العنسي، الصحفي في “BBC” عربي، مع الرئيس الإثيوبي السابق ميليس زيناوي، ويسترجع “العنسي”، في المقال الذي نشرته الصحيفة، ذكريات اللقاء، الذي تناول الحديث حول طموح إقامة سد عملاق على نهر النيل، وأثار هذا الحديث اهتمام الرئيس المصري السابق حسني مبارك، كما سعى الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح إلى الوساطة بين مصر وإثيوبيا لتسوية الخلاف حول موارد المياه في بداياته:
بعد سنواتٍ من مغادرتي العمل الحكومي في اليمن، عام 1997 التقيت “ميليس زيناوي” رئيس الوزراء الإثيوبي الأسبق لمرات ومناسبات عدة، في جبهات، أو في مؤتمرات، وفي إحداها أجريت معه حديثاً لإحدى القنوات وكان هو الأول الذي يدلي به الرجل لوسيلة إعلام عربية.

سد النهضة
سد النهضة

بدا أنه كان في حاجة للتوجه بذلك الحديث إلى العالم العربي بعد فترات يأس طويلة في التفاهم مع معظم العرب.
سألته عن سبب التوتر في علاقة بلاده مع مصر، فكان رده “بل قل مع العرب جميعًا”.
كان ميليس زيناوي، رجلاً متواضع الجسد ومتقد العقل، جريئاً في مواقفه، كان يدير أمور ثمانين مليون إنسان في بلده، يعانون المجاعة والمرض والصراعات العرقية ، وفي نفس الوقت يعد خططاً إنمائية طموحة تستوعب التطور لمائة سنة على الأقل ، بدءاً بمشاريع بنية تحتية ومطار حديث لعاصمة البلاد يتوفر على كل المعايير الدولية لبوابة كبرى بين إفريقيا والعالم ، وسدٍ عملاق يستثمر أغنى موارد هذا البلد الذي ظل في رأيه مغلوباً على أمره.وفوق هذا وذاك كان زيناوي، مصراً على إكمال رسالة الماجستير في الاقتصاد ، في إحدى الجامعات الألمانية ، كان يتحدث بإنجليزية شكسبيرية .. لا أدري كيف تعلمها وهو في مخيمات القتال ضد نظام الديكتاتور الماركسي الراحل “منجستو هيلا مريام” بل كان في أحاديثه يغرف من ذاكرة ثرية بالمعلومات والصور.
لكن الأخطر في كل ما كان يفكر فيه ميليس كان حل مشكلة الخلل في التوازن البيئي بين الشمال الغربي الغزير المطر في بلاده وإقليم “أوجادين” المتصحر الفقير في جنوبها الصومالي الشرقي.
قال إن الأمطار الغزيرة في شمال غرب البلاد الجبلي تتلف أغلب محاصيل المزارعين البسطاء ، ولا يستفيدون من مناسيبها العالية، بينما لم تكن تسقط على رمال أوجادين الظمأى قطرة مطر واحدة.
وفي أثناء الحديث أومأ زيناوي، إلى أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر ، وتساءل: “كيف يمكن لإثيوبيا التى تنتج 85% من مياه نهر النيل أن لا تنتفع بأكثر من 1% من الفوائد المتاحة؟”.
وقال زيناوي: “اذهب إلى مدينة بحر دار قف على بحيرة تانا، ثم اشرح لي كيف يمكن لزعيمٍ إثيوبي أن يرى نهراً عظيماً كالنيل ينزع في كل موسمٍ جزءاً حميماً من روح بلاده ماءً وتراباً وطمياً دون أن تستفيد بقطرة واحدة”!

الرئيس الإثيوبي السابق ميليس زيناوي
الرئيس الإثيوبي السابق ميليس زيناوي

لم يُذع اللقاء كما تم تسجيله كاملاً ، ربما بسبب سياسة القناة حينذاك ، لكن الرسالة وصلت واضحة تماماً لرئيس مصر الراحل حسني مبارك الذي وجّه دعوةً فورية لزيناوي للقائه في شرم الشيخ.
عرفت بعد ذلك من مصادر متطابقة أن نقاشاً طويلاً دار وجرت فيه مكاشفة بين الرجلين ، وعندما كنت برفقة الرئيس الراحل علي عبدالله صالح إلى مصر لمحني الرئيس مبارك بين زملائي المرافقين لصالح ، ثم تقدم مني بهدوء ، وسحب يدي ، وسألني ” إزاي عرفت توصل للراجل ده؟ الناس دول غامضين ” فكان أن أجبته بـ “نحن لا نحاول أن نفهم إخوتنا في إفريقيا ، يجب أن نعيد تقييم علاقتنا بهذه القارة” ثم تركني ومضى عندما لم تعجبه إجابتي رغم أنه نظر إلى عينيَّ باهتمام.
شعرت بعد هذا الحديث المقتضب أن الرجلين لم يتوافقا على شيئ.
ثم سعى علي عبد الله صالح على في ذلك الوقت إلى إتمام صفقة “تاريخية” بين مصر وإثيوبيا حول الاستفادة من مياه النيل ، لكنه في نظر كثير من المسؤولين في إثيوبيا لم يكن شخصاً محايداً بسبب موقفه الملتبس تجاه الحرب بين إثيوبيا وإريتريا وعلاقته برئيسها “أسياس أفورقي”.

وبطلب من الرئيس صالح أجريت اتصالات بموظفين كبار في حكومة زيناوي وبزيناوي نفسه الذي رحب لاحقاً بزيارة صالح لأديس أبابا بعدما أقنعته بأن صالح يرتبط بعلاقة وثيقة مع مبارك.

مبارك
مبارك

زار صالح أديس أبابا، وأعتقد أنه نجح في إقناع الإثيوبيين بإبطاء خطط بناء السد إلى حين التوصل إلى إتفاق ، لكن أحداثاً جرت بعد ذلك قللت من اتصالات القادة الثلاثة ، وفوتت فرص الاستفادة من ذلك الزخم ، ومضى الإثيوبيون في مشروعهم حين لم يتلقوا عرضاً بتعويض يغنيهم عن بناء السد.